خاص : كتب – محمد البسفي :
“أفيون” صحافة التزييف..
(دعني أعرف من أنت ؟.. حتى أعلم ما تريد أن تخبرني به..)..
تحت عنوان موحي، يحمل سخرية سوداء لاذعة، كتب مقريزي القرن العشرين؛ الكاتب المصري، “صلاح عيسى)، دراسة: (مختارات من الحياة اللذيذة)، نشرت لأول مرة على صفحات مجلة (الحرية) اللبنانية عام 1965، راصدًا لرحلة مجلة (المختار من ريدراز دإيغست) التي صدرت في القاهرة، لأول مرة، في أيلول/سبتمبر 1943 لتكون الطبعة العربية من بين خمسة لغات تصدر بها مجلة الـ (ريدرز دايغست) الأميركية الشهيرة؛ لكي توزع في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان وشرق الأردن والعراق والمملكة السعودية واليمن وسائر الجزيرة، ووصفت (المختار من الريدرز دايغست) نفسها بأنها: “المجلة التي يقرؤها 12 مليونًا من البشر، وهي أعجب المبتكرات الأميركية. بدأت كفكرة في عام 1922 أساسها؛ أن ما تصدره المطابع كل شهر من مجلات عامة وفنية خاصة وكتب، تتعذر مطالعته كله، والإفادة منه على كائن من كان، ومطالعة هذه المجلات والكتب، وإختيار أجودها، وتلخيصه وإباحته لمن يريد، فكرة عظيمة، إن محرري المجلة يطالعون عشرات الكتب الجديدة التي تصدرها المطابع كل شهر ويختارون أجودها وأهمها شأنًا وأقومها أدبًا، ثم يلخصونه تلخيصًا يحوي لبُاب الكتاب وروح كتابته وأسلوبه”.
وقد صدرت الطبعة العربية – في أول إصداراتها – باسم رئيس تحريرها ومديرها العام – صاحب الإمتياز – الأستاذ “فؤاد صروف”، وهو واحد من أبناء (المقطم)، صحيفة ولسان حال الاحتلال البريطاني منذ غزوه لمصر أواخر القرن التاسع عشر.. يقول “عيسى” مقدمًا تلك المجلة: “وهكذا صدرت (المختار) لتكون طليعة للنفوذ الأميركي في الوطن العربي، ولكي تبشر بالسيد الجديد الذي كان يطمع آنذاك في الحلول محل دول الإستعمار التقليدية، ووراثة تركتها من المستعمرات، وعلى رأسه الأمة العربية”.
لتختفي مجلة (المختار) – في زيها العربي القاهري – بعد خمس سنوات من الصدور، وتعود مرة أخرى عام 1956، بعد أن أمتلكت إمتياز إصدارها مؤسسة “أخبار اليوم” لصاحباها “مصطفى” و”علي أمين”، في ذلك الوقت.
ويعلق “صلاح عيسى”؛ على تلك المجلة الأميركية في مرحلتها الأولى من الإصدار القاهري، واصفًا رسائلها الدعائية والإعلامية: “إن جهازًا كاملًا للمخابرات كان أعجز من أن يفعل ما تفعله المختار، تلك التي ظلت تصدر – في مرحلتها الأولى – خمس سنوات كاملة بين (1943 و1948) وعبر كل تلك السنوات، لم تنشر كلمة واحدة عما كان يعانيه العرب في مصر، وفي غير مصر، تلك سنوات المخاض التي أنجبت فيما بعد أمة عربية جديدة، كانت نذر الإنتفاضات الشعبية العربية تتجمع في الأفق عبر سنوات الحرب لتنفجر بعدها في مصر وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين.. لكن ذلك كله لا يهم (المختار).. فلم تذكره بكلمة.. وفي الشهر نفسه الذي تمرد فيه الطلاب المصريون في إنتفاضة 21 فبراير – شباط 1946، ضد الإحتلال الإنكليزي لمصر، فإخترقت سيارتان عسكريتان بريطانيتان صفوف المتظاهرين، وقتلت عشرة منهم، كانت (المختار) تنشر قصة عن إنسانية جيوش الحلفاء الذين دخلوا إيطاليا بعد هزيمة الفاشست، وكيف أن جنديين أحدهما أميركي، والآخر إنكليزي، وجدا فتاة صقلية في الخامسة عشرة تكاد تموت جوعًا فأعطياها ما يحملانه من غطاء وطعام وتعرضا للمحاكمة إذ بددا بذلك مهماتهما الحربية !” (1).
