15 نوفمبر، 2024 1:18 م
Search
Close this search box.

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (5) .. مواقع التواصل الاجتماعي توئد ذاكرة الشعوب !

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (5) .. مواقع التواصل الاجتماعي توئد ذاكرة الشعوب !

خاص : كتب – محمد البسفي :

.. ويستمر تلويث وجه التاريخ بالترقيع والتجميل.. وبنفس الأصباغ والألوان العتيقة…

مساحيق العولمة لخلق تأريخ موجَه..

برغم مرور كل تلك الحقب والسنوات على ذلك الجدل وتلك المساجلات، التي أستغرقت وقتًا طويلًا في الوسط الثقافي والصحافي المصري والعربي، تم خلاله قفزات تكنولوجية هائلة بما ساقته من تطور شامل في وسائل الاتصال والإعلام، والتي برغم تقدمها التقني إلا وإن أدعائها بـ”التقدم” و”التطوير” على المستوى الفكري مازال إدعاءً محل شك بل إنه إدعاء كاذب.. وذلك بما تحرص عليه “العولمة الثقافية” تلك – بأدواتها التقنية المتطورة – من ترسيخ نفس الأفكار القديمة وربما بنفس الآليات في كثير من الأحيان، في تناولها الحقب والوقائع التأريخية بمنهجية “تفكيكية”، ليس لأغراض البحث العلمي المنهجي القائم على إستجلاء الحقائق وتصحيح الحوادث واستخلاص مشاهد وصور تأريخية موثقة ومثبتة علميًا، وإنما تسولًا لأهتمام شعبوي أكبر يمهد لتزييف الوعي المجتمعي في إتجاه المصالح الرأسمالية العالمية.

انتشرت في الآونة الأخيرة، وخاصة في وقت واكب الانتفاضات الشعبية التي عمت دول العالم العربي والثالث وبعضًا من الدول المتقدمة بما أصطلح عليه إعلاميًا بـ”الربيع العربي”، بعض الصفحات والمدونات على نوافذ “السوشيال ميديا”؛ وخاصة على موقع (فيس بوك) الذي ظهرت عليه أعداد لا يستهان بها من الصفحات والمجموعات، “الكروبات”، مستغلة الزخم الشعبي والشبابي الذي بدأ في هذا الوقت، محاولة إعادة صياغة وتأريخ بعض الوقائع والحوادث التأريخية بشكل موجه وبأساليب شعبوية مٌبتزة ومغذية لنداء ثوري برفض الدولة الدينية أو العسكرية، تستهدف التسطيح الفكري واستخفاف العقول، وتغييب الوعي الجمعي.

وقد بدأت تتسلل تلك الصفحات على الـ (فيس بوك)، داخل المشهد الثقافي المصري، منذ العام 2012 تقريبًا، بصفحة عامة حملت اسم صحافي مصري كبير وهو، الأستاذ “عادل حمودة”، الذي أشتهر بمفاخرته الدائمة بصلاته الشخصية مع الأجهزة السيادية والأمنية المصرية، تعمدت تلك الصفحة التذكير بالعهد الملكي المصري وتجميل وجهه بمحاولاتها إعادة رواية بعض الراويات التاريخية الشهيرة بعد تعديلها وتنقيحها ممجدة في العهد الفاروقي الليبرالي بما أرسى من قيم ديمقراطية وما خلف من ارتفاع في مؤشرات التنمية والرفاهية؛ نفس ما أصبغته على العصر الساداتي !

لتنتشر وتتعدد تلك الصفحات تحت مسميات متنوعة، ولكن جميعها بأسلوب ومنهج واحد؛ وهو تمجيد وتجميل كافة عهود الحكم السابقة، وخاصة حكم العائلة المالكة لدرجة تمادت معها بعض تلك المدونات إلى المطالبة بعودة عهد أسرة “محمد علي باشا” (!)، مع عدم إغفال الإعلان المستمر عن بيع بعض المخطوطات أو الكتب النادرة أو بعض التحف والمقتنيات الخاصة بهذه الفترة، لتنقلب التوعية الثقافية والتأريخية التي يصدرها مديرو تلك الصفحات إلى “بيزنس” مفضوح.. بالإضافة إلى شيطنة ولعنة العهد الناصري، ليس من منطلق رفض الاستبداد السياسي أو للأخطاء الموضوعية والمنهجية التي شابت نظرته الاجتماعية؛ ولكنها تصر على تشويه مشروعاته التنموية والصناعية ومشروعه الاجتماعي وإنتمائه الطبقي وسياساته الخارجية التي ناصرت التحرر الوطني وكافحت الاستعمار..

وما يحدث داخل الأوساط الثقافية والاجتماعية المصرية حاليًا، يحدث بشكل يلفت النظر، من فرط منهجيته وتنظيمه داخل الأوساط الثقافية العربية عمومًا؛ فنجد صفحات تمجيد تاريخ “نوري السعيد” والعائلة الهاشمية بالعراق والعائلة السنوسية بليبيا كمثال، وقد ساعد في انتشار وإنشاء تلك الصفحات والمدونات وهيمنتها على وسائل الإعلام الاجتماعي والمواقع الصحافية، ما يقوم به دعاة الفكر الليبرالي، بجانب مروجي الفكر الإسلاموي بالطبع، بتسطيح الفكر الجمعي معتمدين على استبعاد الصراع الاجتماعي وتهميشه وإنكار الإيديولوجيات وإعلان موتها وبالتالي تغييب كافة المشكلات الاجتماعية وردها إلى مسببات سياسية ضيقة.

ومن أشهر صفحات الـ (فيس بوك) التي تقوم على هذا اللون من التزييف التأريخي الآن، صفحة بعنوان (بوليني أوديون) – وهو الاسم اليهودي للفنانة المصرية الراحلة “نجمة إبراهيم” قبل إشهار إسلامها (!) – والتي نشرت تحت عنوان: (تاريخ آخر للسد العالي)؛ مقال مطول أستهلته بقولها عن “عبدالناصر”: “قالوا أنه فتش في أدراج وزارة الأشغال، فعثر على مشروع السد العالي، وهو مشروع ثار حوله جدل وبحث بين المهندسين المصريين والعالميين، فلما تبينت أخطاره صرف عنه النظر، وأهمل شأنه، ونذكر أن المرحوم المهندس العالمي “عبدالعزيز أحمد” عندما عارض المشروع عزل عن وظيفته، ونفي من مصر، فألقى محاضراته القيمة عن هذا المشروع في لندن، وتلقفتها كل كليات العالم الهندسية وأودعتها مكتباتها، ولم تجرؤ جامعة ولا صحيفة في مصر أن تشير حتى ولو من طرف خفي إلى هذه المحاضرات… وكذلك اعترض المهندس “علي فتحي”، عميد كلية الهندسة بجامعة القاهرة، فكان جزاؤه أن أبعد عن المجال الهندسي بأسره وعين رئيسًا لفرع من فروع “باتا”، الشركة المختصة بصناعة الأحذية، ولا يدري أحد ما العلاقة بين علم الهندسة وبين علم صناعة الأحذية..”، وبقية المقال لا يقدم كلمة واحدة أو وثيقة تثبت تلك المعلومات، وإنما أستغرقت المقال على طوله بعض المقتطفات التي نشرت في جريدتي (الأهرام) و(الأخبار) في عام 1974 من أخبار ومقالات رأي تهاجم مشروع “السد العالي” و”عبدالناصر”.

وتحت عنوان آخر؛ وهو (حقائق مصرية غائبة) نشرت صفحة (بوليني أوديون) مقال للأستاذ “إيهاب حسن”؛ وهو عبارة عن تحليل كاريكاتوري في سطحيته؛ مستعرضًا فترة حكم أسرة “محمد علي” الذي أكد الكاتب على أنه: “لم تشهد مصر نهضة وتطور في التاريخ الحديث مثل ما حدث في عهده وعهد أسرته حتى الملك فاروق الأول”، مضيفًا: “الحقيقة أن مصر – بكل أقاليمها – كانت وظلت حتى عهد فاروق الأول أفضل من العديد من الدول الأوروبية الهامة من حيث التخطيط وجمال الشوارع والحدائق والنظافة والتطور العلمي والإنتاج المحلي”. مدللًا على ذلك بالكثير من المعلومات التي، أيضًا، لم يثبتها بوثيقة أو مرجع واحد ذكره، مثل قوله: “أن الشعب المصري كان يشرب من ماء نيل “آخر” غير المعروف لنا، وهو نهر جوفي نظيف يجري في نفس مسار نهر النيل المعروف لنا على عمق كبير وبكمية تدفق أعلى ست مرات من النهر الذي فوقه والذي نشرب منه حالياً، حيث أحضرت الحكومة المصرية المهندس السويسري “م. أبِل” لتزويد البلاد بمحطات مياه بدءً من الأقاليم، وهو الذي اكتشف هذا النهر المعروف باسم “كريبتو ريفر” عام ١٨٩٨ واستمر الشعب يشرب مياه صنبور نظيفة وصحية تماماً حتى منتصف القرن العشرين، وهو بالطبع ما زال موجود إلى الآن”، ويقفز الكاتب على كل تلك المعلومات ليستهلك بقية مقاله المطول في تحليله “الموجه” لآخر عقود حكم الملك “فاروق”.. مناقضًا لكافة المعلومات “الموثقة” عن ما شاب هذه الفترة من زيادة نسب الفقر، المدقع، والتفاوت الطبقي والاستغلال البشري، فضلًا عن الفساد والتدليس السياسي.