ويستعرض “عيسى”، في دراسته، إحدى النماذج “الأسطورية” التي صنعهتا المجلة الأميركية وصَدرتها للعالم العربي، آنذاك، ومازالت تلك الأسطورة الأميركية سارية المفعول بين الأوساط البحثية والحقوقية العربية ليومنا هذا، وهي أسطورة “ديل كارنيغي”.. يقول الأستاذ “صلاح عيسى”: “والمختار هو الذي صنع من “ديل كارنيغي” أسطورة يتبادل العرب إسمها، ويطبعون كتبها، ولم لا ؟.. أليس هو الأميركي الشاطر الذي جاء لكي يعلم كل عربي كيف يكسب الأصدقاء ويؤثر في الناس ؟.. أليس خبيرًا في الإنتهازية على الطريقة الأميركية: إذا كنت موظفًا صغيرًا فإن السيد كارينغي ينصحك بأن تنافق رئيسك وتمتدح ملابسه، وأهم ما ينبغي لك أن تلتفت له هو “زوجة المدير”، عليك أن تحرص على رضاها، وأن تمتدح ذكاءها، وأن تعرض خدماتك لمرافقتها في السوق، ولا بأس أن تدفع نقودًا من جيبك لتقنعها بأنك قادر على الحصول على سلع بأرخص مما يستطيعه أي رجل آخر !!
“وأهم ما ينصح به “ديل كارينغي”، العمال والموظفين والتكنوقراطيين عمومًا، هو “الحصول على رضا الرئيس”.. وهو شعار تستطيع بالقياس، أن تمنح نفسك رخصة بارتكاب كل جرائم الدنيا وشرورها، وبذلك تصل وتنجح وتصبح رجل أعمال ناجح، وربما مليونيرًا مثل ملك الماس في تنجانيقا”.
وينتقل “عيسى” إلى المرحلة الثانية من إصدار (المختار)، وعودتها خلال عام 1956، “تطبيقاً لسياسة التوازن، صدرت (المختار).. أصدرتها هذه المرة “دار أخبار اليوم”، وهكذا توحد أصدقاء الولايات المتحدة، والمبشرين بسياستها في مكان واحد، كان العصر الأنكلوسكسوني قد إنتهى، وإنهارت الإمبريالية الإنكليزية، ولم تعد بريطانيا عظمى، فالعظمة للدولار الفتي، وزحفت العنجهية السكسونية لتأكل من فتات مشروع مارشال، ولهذا كان طبيعياً أولاد صروف “المختار”، فزمن (المقطم) قد مضى، والعصر عصر (أخبار اليوم)، التي صدرت لأول مرة في عام 1944 – وبعد عام واحد من صدور المختار لأول مرة – علينا نحن العرب أن نلقي بعقولنا في البحر ونقول أنه مجرد صدفة أن تصدر المختار وأخبار اليوم في سنة واحدة…” (2).
في هذا العام 1944، أسس الأخوان “علي” و”مصطفى أمين”، “دار أخبار اليوم للصحافة والنشر”، وأصدرت جريدة إسبوعية باسم (أخبار اليوم)، منذ تشرين أول/نوفمبر 1944، ثم آلت إليها مجلة (آخر ساعة) عام 1946، ثم أنشأت جريدة يومية باسم (الأخبار) منذ حزيران/يونيه 1952.