وعلى هذه الشاكلة تستمر منشورات صفحة (بوليني أوديون)، كشبيهاتها الكثيرات من الصفحات والمنشورات؛ سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو على بعض المواقع الصحافية، في محاولاتها لإعادة صياغة وتحوير التأريخ المصري مختصة حقب الثلاثينيات وحتى نهاية الستينيات بعنايتها، على كافة مستوياتها السياسية والاجتماعية حتى الفنية منها.. عبر مقال نشرته الصفحة قبل أكثر من عام تحت عنوان (البطل الحقيقي لفيلم الفتوه)؛ كتبت أن البطل الحقيقي للفيلم المصري الشهير (الفتوه)، الذي تم إنتاجه أواخر حقبة الخمسينيات من بطولة “فريد شوقي” وإخراج “صلاح أبو سيف”، هي شخصية واقعية لتاجر كبير كان يحتكر تجارة الفاكهة في عقدي الأربعينيات والخمسينيات يدعى المعلم “محمد زيدان” لقي مصرعه على يد أحد القتله؛ كشف التحقيق الجنائي وقتها بأنها جريمة أختلط بها الثأر مع المنافسة التجارية، ومع ذلك يقول المقال: “تقول الصحف مدافعة عن “زيدان”، إنه لم يترك الملايين كما يتوقع بعضهم، بل ترك 100 فدان و100 ألف جنيه في البنوك، بإلاضافة إلى حصص في 26 منزلاً بشبرا وبولاق، بالإضافة إلى منزله في السكاكيني، وأنه كان مضطراً لشراء هذه الحصص من أصحابها ليفك الكرب عنهم، بالإضافة إلى كونه رجل للبر والإحسان يوزع على الفقراء 1000 رغيف يومياً، بالإضافة إلى بناء مسجد بروض الفرج بعدما تلكأت الحكومة في بنائه !

بعد يوليو 1952 خرجت بعض الأقاويل تفيد أن ذوي السلطة شاركوا في التخلص من زيدان بعدما تفشى طغيانه، وبدأت سيرة البر والإحسان في التحول إلى الطغيان والفساد، وفي عام 1957 خرج فيلم الفتوة للنور، ولمّحت الصحف إلى تشابه وقائعه بقصة حياة زيدان ملك الفاكهة”.. وبالطبع لا يهم الصفحة الفيسبوكية سرد وقائع جريمة مضى عليها أكثر من نصف قرن من الزمن؛ بقدر ما تستهدفه من الدفاع عن رجل لم يمتلك الملايين وإنما كانت كل ثروته – بمقاييس نهاية الخمسينيات الاقتصادية – 100 فدان و100 ألف جنيه و26 عقار (!)، وبالتالي غرز فكرة عدم مشروعية التأميمات الحكومية لثروات كبار التجار والإقطاعيين نهجًا لتوزيع عادل للثروة، وبأنها مجرد “سرقة” علنية في وضح النهار.

وتكثر المنشورات وتتعدد النماذج، التي لا تستهدف إلى توثيق ما تسوقه من معلومات أو تثبيته بأي قدر من المصداقية أو العلمية، وإنما كل هدفها تشعب بين تغييب وعي الرأي العام وتشويه تاريخه الاجتماعي والدفاع عن المصالح الرأسمالية بكل قيمها.

أهداف ممنهجه..

ربما تلخص لنا أهداف ومنهجية هذه الظاهرة، “العاصفة”، من تزييف تأريخ شعوب دول العالم العربي والنامي، بعض الكتابات التي أرادت أن تنَظر لها وتمحورها على أسس النيوليبرالية المأزومة عالمياً.. نشر، هذا العام، موقع شبكة (الحرة) الأميركية ورقة بحثية بعنوان: (تأويل التاريخ أو التاريخ معاصرًا)؛ للباحث “محمد المحمود”، الذي اعتبر فيه: أن “التاريخ ليس مجرد وقائع وحوادث، تلاشت وذابت، فاختفت في تيار الزمن الهادر، بحيث لم يبقَ منها إلا قبض الريح من الكلمات المسطورة في هذا الكتاب أو ذاك. التاريخ ذاكرة حية لا تزال ـ وستبقى ـ تصنع الحاضر/ المستقبل، أو تسهم في صنعه؛ إما بكون وقائع هذا الحاضر/ المستقبل هي ـ بصورة ما/ بنسبة ما ـ ثمرة مادية تخضع لمتتاليات التسلسل السببي للأحداث؛ وإما بما تفرضه القراءة المتأوّلة/ المتَخيّلة من نمط تصوّري يتحكم في وَعْينا، وبالتالي يتَحكّم في صناعة الواقع من خلالنا. وهنا، من حيث التأثير، لا يُشترط في الصورة الخاصة/ المتَأوَّلة/ المتَخَيّلة أن تكون متطابقة ما مع حدث فعلًا في التاريخ؛ لأن درجة تأثيرها في واقعنا لا ترتبط بحقيقتها (من حيث وقوعها من عدمه)، بل بدرجة/ طبيعة تَمَثّلنا للمُتَصوّر الذهني عنها؛ فهو الذي يحكم علاقتنا بالواقع؛ من خلال علاقتنا بالتاريخ”.

ثم يسقط الباحث مباشرة على هدفه في تهميش الفكر المؤدلج وتسخيف منطلقاته بإدعاء الموضوعية في تناول الوقائع التاريخية، قائلاً: “لقد مارست الحركات الإسلاموية، ومن قبلها ـ أو من بعدها ـ الحركات القوموية العروبوية، أقصى درجة التحكّم في التاريخ. لقد قدمت تصورها الخاص المكتوب على إيقاع الاحتياجات الإيديولوجية في الراهن، فعمدت عن قصد أو عن غير قصد إلى تزييف وتزوير وتلوين التاريخ؛ لتؤكد ـ من خلاله ـ حقائقها التي تريد أن تمنحها طابع الحقائق الأزلية الحتمية بمنطق الاستمرار التاريخي”. (1).

مستبعدًا الباحث المنهج العلمي التاريخي الذي يفرق بين التناول التأريخي الذي يمكنه حمل الإيديولوجية والذاتية، مثل تدوين المذكرات والذكريات والسير الذاتية، والتدوين التأريخي المعتمد على المنهج الأكاديمي العلمي المحقق للوقائع والحوادث التاريخية عبر الوثائق والمستندات ونحوها. وغير مبال الباحث في ورقته وتصدير إدعاءه المصداقية والتدوين “النقي” للتأريخ، بأنه ينطلق من مباديء إيديولوجية، “النيوليبرالية”، التي تمهد في تصدير مقولاتها الفكرية إعلاء مباديء وقيم الطبقة الكمبرادورية داخل مجتمعات الدول النامية وتسييد النمط الأميركي في الحياة عمومًا، مع التحليل التسطيحي الخالط للأوراق والحقائق، وتكريس التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومحاربة الأفكار التقدمية في مجاليها الاجتماعي والسياسي، حتى باتت مصطلحات “الإمبريالية، والإستعمار، والاستقلالية” و”التحرر”، إلا في معناه السلوكي الأخلاقي السطحي الضيق، مجرد كلمات مغتربة عن الحاضر الذهني لمجتمعاتنا.

تنكشف تلك الأهداف بشكل صريح ومباشر عبر الورقة البحثية التي نشرها “مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي”؛ منذ وقت ليس بالطويل، للباحثين: المصري “مؤمن سالم” والإسرائيلي “أوفير فنتر”، حول مستقبل السلام المصري مع إسرائيل وعن تداعيات التحولات الداخلية لمصر على العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، بمناسبة مرور 40 عاماً على المبادرة “التاريخية” التي قام بها الرئيس المصري الراحل “أنور السادات” بزيارة إسرائيل تمهيداً لتوقيع اتفاقية “كامب دافيد”.

يؤكد الباحثان في مقالهما على أن “يرى الكثيرون أن عداء الرأي العام المصري تجاه إسرائيل يمثل عائقاً رئيساً أمام تعزيز السلام بين البلدين، لكن هذا الرأي يحتاج الآن للمراجعة؛ لا سيما فيما يخص جيل الشباب تحت سن الثلاثين الذين يشكلون 60% من مجموع سكان مصر. لقد واجه “السادات”، بعد زيارته للقدس، معارضة شديدة من جانب “الإخوان المسلمين” والأحزاب الناصرية والماركسية داخل مصر؛ وكذلك من “جبهة الرفض العربية” بقيادة العراق وليبيا وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. فسياسته التصالحية أدت إلى قيام معارضة واسعة في الداخل والخارج، مُستندة إلى الأفكار القومية والعروبية والدينية الإسلامية، وأعلنت عن مناهضتها للسلام مع إسرائيل، فضلاً عن تطبيع العلاقات”.