وقد أثار الأستاذ، “محمد حسنين هيكل”، في كتابه (بين الصحافة والسياسة) تساؤلات حول تأسيس “دار أخبار اليوم”؛ فأشار إلى أن الولايات المتحدة الأميركية راحت، وحتى قبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية، تسعى وترتب لنفوذها وسلطاتها في عالم ما بعد الحرب، وكان ضمن ما سعت إليه ورتبته ضرورة نشر القيم الأميركية وطريقة الحياة الأميركية في كل أرجاء الدنيا، وأقتضى ذلك القيام بنشاط واسع النطاق في مجال الإعلام على نحو ما كشف عنه تقرير الكونغرس الأميركي عام 1974، الذي كشف النقاب عن نشاط وكالة المخابرات المركزية الأميركية في عمليات إنشاء دور الصحف والنشر؛ وثبت من خلال هذا التقرير أن وكالة المخابرات المركزية كانت وراء إنشاء دور الصحف والنشر التي ظهرت في “طهران وهامبورغ وطوكيو وروما” في أعقاب الحرب، وراحت تدعو لنمط الحياة الأميركية وتنشر القيم والحضارة الغربية.. ثم يضيف الأستاذ “هيكل”: “أنه يخطر على البال أن (أخبار اليوم) ظهرت في نفس الفترة، أواخر 1944، فهل كانت (أخبار اليوم) منذ اليوم الأول حلقة في هذه السلسة من الصحافة التابعة لأميركا ؟”.. ثم يضيف أنه إذا أضيف إلى ذلك أعتراف “مصطفى أمين” بأنه قد قابل “كيرميت روزفلت”، المسؤول الأول لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، في هذا العام 1944.. فهل كان ذلك مصادفة أم كان أكثر من ذلك ؟! (3).
ويقول الباحث المصري ، الدكتور “محمد أبو الأسعاد”: “لكن الأستاذ “مكرم عبيد”، سكرتير “حزب الوفد” وزعيم حزب الكتلة الوفدية، كان له رأي آخر حول نشأت “دار أخبار اليوم” مؤداه أن الملك “فاروق” هو الذي ساعد على إنشاء (أخبار اليوم)؛ وأن القصر قد رصد مبلغًا كبيرًا من المال لهذه العملية.. وأستند “مكرم عبيد” في ذلك إلى الدور الذي لعبته صحافة “أخبار اليوم” إلى جانب الملك من أجل دعم سلطته وضرب “حزب الوفد”، فقد توثقت صلة “مصطفى أمين” بالقصر وبرئيس الديوان الملكي، “أحمد حسنين”، وأضفت صحافة “أخبار اليوم” على الملك صفات الجلال والورع والوطنية ونحوها من الصفات الإنسانية السامية، وراحت تدعو إليه وتبشر بعدله وحكمته فأنعم الملك على “مصطفى أمين” برتبة البكوية، وراح “مصطفى” يشن أكبر حملة هجومية ضد حزب الأغلبية الشعبية وضد زعيم الوفد، “مصطفى النحاس”، ووقفت (أخبار اليوم) تظاهر حكومات الأقلية المرتبطة بالقصر الملكي”.
ويكشف لنا “مايلز كوبلاند”، رجل المخابرات الأميركية، أنه لا تناقض بين الرأيين، بين ما أثاره “هيكل” عن دور المخابرات الأميركية في إنشاء “أخبار اليوم”؛ وما أثاره “مكرم عبيد” عن دور القصر في إنشاء “أخبار اليوم”، فيقول “كوبلاند”: “أن كيرميت روزفلت، المسؤول الأول للمخابرات المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، وصل إلي مصر في شباط/فبراير 1952 على رأس بعثة كانت خطتها محاولة تنظيم ثورة سلمية في مصر تحت قيادة الملك “فاروق” نفسه؛ يصفي فيها النظام القديم ويشرف على أبداله بنظام جديد”.
ومعنى هذا أنه لم يكن هناك تعارض بين مخططات القصر وبين المخططات الأميركية، بل كان هناك تنسيق وتعاون منذ البداية في سنوات الحرب العالمية الثانية، وكانت “دار أخبار اليوم” أداة للمخططات المشتركة بين أميركا والقصر، لكن الثورة؛ التي كان هذا المخطط المشترك يستهدفها، لم تحدث لأن النظام كان قد وصل إلى درجة العجز عن إحداث أي تصحيح من داخله، ومن ثم فاجأت ثورة 23 تموز/يوليو 1952 الملك وأصدقائه الأميركيين وسبقتهما، وهو ما كان يعنيه الملك عندما قال للواء “محمد نجيب” عند وداعه في السادسة من مساء 26 تموز/يوليو 1952: “لقد سبقتموني بما فعلتموه فيما كنت أريد أن أفعله” (4).
لكن “مصطفى أمين” ينفي بشدة أي شبهات حول قيام “مؤسسة أخبار اليوم” وأرتباطها بقوى سياسية داخلية أو خارجية، ويقول في كتابه (سنة أولى سجن) أن لجنة الكسب غير المشروع قد حققت في (أخبار اليوم) وبحثت في دفاترها ومكثت تحقق في كل مليم دخل “أخبار اليوم”؛ وبعد ذلك وضعت تقريرًا قالت فيه أن كل قرش دخل “أخبار اليوم” حلال، لكن الأستاذ “هيكل” يؤكد في كتابه (بين الصحافة والسياسة) أن اللجنة التي شكلت عقب صدور قانون تنظيم الصحافة إنتهت من فحص ميزانية “أخبار اليوم”، فيما بين عامي 1950 \ 1960، إلى أنه قد دخل إلى إيرادات الدار مبلغ 833 ألف جنيه دون توضيح مصدرها، الأمر الذي يؤكد وجود تمويل من مصادر مجهولة، ولابد بالضرورة وأن يكون لهذا التمويل أبعاده السياسية؛ مما يؤكد أرتباط “أخبار اليوم” بقوى سياسية مجهولة.
وقد قدمت مجلة (الطليعة) القاهرية اليسارية، خلال أعدادها في عام 1975، كما قدم “صلاح نصر” في كتابه (عملاء الخيانة وحديث الإفك) قراءة مضمون لجريدة (أخبار اليوم) كاشفًا فيه النقاب عن أبعاد السياسة الإعلامية لـ (أخبار اليوم)، والتي تمثلت في أربعة أبعاد، البعد الأول هو إرتباط صحافة “أخبار اليوم” بالمخططات الأميركية في مصر؛ منذ نشأة “أخبار اليوم” عام 1944 وحتى محاكمة “مصطفى أمين” بتهمة التجسس لحساب المخابرات الأميركية عام 1965، والبعد الثاني هو الدفاع عن القيم الرأسمالية، والبعد الثالث هو الدفاع عن النظام الملكي وتجميل وجهه القبيح، والبعد الرابع هو مهاجمة الحركة الوطنية المصرية ومحاولة إستئناسها لصالح القصر والعلاقات مع أميركا (5).
صناعة الخرافة.. فن التخدير اللذيذ..
على نفس النهج؛ يبرز اسم الكاتب الصحافي المصري، “أنيس منصور”، ليس كعرابًا للتطبيع العربي الثقافي مع الكيان الصهيوني فحسب، ولكن كعلامة بارزة أيضًا في كتابات باحثي وراصدي ظاهرة التغييب الفكري وتزييف الوعي.. أتهمه الأستاذ الدكتور، “عبدالباسط عبدالعاطي”، في دراسته عن الإعلام وتزييف الوعي، بأنه قام بدور مؤثر في تخدير وتنويم وتزييف الوعي الجماهيري، إذ جاءت مضامين كتاباته غير ملتزمة بقضايا المجتمع المصري ومشكلاته الجوهرية، فقد تهرب من المشكلات الأساسية والجوهرية وتعرض لمشكلات جزئية ثانوية وتعمير نفاق المسؤولين وتملقهم، كما أن تفسيره لما عرض من مشكلات جاء بغير أسبابها الحقيقية حتى يمكن تمييع القضايا وتخدير الوعي، هذا إلى جانب أن القيم التي يبثها كلها قيم سلبية بعيدة عن التقدم والإيجابية.. وكشف الدكتور، “عبدالباسط”، عن بعض الأساليب التي يتبعها “أنيس منصور” في تزييف وعي الجماهير؛ وأبرزها تشويه الواقع وتجزئته وإيهام القاريء بأنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن والهروب من المشكلات الحقيقية الجوهرية والتغافل عن التفسير وطرح البدائل وإلقاء اللوم على الجماهير وإرجاع ما يعانونه من مشكلات إلى أسباب خاصة بهم.. وإنتهى الدكتور “عبدالباسط” إلى أن “أنيس منصور” في وادٍ وكل المجتمع بآماله وآلامه في وادٍ آخر. (6).