متابعين: “لكن الثورتين الأخيرتين اللتين شهدتهما مصر في الـ 25 من كانون ثان/يناير 2011؛ والـ 30 من حزيران/يونيو 2013، قد خلقتا حراكاً جديداً يحمل في طياته إمكانية حدوث تغيير تاريخي إيجابي لدى الرأي العام المصري – لا سيما بين الشباب – فيما يخص السلام والتطبيع مع إسرائيل. علماً بأن التحولات الأخيرة في مصر أدت إلى قيام “ثورة ثقافية” داخل المجتمع المصري، مثل حالات خلع الحجاب وارتفاع نسبة الملحدين والإعلان عن حالات الشواذ من الجنسين. بالإضافة إلى تآكل الهوية العربية والإسلامية لصالح الهوية المصرية والإنسانية. وتحرُر الشبان والفتيات من القيود الأسرية، وإقامة العلاقات الجنسية قبل الزواج والأكثر من ذلك إنهيار الحكم الأبوي والسلطوي بكل جوانبه الاجتماعية والسياسية والدينية”.

أدت الثورتان الأخيرتان في مصر – بحسب الباحثين المصري والإسرائيلي – إلى خلق جيل من الشباب ذوي التوجه الليبرالي العلماني، الذي لا يخشى مواجهة الآباء والاعتراض على مسلمات الماضي، حتى وإن كانت قومية أو دينية أو اجتماعية. وهذه التحولات الاجتماعية والثقافية تلقي بظلالها على عقلية جيل الشباب في مصر، حتى فيما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل.. وهذا هو “جوهر” الهدف الأساس من “العولمة الثقافية” العاصفة على العقلية العربية مخترقة مجتمعات دول الأطراف حاليًا.

ويواصل الباحثان: “إن جيل الآباء غرس في الأبناء كراهية إسرائيل عبر تلقين شعارات القومية العربية، التي كانت تبثها أجهزة الإعلام والدعاية الناصرية في الخمسينيات والستينيات. وتلقى الأبناء تلك الشعارات دون نقاش أو تفكر من منطلق الاحترام لمقام الآباء. لكن تلك الأجواء تغيرت تماماً مع تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشباب، الذين رأوا أن الآباء يخنعون للسلطة ويخشون مواجهتها بل إنهم يتحدون مع السلطة ضد أبنائهم. فتمرد جيل الشباب على نظام الحكم والمناصرين له حتى لو كانوا آباءهم. وهذا الصدام بين الأجيال دفعت الشباب لمراجعة كل الموروثات الاجتماعية والفكرية بما في ذلك كراهية إسرائيل، لأن جيل الشباب أصبح يتبنى مواقف واقعية وعقلانية مقارنة بأبائهم الذين تربوا على الدعاية الكاذبة والتحريضية … إن ظهور جيل الشباب العلماني والليبرالي في مصر، الذي يرفض القومية العربية والنظام الإسلامي ويتقبل السلام مع إسرائيل، بات يمثل فرصة جيدة لتعزيز العلاقات بين الشعبين المصري والإسرائيلي”. (2).

تشكيل الرأي العام..

بالعودة إلى الباحث “د. محمد أبو الأسعاد”؛ في تحليله لظاهرة تزييف وعي الرأي العام.. يقدم لنا تعريفًا منهجيًا لتشكيل الرأي العام عبر أربع مراحل؛ هي: مرحلة إثارة المسألة عن طريق ملاحظتها بواسطة تبادل الأحاديث بين أفراد الجماعة أو بواسطة الصحافة وأجهزة الإعلام، ثم مرحلة المناقشة التي تتم حول المسألة بما فيها من تعرف على مختلف المعلومات ووجهات النظر والآراء، ثم مرحلة بلورة الرأي والوصول إلى وجهة نظر موحدة أو إتفاق عام، ثم مرحلة القرار أو التصويت على الرأي.

وبذلك يعتبر الرأي العام نتاج تفكير جماعي في مشكلة عامة؛ ويتم خلال عملية تشكيله تدريب المواطنين على التفكير الصحيح والوصول إلى الرأي الصائب، ولذلك فإن القرار أو الرأي الذي ينتهي إليه المواطن خلال عملية تكوين الرأي العام لا يكون من صنعه في الغالب؛ وإنما نتيجة لما سمعه وقرأه وما أستمده من زملائه ومن الصحافة وما إنتهى إليه النقاش والجدل.

ويتميز الرأي العام بطبيعة ديناميكية متحركة، فهو دائم الحركة والتبدل والتطور، لآن الرأي العام نتاج اجتماعي لعملية اتصال وتأثير متبادل بين عدد من الجماعات والأفراد في المجتمع.