أما بالنسبة لموقف “أنيس منصور” الخاص من الجنس؛ فقد أهتم أهتمامًا كبيرًا بالكتابة عن الجنس بشكل مكشوف يدغدغ مشاعر المراهقين، ليس فقط لكي يضمن لكتاباته قدرًا كبيرًا من الإنتشار؛ وإنما أيضًا لكي يؤدي الأغراض السياسية المستهدفة، وقتها، وهي صرف الناس عن قضاياهم الحقيقية.. ولذلك نجد أن “أنيس منصور” يهتم؛ منذ بداية حياته الصحافية في عام 1947، بترجمة قصص “ألبرتو مورافيا”، الكاتب الإيطالي اليهودي، الذي أشتهر بتحليل غرائز المرأة ونزواتها، كما أهتم “أنيس منصور” أيضًا بترجمة قصص “غوستاف فلوبير”، وهو كاتب فرنسي من كُتاب القرن التاسع عشر أهتم بتأليف القصص الجنسية لدرجة أن الحكومة الفرنسية قدمته للمحاكمة بتهمة التمكين للأدب الخليع من التسلل إلى الجمهور وبعد محاكمة عاصفة وبخته المحكمة توبيخًا شديدًا.
وأهتمام “أنيس” بالجنس كان وراء إبتداعه لأدب الأقوال اللاذعة في كتابه (قالوا)، وهي أقوال تصور العلاقة بين الرجل والمرأة في عبارات موجزة وساخرة، كما كان الجنس وراء كتابات “أنيس” التي تناولت العلاقة بين الرجل والمرأة باحثًا، كما يدعي، عن حقيقة هذا المخلوق الذي ولد من ضلع آدم وكان ضلعًا معذبًا ومحيرًا.. وتحفل كتابات “أنيس منصور” دائمًا بالتعبيرات الجنسية الصارخة كلما وجد إليها سبيلًا، فهو حتى عندما يصف مصابيح الغرفة لا يفوته أن يكون وصفه جنسيًا صارخًا حتى أن الشاعر اليمني، “عبدالله صالح”، أنتقده في وصفه مصابيح الغرفة بنهد فتاة، إذ قال “أنيس منصور”: “أن المصابيح بالغرفة أراها شيًا آخر.. أراها مضيئة خافتة كأنها نهدا فتاة جميلة.. فتاة خرافية ترضع الليل لبنًا مخلوطًا بالشاهي”.
وعندما إتجه “أنيس منصور” إلى الفلسفة الوجودية؛ لم يكن دافعه ما إستهدفته الفلسفة الوجودية من البحث عن الحرية الإنسانية بوجه عام والتركيز على إنسانية الإنسان وحرية إرادته وتحرير إختياراته، بل أصبحت الوجودية عند “أنيس منصور” هي حرية الجنس والتحلل من القيم الأخلاقية وعدم الإيمان بشيء أو الإنتماء لشيء غير المتعة واللذة.
ولذلك لا يخجل “أنيس منصور” عندما يدعو صراحة إلى الإباحية والإنحلال؛ فيدعو إلى تكوين جماعة المنتفعين بزوجات الآخرين، محرضًا الشباب على عدم الزواج مع معاكسة الزوجات.. كما يكتب داعيًا إلى إعادة البغاء، فيقول: “كان في مصر شارع واحد للبغاء يتنفس فيه المراهقون، أما الآن بعد إلغائه فقد صار هناك مئة شارع ومن الأفضل أن يكون هناك شارع واحد فقط”.
أما بالنسبة لصناعة الخرافة، التي برز فيها “أنيس منصور” وكان له فيها باع طويل، فإن صناعة الخرافة هي سياسة إمبريالية أصيلة تستهدف محاربة الحقيقة وتضليل وعي الشعوب بحصارها بالجهل والخرافة.. وهذه هي المهمة التي أعدت الأقدار “أنيس منصور” لها، فقد برع “أنيس منصور” في فنون الأكاذيب المحبوكة وتفوق في صناعة الأساطير الخرافية ونجح في تضليل الشعب وتزييف وعيه. (7).
وكما ذهب “د. أبو الأسعاد”: فقد خرج “أنيس منصور” على الناس عام 1959 بمقالات، قدر لها مخططوها أوسع درجات الإنتشار؛ فكانت تنشر في أماكن بارزة من صحيفتي (الأخبار) و(أخبار اليوم) وفي مجلتي (الجيل الجديد) و(آخر ساعة).. وكانت هذه المقالات تدور حول مشاهداته في رحلته حول العالم، وهي الرحلة التي بدأها من القاهرة إلى الهند وسيلان وأندونيسيا إلى أستراليا والفلبين وهونغ كونغ واليابان وجزر هاواي ثم أميركا فأوروبا.. وبدلًا من أن يتعمق “أنيس” فيما يشاهد من ظواهر بحثًا عن أصولها العلمية وخصائصها الموضوعية، نجده على حد تعبير الشاعر اليمني، “عبدالله صالح”، يلتقط معلوماته من مصادر غير موثوق بها مبالغًا فيما يرى ويسمع غير أمين فيما ينقل، مستضعفًا عقول القراء فيما يكتب.. وبدلًا من أن يخرج القارئ من هذه المقالات بما يمكن أن يوسع آفاقه وأفكاره عن تجارب الشعوب الأخرى وأنماط الحياة وإبداعاتها في بلاد أخرى، نجده يخرج من مقالات “أنيس منصور” ببدعة تحضير الأرواح عن طريق السلة، ومؤدى هذه البدعة أنه عندما كان في زيارة مدينة “غاكارتا” بأندونيسيا حضر جلسة تحضير الآرواح بالسلة، حيث أحضرت سلة غطي أعلاها بقطعة من قماش ووضع أسفلها قلم رصاص وورقة مجاورة للقلم ثم أطلق البخور وأستدعيت الروح ووجهت إليها الأسئلة فتحركت السلة وكتب القلم الإجابة على الورقة.. وإدعى “أنيس منصور” أنه قد تأكد من صدق التجربة، فالسلة تتحرك وتكتب بلغات مختلفة لا يعرفها معظم الحاضرين كالألمانية والإيطالية واليونانية واللاتينية، وأدعى “أنيس” أنه قد أستحضر روح والده ووجد أن خط السلة طبق الأصل من خط والده وخصوصًا إمضاءه، وأدعى “أنيس منصور” أنه عندما إستدعى روح الموسيقار “بتهوفن” أرتجفت السلة بجنون؛ وعندما إستدعى روح الراقصة “شفيقة القبطية” كانت السلة ترقص على واحدة ونصف. (!)
وأحدثت كتابات “أنيس منصور” الآثر الذي أستهدفه مخططوها؛ وهو شغل الناس عن متابعة مشكلات المجتمع وقضاياه ومعاركه وعزل الجماهير عن متابعة التغيير الثوري والمشاركة بإيجابية في النضال ضد الإمبريالية، فأنتشرت هذه البدعة بين الناس وأصبحت حديث مجالسهم ومحل تجاربهم.
وما كادت هذه البدعة تخمد في أواخر الخمسينيات؛ حتى خرج علينا “أنيس منصور” في بداية الستينيات ببدعة أخرى، وذلك حتى يظل الناس منشغلين عن قضايا مجتمعهم الحقيقية سلبيين في مواجهة تحدياتهم الحضارية.. وكانت البدعة الجديدة هي بدعة السمكة التي تربيها في منزلك وتشرب ماءها كل صباح فتشفيك من جميع الأمراض.. وبدلًا من أن يتحدث الناس عن الإشتراكية ويتكلمون عن تجربة التأميم كانت السمكة هي محل حديثهم وموضع تجاربهم.
ولأن تغييب العقل والتعلق بالأوهام هي سياسة إمبريالية أصيلة يستخدم فيها بعض الكُتاب كطابور خامس يخرب وجدان الشعب وعقله، فـ”أنيس منصور” لا يمل حديث الخرافة ولا حكايات الجن والعفاريت والأشباح.. وهو يطاردك بإستمرار ويلح عليك دائمًا آملًا في أن يقتنص عقلك ويفسد وجدانك ويلغي تفكيرك فتحفل مقالاته وكتبه دائمًا باستمرار بحديث الخرافة والسحر والشعوذة.. فإذا فصل من عمله فقد تنبأ له العراف بذلك وإذا مات “العقاد” فقد حدد له المنجم الريخ وفاته.. وإذا مات بعض علماء المصريات خرج علينا “أنيس منصور” بكتابه عن (لعنة الفراعنة) وراح يحكي ما شاء له خياله المريض من قصص خرافية وحواديت أسطورية يشد بها القارئ ويستهزيء بعقله دون أن يراعي أمانة النقل ولا علمية التفسير.. وإذا ظهرت بعض النيازك في الأفق أو بعض الحفريات الآثرية والغريبة أسرع “أنيس منصور” للحديث عن (الذين هبطوا من السماء) و(الذين صعدوا إلى السماء) مدعيًا أنه قد تأكد لدى العلماء والمتخصصين في الحضارة القديمة أنه كانت هناك عصور أزهى وأكثر تقدمًا من الحضارات القديمة المعروفة كالفرعونية والآشورية والبابلية؛ وأن هناك شعوبًا عظيمة لا ندري أسمها ولا نعرف لغتها أسست هذه الحضارات ثم أختفت في ظروف غامضة من هذه الأرض ولم تترك لنا أثرًا من علم أو صناعة بعد أن تعرضت الأرض لكارثة كونية محت آثارها منذ ستة عشر ألف سنة قبل الميلاد.. ويدعي “أنيس منصور” أن الإنسان ليس هو الكائن العاقل الوحيد في هذا الكون وأن هناك كائنات أعقل وأذكى تعيش على كواكب أخرى كثيرة وأنها جاءت إلى الأرض وأقامت وعلمت الإنسان ثم عادت، ولا يقدم “أنيس” لشطحاته هذه أي أسس علمية يمكن أن يطمأن إليها أو يعتمد عليها.
وإذا زار “أنيس منصور” بعض البلاد، كـ”اليمن”، وسجل مشاهداته في كتاب (غريب في بلاد غريبة)؛ صدق عليه قول الشاعر اليمني “عبدالله صالح”: “بأن قصارى جهد أنيس منصور في تأليف كتبه أن يضع القاريء تحت تأثير مغناطيسية يشوقه بلغته الدارجة الساخرة ويضحكه بشتى أساليبه التهكمية ويبتدع من عندياته ما يطرز به حديثه ليبدو مشوقًا ومرغوبًا حتى إذا أنهكت القارئ القراءة أرتمى على ظهره تحت سنِة من النوم وما أن يستيقظ ويفرك عينيه حتى يرى نفسه قد وضع تحت مخدر من مخدرات أنيس منصور وصحى دون أن يجد نتيجة وأجهد نفسه دون حصيلة وتمخض الجبل عن فأر وأساطير أنيسية لا تمت للحقيقة بصلة”. (8).
…………………………………………………………..
المصــادر:
1 – “مختارات من الحياة اللذيذة” – صلاح عيسى – مثقفون وعسكر – ج 1 – الهيئة المصرية العامة للكتاب – صـ 50 إلى 53.
2 – صلاح عيسى – مصدر سابق.
3 – “بين الصحافة والسياسة” – محمد حسنين هيكل – دار المطبوعات – بيروت – الطبعة الأولى.
4 – “الصحافة المصرية.. ونزييف الوعي” – د. محمد أبو الأسعاد – دار الثقافة الجديدة – طبعة أولى 1988.
5 – د. محمد أبو الأسعاد – مصدر سابق.
6 – “الإعلام وتزييف الوعي” – د. عبدالباسط عبدالمعطي – دار الثقافة الجديدة 1979.
7 – د. محمد أبو الأسعاد – مصدر سابق.
8 – د. محمد أبو الأسعاد – مصدر سابق.