وللرأي العام أهميته؛ من حيث أنه أعظم قوة مؤثرة في الحياة اليومية للجماعة، فهو الذي يوجه الحياة السياسية ويؤثر في إتجاه وتطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لأنه هو الذي يضع المقاييس الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية؛ وهو الذي يطور القيم ويغيرها.

ويتأثر الرأي العام بعوامل كثيرة خارجية وثقافية واقتصادية وتربوية؛ يأتي في مقدمتها ما تعكسه القيم والتقاليد ونمط المعيشة الاجتماعية والسياسية وأسلوب الضبط الاجتماعي ونظام الحكم ووسائل الإعلام وأساليبه الشائعة في المجتمع، ومن بينها الصحف التي تساهم في تشكيل الرأي العام عن طريق الأخبار والآراء التي تحتويها، فالصحف وسيلة لتبادل الآراء وتغييرها وعن طيفها يمكن التأثير على الرأي العام.

ولذلك فقد سيطر الإعلام على حياة الشعوب؛ إلى درجة أن ما يشاهده الناس وما يقرأونه وما يستمعون إليه وما يرتدونه وما يأكلونه وغير ذلك من أفعال، أصبحت وظائف يمارسها جهاز إعلامي يقرر الأذواق والقيم التي تتفق مع معاييره الخاصة، ولذلك أصبحت السيطرة على الإعلام جزءًا لا يتجزأ من السياسة القومية وأصبحت أساليب تعليب التصورات والأفكار أدوات يجري استخدامها للتأثير على الرأي العام من أجل كفالة التأييد الشعبي لتصرفات الحكومة، ولذلك يهتم أصحاب القوة والنفوذ في المجتمع بالسيطرة على وسائل الإعلام حتى تروج لآرائهم في الشؤون السياسية والاقتصادية وتقوم بدورها في مقاومة التغيير الاجتماعي الذي يهدد مصالح الطبقة الحاكمة.

وإذا كانت كل المجتمعات تهتم بوسائل التأثير على الرأي العام، فإن الظاهرة المميزة لإعلام الدول الرأسمالية هو سيطرة القوى الرأسمالية على وسائل الإعلام لتدعم بها سيطرتها على وسائل الإنتاج ولتروج لمنتجاتها وتنشر إيديولوجياتها الاستهلاكية وتفسد الجماهير من خلال تنمية الرغبة في تملك السلع الاستهلاكية، أما الإعلام في الدول الديكتاتورية فيتميز بإمتهان الذكاء العام والنظر إلى الجماهير على أنها من مستوى وضيع عقليًا، وأنها يجب أن تبقى في هذا المستوى، ولذلك تصاغ مواد التأثير على الرأي العام بأسلوب فج ينطوي على إلزام الرأي العام بالقرارات التي أصدرها الحكام دون أي قدر من الحرية للجماهير، فلا تتضمن مواد الإعلام إلا القدر الذي تريده السلطة ولا يسمح في مواد الإعلام بأي مساحة من حرية التفكير للجماهير مهما كانت ضئيلة، ذلك أن أهداف الدعاية السياسية في الدول الديكتاتورية هي إخضاع الجماهير والسيطرة عليها؛ وليس تدريب المواطنين على المناقشة والتفكير الصحيح على نحو ما ينبغي أن يكون عليه الإعلام.

والمدى الذي يصل إليه الإدراك العام هو ما يمكن أن نسميه بـ”الوعي”، وهو حصاد لتصورات الناس حول العالم المحيط بهم بما يشتمل عليه من علاقات بالطبيعة وبالإنسان وبالأفكار وما يتضمنه ذلك من تشخيص قضايا المجتمع ومشكلاته وتفسيرها وطرح أساليب تناولها وحلها.

لكن هذا الوعي قد يتعرض للتزييف؛ وذلك بالتأثير على تصوراته بحيث تصبح تصورات جزئية مشوهة ومغلوطة للواقع المحيط، سواء كان هذا الواقع طبيعيًا أو إنسانيًا، وسواء كان يتعلق بعلاقة أو شخص أو وضع بنائي محدد، وذلك باستخدام كل جملة أو فكرة تعمل على تفسير مشكلات المجتمعات بغير أسبابها الحقيقية أو تهرب من المشكلات الجوهرية الأساسية وتعرض لمشكلات جزئية ثانوية، وتعتمد نفاق المسؤولين وتملقهم أو تنشر قيمًا ضد إتجاهات المجتمع أو تحابي طبقة بعينها بقصد خدمة مصالح شخصية؛ في الوقت الذي تتجاهل فيه بقية الطبقات، وخاصة الطبقات الأكثر حجمًا والأكبر حرمانًا، كالعمال والفلاحين وصغار الموظفين؛ وإن اهتمت بها فبقصد تخديرها وتمييع القضايا في أذهانها.

ولذلك فإن عملية تزييف الوعي هي عملية ممتدة في التراث وفي التعليم وفي الثقافة وفي علاقات المجتمع المختلفة وفي الإعلام والصحافة.. والكشف عن عملية “تزييف الوعي” تحتاج إلى جهد جماعي ومتواصل حتى يمكن تجنب مخاطرها الفردية والجماعية. إلا أنه يمكننا أن نحدد أشهر أساليب تزييف الوعي على النحو التالي:

* الإيهام بحياد أجهزة تكوين الوعي من إعلام وتعليم وغيرها، وأنها تخلو من أي غرض إيديولوجي مقصود، فلكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفاعلية أكبر لابد من إخفاء شواهد وجود التضليل وإشعار الجماهير بأن الأشياء تقدم على حقيقتها، فالتضليل الإعلامي يقتضي الإنكار المستمر لوجود التضليل أصلًا وإيهام الشعب الذي يجري تضليله بحياد مؤسساته الاجتماعية والسياسية وأن الحكومة والإعلام والتعليم والعلم بعيدة جميعًا عن معترك المصالح الاجتماعية المتصارعة.

* إيهام الجماهير بحرية الإعلام وتعدده؛ حتى يسهل التضليل الإعلامي، نظرًا لما يوفره الإحساس بحرية الإعلام وتنوعه وتعدده من خلق للثقة وتوفير للمصداقية، بالرغم من أنه لا يوجد فارق كيفي ملموس بين وسائل الإعلام، فجميعها تعرض أنواعًا مماثلة وتشكيلة من إعلام واحد يستهدف في النهاية توفير الدعم المستمر للوضع القائم.

* استخدام أسلوب تجزئة الحقيقة؛ يساعد على استمرار الأفراد غير الواعين بأنه قد تم تضليلهم، وذلك بتسطيح أي جدل وتجاهل القضايا الاجتماعية وتقديم بعض معلومات جزئية مما يؤدي إلى عدم الفهم واللامبالاة لأغلب الناس.

* إنكار وجود الصراع الاجتماعي، وذلك بغرض حجب واقع السيطرة والاستغلال عن الجماهير، فينكر المتحكمون في الوعي إنكارًا مطلقًا وجود الصراع الاجتماعي ويرفضون التفسير الإيديولوجي مدعين بحيادهم القائم على أساس الحقائق والمعلومات المجردة.

* الإيهام بأن الطبيعة الإنسانية ثابتة وغير قابلة للتغير، الأمر الذي يعني أبدية الأنظمة القائمة تعبيرًا عن هذه الطبيعة الإنسانية الثابتة، مثل علاقة الملكية.

* الضغط على أعضاء المجتمع لإقناعهم بأن مشكلاتهم تنتج عن أسباب أخرى غير أسبابها الحقيقية، بجذب إدراك المضطهدين بعيدًا، كإيهام العمال بأن البطالة ترجع إلى ضعف قدارتهم ومسلكهم الشخصي؛ لا إلى طبيعة النظام أو أن مشكلاتهم ترجع إلى الإنفجار السكاني وزيادة المواليد لا إلى سوء التخطيط والتوزيع.

* خلق المخاوف من التغيير وإيهام الجمهور بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ عن طريق المقارنة بأوضاع أسوأ في فترات تاريخية أخرى ومجتمعات أخرى. (3).

ويعمد الحكام في سبيل “تزييف وعي” الجماهير إلى الإستئثار المنظم بالمعلومات؛ فيصبح أفراد الشعب في وضع يجهلون معه كل ما يتعلق بشؤونهم الخاصة، ومن ثم يعجزون في نهاية الأمر عن تحديد مصائرهم وتقرير مستقبلهم.

وقد استخدم الحكام، لتزييف وعي الجماهير، مناهج الفكر المختلفة؛ فاستخدم الحكام “المنهج الخرافي” في التفكير لتبرير حكمهم الذي أشاعوا أن فيه الحماية من غضب الآلهة ونكبات الطبيعة؛ وأدعوا أن حكمهم هو الذي يخلص الشعب ويحميه من خطر الأشباح والقوى الغيبية.. كما استخدموا “المنهج الديني” لتزييف وعي الجماهير واخضاعهم للحكم الإستبدادي بواسطة “نظرية الحق الإلهي المقدس”، التي ظهرت منذ عصر الفراعنة، ممثلة في نظرية الملك الإله ثم تطورت في ظل الإسلام إلى “نظرية الإمام المعصوم”.. كما استخدمت نظرية “التميز الفردي” لتبرير الحكم الفردي تحت ستار أن الأبطال والعظماء هم صانعو التاريخ، واستخدمت أيضًا نظرية “التمايز الفئوي” أو “العنصري” أو الطبيعي لتبرير حكم الأقلية؛ سواء كان الأحرار ضد العبيد أو الإقطاعيين ضد الفلاحين أو الرأسماليين ضد العمال.

ويرى “أبو الأسعاد” مدللًا على منهجه بكُتاب الفترة الساداتية، قائلًا: “كما أنه من المؤكد لنا الآن إرتباط هؤلاء الكتاب وأمثالهم بشكل أو آخر بالرجعية العربية؛ ممثلة في المملكة العربية السعودية، التي أصبحت منذ هزيمة القوى التقدمية في (حزيران) يونيو 1967، صاحبة الهيمنة على المنطقة العربية حتى عرفت هذه الفترة بـ”الحقبة السعودية”، فقد تدفقت أموال النفط بشكل هائل على النظام السعودي وتوظيف هذا المال لدعم القوى الرجعية في مختلف أرجاء العالم وضرب حركة التقدم الشعبية في أي من قارات العالم الخمس، وأصبح واضحًا لكل ذي عينين أن أموال النفط السعودي يوزع منها بعض بقايا الأمراء السعوديين في أنحاء متفرقة من الوطن العربي؛ في مقدمتها مصر، وذلك وفق سياسة محددة تستهدف قلع كل جذور التقدم في عالمنا العربي حماية لهذا النظام الرجعي.. وبالطبع فإن ذلك لا يمكن أن يتم في مصر إلا بعد تحويلها إلى كيان بدون عقل بتزييف وعي الجماهير.

“ومن المؤكد لنا الآن أيضًا أن الإمبريالية الأمريكية تعمل على تزييف وعي الجماهير المصرية، حتى تحول أفكار المصريين عن المعارضة والرفض إلى الإستسلام والقبول بأهداف الإستراتيجية الأمريكية في مصر، فلقد كانت سياسة الاستعمار باستمرار احتلال عقل المواطن كمقدمة لاحتلال أرض الوطن، ولذلك يعمل المستعمر الأمريكي بشكل مبرمج وبنوايا مسبقة لهزيمة العقل المصري واحتلاله تمهيدًا لاحتلال الوطن.. وهذه السياسة كما أتضح لنا ليست وليدة اليوم؛ ولكنها بدأت منذ الحرب العالمية الثانية عندما أهتمت الولايات المتحدة الأمريكية بالعلاقات الثقافية مع دول العالم الثالث فصدرت موادها الإعلامية إلى كل أنحاء العالم وغزت العقول بأقلامها وأفلامها وصدرت للعالم أنماط الحياة الأمريكية فهيمن النموذج الحضاري الأمريكي على عقول العالم الثالث وتحكمت إمبراطورية الإعلام الأمريكي في أبعاد الكرة الأرضية وأستهدفت مصر لتكون داخل دائرة التبعية والهيمنة الحضارية الأمريكية حتى لا تتمرد مصر أو تثور فتهدد الإستراتيجية الأمريكية بشكل أو آخر”. (4).

وذات الشيء بصدق على إسرائيل؛ فقيام علاقات ثقافية بين مصر وإسرائيل من شأنه أن يمتص تدريجيًا أفكار العداء لإسرائيل من العقلية المصرية وتقليص مشاعر العداء لإسرائيل من الوجدان المصري، ومن هنا اهتمام إسرائيل الزائد بتطبيع العلاقات مع مصر، فالعداء لإسرائيل لا بد أن يقلع أولًا من الوعي والعقل المصري، ولن يكون ذلك إلا بتزييف وعي المصريين وتحويل أنظارهم عن مصالحهم وعن الأخطار المحيطة بهم وتحويل مصر إلى كيان يفكر بعقول الآخرين.

………………………………………..

المــــــصادر:

1 – “تأويل التاريخ أو التاريخ معاصرًا” – محمد المحمود – موقع شبكة “الحرة” الأميركية – 29 كانون ثان/يناير 2018.

2 – “في ذكرى زيارة السادات للقدس” – ترجمة: سعد عبدالعزيز – صحيفة “كتابات” – بتاريخ 8 تشرين ثان/نوفمبر 2017.

goo.gl/N2goSJ

3 – “الصحافة المصرية.. وتزييف الوعي” – د. محمد أبو الأسعاد – دار الثقافة الجديدة – طبعة أولى 1988.

4 – د. محمد أبو الأسعاد – مصدر سابق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة