3 نوفمبر، 2024 12:38 ص
Search
Close this search box.

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (3) .. منهجية الخلط والتلويث

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (3) .. منهجية الخلط والتلويث

خاص : كتب – محمد البسفي :

لم تقتصر بالطبع عملية التزييف الممنهج للتأريخ على جماعة “الإخوان المسلمين”، سواء بصورتها المحلية داخل الدولة المصرية أو بتكتلاتها الأممية المنتشرة عالمياً داخل البنية السياسية لعدة دول, وإن امتزجت رواياتها التأريخية واختلطت لحد التطابق, في بعض الأحيان، بالرواية التي يتعمد بثها وتسريبها النظام الحاكم محلياً, حتى ولو بشكل غير مباشر, خاصة مع اتساع وتشعب خريطة “الإسلام السياسي” وتغلغلها الحثيث داخل المجتمعات المتباينة.. فأصبحت هناك بالتالي روايتين تأريخيتين, الأولى “شعبوية” تسجل ما تريد بثه وتصديره الجماعات السياسية بما يخدم أهدافها السياسية والإجتماعية وغيرها مما يفيد توسعة قواعدها الجماهيرية سواء من الأتباع أو المناصرين، وبرزت “جماعة الإخوان المسلمين” في هذا المضمار، لاسيما وقد جندت جل مجهوداتها الثقافية والدعائية لهذا الغرض منذ زمن نشأتها الأولى.. والرواية الثانية “دولياتية” – إن صح التعبير – وهي ما تحرص على تدوينه وبثه، سواء بطريق مباشر مثل التعليم المنتظم أو بأسلوب غير مباشر مثل التسريب الشعبوي أو الدعائي، أجهزة الدولة التنفيذية والنافذة, وتدور في فلك هاتين الروايتين دوائر متعددة من التسجيلات والتدوينات التأريخية الزائفة التي تمتزج وتتضافر من الروايتين الرئيسيتين لتخدم الأهداف المشتركة لجهات تصديرهما في لحظة تاريخية ما.

فمثلاً في الوقت الذي شاعت وانتشرت فيه الرواية التي ساقها “حسين محمد أحمد حمودة” (1) – ومن قبله “محمود لبيب” -، الضابطين الإخوانيين، عن ظروف وملابسات نشأة تنظيم “الضباط الأحرار” داخل الجيش المصري في نهايات عقد الأربعينيات من القرن المنصرم، وانبساطها على كافة أدبيات وكتابات عناصر الإسلام السياسي ونخبته بتفاصيل وأحداث ربما أكثر دعائية.. تظهر روايات أخرى – من المؤكد أنها أكثر تشويقاً وإثارة – مقابلة تبثها الأجهزة الدولياتية بطرف خفي.

الرواية الدولياتية..

هي رواية أو تدوينة تأريخية تشكل العماد الرئيس لمنظومة التزييف المؤسسي الممنهج للتأريخ، يتم بثها ونشرها بموازاة الرواية الرسمية التي تتبناها الدولة بمؤسساتها التعليمية والإعلامية، وتكون مختلفة عنها كلية أو مشابهة في بعض جوانبها مضيفة أحداثاً وتفاصيل تضخيمية أكبر وأوسع بهدف التشويق وشد الإنتباه ظاهرياً أو إثارة البلبلة والتشكك في وقائع تأريخية محددة أو أشخاص تاريخيين بعينهم، وتظهر عن وسيط أو مصدر خارجي وبعيد تماماً عن أجهزة الدولة المعلنة، ويتم إنشاؤها وتوظيفها في ظروف تاريخية محددة من أجل أهداف تتنوع بين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها..

ورغم كثرة عدد النماذج والروايات التي تمثل التزييف المؤسسي الممنهج، “دولياتياً”، والذي أستهدف أغلبها – في تصميم لافت للنظر – تأريخ فترة عقدي الخمسينيات والستينيات، ليس في مصر فقط وإنما انسحب بالتالي على أغلب الدول المحورية جيوسياسياً في المنطقة العربية، وظهورها وإنتشارها بكثافة خلال السنوات السبع الماضية وتحديداً بعد الإنتفاضات الشعبية العربية لعدة أسباب، أجملنا بعضها وسوف نوضح البعض الآخر بالتفصيل تباعاً.. إلا وأننا سوف نلتزم بنفس الحدث التأريخي الذي عرضنا له في استعراض نموذج التزييف الممنهج للتأريخ “شعبوياً” مع تدوينات وأدبيات جماعة الإخوان المسلمين، وهو وقائع وملابسات نشأة “تنظيم الضباط الأحرار” في نهاية عقد الأربعينيات من القرن المنصرم.

في النصف الثاني من عام 2012 ظهر بالأوساط الثقافية والسياسية – على استحياء – كتاب (كوابيس جمهورية الخوف الأولى)، وهو كما عَرفته الصحافة الثقافية وقتها بأنه الجزء الثالث من ثلاثية، في التحليل السياسي والتأريخي، للكاتب الصحافي، “طارق المهدوي”، صدر الجزء الأول منها عام ٢٠٠٩، عن “دار الهلال” بعنوان (أوراق من دفتر الأوجاع)، والثاني عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب” عام ٢٠١٢، بعنوان (حكايات الجوارح والمجاريح)، ورغم تعطل كتاب (كوابيس جمهورية الخوف الأولى) قليلاً عن الصدور عن هيئة الكتاب أيضاً، بسبب مشاكل إدارية وبيروقراطية، إلا وأنه وجد طريقه إلى النشر في دوريات وزارة الثقافة المصرية بالإضافة إلى حرص مؤلفه على نشره على موقع (الحوار المتمدن)، بغية إتاحة الثلاثية كاملة للتداول بين القراء وخاصة فئة الشباب منهم على شبكة الإنترنت، كما يقر بذلك الكاتب في مقدمة كتابه، وبالفعل نال الكتاب – بأجزاءه الثلاث – رواجاً ملحوظاً خاصة بين المواقع المنتسبة والمناصرة للإخوان المسلمين وتيارات الإسلام السياسي.. وبرغم التعريف الذي تسوقه مقدمة الجزء الثالث بأنه يتحدث عن كوابيس مصر من عام 1952 حتى 2012، والمتضمن شهادات عن أخطاء الأنظمة السابقة من “عبدالناصر” حتى “الإخوان”، إلا وأن الكتاب يعتبر – مثل جزئيه السابقين له – خليطاً بين السيرة الذاتية والتحليل السياسي والتأريخي، مزج على نهج “العصف الذهني” بين حكايا ومرويات شخصية بطلها الكاتب ونتائج سياسية معتمدة على حوادث تاريخية أغلبها وقعت في الحقبة الممتدة بين ما بعد الحرب العالمية الثانية ويومنا الحاضر.

ومن المفيد بدون شك أن نتعرف على جوانب من شخصية وحياة “المهدوي”؛ قبل التعرض للمشوق والمثير من مروياته وقصصه التأريخي، وذلك لما يضفيه هذا التعرف على ما جاء به من أبعاد ومساحات ربما تفسر لنا الكثير في إشكالية التزييف المؤسسي الممنهج “دولياتياً” للتاريخ وجدليته مع حركة قرينه من التزييف الشعبوي.. فلن يجهد نفسه كثيراً الباحث عن شخصية “طارق المهدوي”؛ فسرعان ما يجد الغزير من المعلومات عنها منثورة على طول كتاباته المتنوعة وخاصة بين دفتي كتاب (كوابيس جهورية الخوف الأولى)، مقدمة بقلمه هو.. فهو ابن الكاتب والمترجم الراحل “إسماعيل المهدوي”، المناضل اليساري المعروف بمعارضته للنظام المصري، وكان لذلك ضيفاً شبه دائم على المعتقلات الناصرية والساداتية، بداية من “التجريدة الأولى” – الحملة البوليسية الناصرية الأولى على الشيوعيين في أواخر الخمسينيات – وحتى إيداعه عنبر السجناء الجنائيين بمستشفى الأمراض العقلية بمنطقة العباسية القاهرية في الفترة من 1980 وحتى 1987.. لدرجة أن “إسماعيل المهدوي” قد رزق بولده “طارق” – من زوجته المناضلة الاشتراكية “زينات الصباغ” – داخل إحدى المعتقلات وعاش الوليد في حضن أمه داخل قبو المعتقل لمدة شهور.   

لهذا فكان من الطبيعي أن يشب وينخرط، الشاب “طارق”، في صفوف المعارضة ممارساً لنشاطاته السياسية تحت جناح حزب التجمع التقدمي، الذي تم تشكيله وإنشاءه في النصف الثاني من عقد السبعينيات كمظلة تجمع أطياف اليسار المصري.. “رغم وقوعي المبكر بين أنياب ومخالب الفاشية الشمولية لجمهورية الخوف منذ ميلادي داخل أحد سجونها الرهيبة، حيث كان أبواي رهن الاعتقال الاستثنائي الطويل على خلفية نشاطهما الماركسي، فقد وجدتُني مع انتصاف سبعينيات القرن العشرين منخرطاً كغيري من أبناء جيلي الماركسيين في مسيرة الكفاح الشعبي المتواصل ضد مثلث الاستبداد والفساد والتبعية على كافة المحاور النظرية والعملية، والتي شملت فيما شملته التثقيف والإعلام والتوجيه والتنظيم والعمل الجماهيري والنقابي والأهلي والاتصال والتنسيق السياسي وغيرها، ولما كان الماركسيون هم القادة الميدانيين لاحتجاجات يناير 1977 الثورية فقد أعادت جمهورية الخوف هيكلة أجهزتها المعنية بالأمن السياسي بمجرد إخمادها العسكري العنيف لتلك الاحتجاجات على أساس الانتقام منهم، وأنا بينهم حيث اتفقت أجهزة الأمن السياسي المعاد هيكلتها على تصنيفي منذ ذلك الحين بالمشاغب الماركسي العنيد، مع تفاوت التقديرات من جهاز لآخر حول درجة الخطورة النسبية التي تشكلها مشاغباتي على أمن مكونات جمهورية الخوف…” (2) .. ورغم المبالغات التضخيمية لدوره الشخصي حينما يتذكر بعض النشاطات السياسية التي قام بها – بإقرار عدد من الشخصيات والقيادات اليسارية المعاصرة لتلك الأحداث -، إلا وأن شهادته السابقة عن نفسه تأتي متناسقة مع الخط العام كونه شخصية معارضة للنظام الحاكم، ذلك السياق الذي سرعان ما “ينكسر” منحرفاً حينما نعلم – وعبر قلمه نفسه أيضاً في كتابات أخرى – أنه تم تعيينه في بدايات عقد الثمانينيات كاتباً صحافياً بهيئة الإستعلامات المصرية، المعروف عنها تبعيتها الإدارية والتنفيذية لأجهزة الأمن السيادية، قبل أن يتم إنتدابه للعمل مستشاراً صحافياً وإعلامياً بنفس الهيئة الملحقة لرئاسة الجمهورية، بل يعترف بأنه عمل لسنوات – تحت لافتة الاستشارية الإعلامية – مرؤساً مباشرة من اللواء “عمر سليمان”، رئيس جهاز المخابرات العامة في عهد الرئيس “حسني مبارك”، في بعض المهام “الدبلوماسية” خارج البلاد خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

منهجية الخلط والتلويث..

( 1 )

كما أسلفنا.. قدم الكاتب الصحافي، “طارق المهدوي”، مؤلفه (كوابيس جمهورية الخوف الأولى) – بجزئيه – منطلقاً من أسلوب “العصف الذهني” مزجاً بين السرد التأريخي والتحليل السياسي/الاجتماعي والسيرة الذاتية الخاصة بالمؤلف شخصياً، فكثيراً ما نجد على امتداد كتاباته توكيداً متكرراً على أنه مطارد بكافة أنواع وأساليب الترصد والمطاردة والمتابعة الإنتقامية؛ من قبل مختلف القوى وتكتلات الضغط، بدءاً من التنظيمات الشيوعية العالمية وليس إنتهاءاً بالأجهزة والمؤسسات الأمنية المحلية بضغط من نظرائها من الأجهزة الأمنية العالمية (!).

كما نجده حاضراً في كافة مروياته التأريخية، التي يحرص على ألباسها ثوب الأسرار ذات “الكشف من العيار الثقيل”، التي لا يعلم عنها أحد شيئاً، سواه هو الذي شاءت له الكثير من الصدف والظروف الإطلاع عليها.. حينما أراد التعرض إلى نشأة تنظيم “الضباط الأحرار” الشهير داخل الجيش المصري، يسوق كافة المعلومات و”الأسرار” التي يفجرها حول ذلك التنظيم عبر شخصية يقدمها لنا الكاتب مجهلة الاسم بأي إشارة واضحة أو صريحة، ولكنه لا يبخل على قراءه بتوضيح أنها إحدى عناصر “تنظيم الضباط الأحرار”، والذين انقلبوا على مليكهم واستولوا على حكم البلاد وتقلبوا في مناصبه بين التجارب الناصرية والساداتية داخل مؤسسات الدولة الأمنية والتنفيذية مستفيداً منها جميعاً ليصل إلى محطة “الحزب الوطني الديمقراطي”، الذي تولى داخله أحد المناصب القيادية تحت رئاسة “حسني مبارك”، لينتهي به الحال داخل “دار رعاية معاقي الإصابات الجسمانية والعجزة والمسنين الكائنة بضاحية التجمع الخامس في محافظة القاهرة” على أيدي أبناءه بعد أن أستولوا على كافة أسهمه في مجموعة شركاته الاستثمارية الكبرى، وقبلها تم أزاحته من كافة مناصبة الحكومية والحزبية لصالح “تكتل جمال مبارك” ضمن مشروعه الكبير لوراثة والده في حكم مصر.. ليلتقي الكاتب بذلك العجوز البائس حالياً والضابط السابق داخل دار الرعاية ويبدأ شلال الاعترافات والتكشفات..

ويمضي “المهدوي” في سرده عن “بطل” قصصه المشوق، والذي يمتاز بالشعر الأشقر والملامح التركية (!!).. قائلاً: “قبيل الحرب العالمية الثانية تم استدراجه بمهارة احترافية عالية لتجنيده داخل صفوف إحدى الجمعيات السرية, ولم يكن مسموحاً له في حينه بالحصول على أية إجابات معلوماتية لأسئلته القلقة حول الجمعية سوى أنها تضم الفدائيين الوطنيين الساعين لإجلاء قوات الاحتلال البريطاني عن مصر بواسطة الكفاح المسلح, إلا أنه بمجرد إنتهاء الحرب توصل إلى إجابات لغالبية الأسئلة التي طالما أقلقته، حيث أدرك أنه كان قد أصبح عضواً قاعدياً عاملاً في الجمعية السرية المعروفة باسم «الحرس الحديدي», وهي المختصة حصرياً بالعسكريين ضمن عدة جمعيات سرية أخرى موزعة على مختلف الفئات الاجتماعية للشعب المصري مثل جمعيتي «الفلاح» و«الصنائع» وغيرهما, واكتشف أن الجمعية السرية التي ضمته لا تمارس الكفاح المسلح وإنما بعض أشكال العنف، لاسيما الاغتيالات ذات الطابع العشوائي, والتي تطول أحياناً مواطنين مدنيين لا يحملون فقط الجنسية البريطانية بمن فيهم المصريين تحت دعوى تعاونهم مع قوات الاحتلال, كما تبين له أن الجمعية تعمل من أجل تحقيق المصالح الضيقة لرعاتها الحقيقيين وهم القصر الملكي وبعض أجهزة استخبارات الدول الكبرى المعادية لبريطانيا وفي مقدمتها ألمانيا النازية, دون علم أعضائها القاعديين المتحمسين, ليتم بذلك استغلال الجمعية؛ ليس فقط في إلحاق الخسائر بقوات الاحتلال البريطاني وأعوانها، ولكن أيضاً في إقصاء الخصوم والمنافسين لإحكام السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع, ضمن الصراعات التاريخية الممتدة بين عدة أطراف محلية وإقليمية وعالمية حول السلطة والنفوذ في مصر ذات الموقع الجغرافي الإستراتيجي والثروات الاقتصادية الهائلة, وقد تضاربت شهادات زملائه من أعضاء الحرس الحديدي وتقديراتهم بشأن البدايات الأولى لنشأة جمعيتهم السرية, فمنهم الذي أرجعها إلى وقوع الاحتلال البريطاني لمصر في القرن التاسع عشر ومنهم الذي أرجعها إلى الحملة الفرنسية على مصر في القرن الثامن عشر, إلا أن بعضهم تمادوا في التقدير ليرجعوها إلى القرن الثاني عشر بزحف الصليبيين نحو مصر تحت رايات دينية مسيحية, الأمر الذي اضطرت معه القيادة المدنية للدولة الفاطمية القائمة في مصر آنذاك إلى الاستعانة بالعسكريين المحترفين من المسلمين غير المصريين كالأيوبيين والمماليك والعثمانيين, هؤلاء الذين جلبوا معهم إلى الأراضي المصرية وسائل دفاعية جديدة, ليستخدموها بعد انتصارهم على الصليبيين في صراعاتهم البينية الداخلية من أجل السلطة والنفوذ, وهي الوسائل التي ضمت الجمعيات السرية عموماً وجمعيات العنف السري على وجه الخصوص، ورغم تضارب الشهادات والتقديرات حول بدايات النشأة التاريخية الأولى لجمعية «الحرس الحديدي» السرية, يتفق جميع أعضائها على أن بدايتها الحقيقية ذات التأثير الفعلي في الواقع الميداني المصري كانت خلال ثلاثينيات القرن العشرين قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية التي قادت ألمانيا النازية أحد طرفيها بين عامي 1939 و1944 !!”.

( 2 )

إحدى المحافل الماسونية المصرية

هنا نجد “المهدوي” قد خلط، في معرض سرده السابق عن تنظيم الضباط الأحرار، بين عدة تكتلات وتنظيمات متنوعة ومختلفة على مدار تطور الحياة السياسية/الاجتماعية المصرية خلال القرنين الماضيين.. فلم يكتفي بالخلط بين تنظيم “الضباط الأحرار” العسكري المعروف بنشأته على يد “جمال عبدالناصر” بمعاونة بعض صغار الضباط من أصدقاءه قبل أن يتطور إلى تنظيم “عسكري” ذا توجه سياسي يسعى إلى السلطة، كما يؤكد على ذلك جميع المؤرخين بأغلب مستوياتهم بداية من الأكاديمي “د. عاصم الدسوقي” وحتى الصحافي “صلاح عيسى”، وبين تنظيم “الحرس الحديدي” الذي تم تشكيله داخل صفوف الجيش المصري من مختلف مستوياته التراتبية أبان الحرب العالمية الثانية بأمر الملك “فاروق”، في خضم خلافاته المتكررة مع حزب الوفد من جهة ومع الإنكليز – القوى المحتلة للبلاد آنذاك – من جهة أخرى بعد حادث أقتحام الدبابات البريطانية لقصر عابدين عام 1942، لذا فكان لهذا التنظيم بعض وقائع الاغتيال السياسي التي نسبها إليه بعض المؤرخين والمعاصرين له، كما ثبت عليه محاولات اتصاله بالقوات الألمانية النازية أثناء وقبل معركة العلمين. بل أصر الكاتب على مزج هذين التنظيمين – المختلفين – بالمحافل والتجمعات الماسونية التي يقول عنها الكاتب والباحث المصري، “علي شلش”، في كتاب (الماسونية في مصر): “المشهور أن مصر عرفت المحافل الماسونية عقب غزو بونابرت سنة 1798، وكان جرجي زيدان أول من أرخ في العربية لتاريخ هذه المرحلة وعنه نقلت المصادر العربية التالية بعد صدور كتابه 1889″، مضيفاً: أن “زيدان لم يكن محايداً في تأريخه، وأنه كان ماسونياً متحمساً وقت تأليفه لهذا التأريخ، وأنه لم يكتب بعد هذا الكتاب عن الماسونية في مجلته الهلال أو غيرها حتى وفاته 1914، سوى بضعه أسطر في كتابه تاريخ مصر الحديث”.

تلك المحافل الماسونية التي خلع عليها كٌتابها والمبشرين بها الكثير من البطولات الحماسية والتاريخ الممتد، وكان من أشهرهم “جورجي زيدان” و”شاهين مكاريوس”، بغرض الترويج والتسويق لها، نجحت في جذب كثير من النخبة المصرية والعربية، “في عشرينات القرن العشرين انضمت أسماء لامعة مثل ولي الدين يكن، وإبراهيم اليازجي، وخليل مطران، وحفني ناصف، وإسماعيل صبري، وأحمد فتحي زغلول، ومحمود رمزي نظيم، وأحمد زكي أبو شادي من الأدباء والشعراء والمثقفين، وسعد زغلول، وعدلي يكن، وعبد الخالق ثروت، وعلي شعراوي، ومحمد حافظ، ورمضان وفؤاد أباظة من السياسيين، وعمر سعيد حليم، وسعيد محمد علي حليم، وسعيد داود من الأمراء والنبلاء، والشيخ حسن مأمون من رجال الدين، واللواءان علي شوقي، ومحمد فهمي الكمتيني من ضباط الجيش، وفي الثلاثينيات انضمت أسماء أخرى مثل يوسف وهبي الممثل، والسياسي أحمد ماهر، ومحمود رسمي ومختار زاهر من الجيش، وفي الأربعينيات تكاد الصحف والكتب الماسونية تختفي لكن يظل انضمام الشخصيات العامة مثل فؤاد سراج الدين، والشيخ محمد أبو زهرة، ولم يكن سعد زغلول عضواً عاملاً في الماسونية، وإنما كان منصبه نائب أستاذ أعظم شرفياً”. (3).

كل تلك التكتلات والتجمعات السياسية/الاجتماعية التي عج بها الشارع السياسي المصري عبر حقب تطوره، انبثق داخلها بعض التنظيمات المقاومة للمحتل أو القوى الاستعمارية، والتي انتهجت أساليب العمل “السري” وآلياته بطبيعة الحال والمرحلة، وكان من أشهرها تلك التنظيمات التي نضج بها المشهد المصري في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن الماضي بعد فقد الحراك الوطني الثقة بآليات وأساليب العمل الحزبي المعلن – آنذاك – وعلى رأسها مناهج “حزب الوفد” في تعاطيه مع قضية الاستقلال الوطني أو مع القضايا الاجتماعية التي أصبحت أكثر إلحاحاً وبروزاً، كما ذهب لذلك أغلب المؤرخين والباحثين.

( 3 )

وننتقل مع “طارق المهدوي” إلى منطقة تالية في سرده الذي أراد به التأريخ، قائلاً: “بمجرد اندلاع الحرب العالمية الثانية اعتبرت الاستخبارات النازية الألمانية جمعية «الحرس الحديدي» إحدى أهم القواعد الثابتة المؤهلة لدعم وتلبية احتياجات محطتها الخارجية الأكبر الكائنة في مصر, كما اعتبرتها أحد أهم السواتر الصالحة لتغطية مجمل أنشطة تلك المحطة, الأمر الذي أكده لاحقاً «مايلز كوبلاند» رئيس محطة الاستخبارات المركزية الأميركية بمصر خلال الفترة نفسها في كتابه الشهير (لعبة الأمم)، لذلك فقد قام الألمان بحشد وتعبئة كل إمكاناتهم المادية والمعنوية لإعادة تنظيم جمعية «الحرس الحديدي» وتطويرها على كافة المحاور السياسية والأمنية والعسكرية, والتي شملت فيما شملته استجلاب أكفأ الكوادر العقائدية والاحترافية لتدريب أعضاء الحرس الحديدي على مختلف استخدامات التقنيات الأحدث في حينه, والخاصة بمجالات جمع وتدقيق المعلومات وتوظيفها ومهارات الاتصال والاختراق إلى جانب التحركات الميدانية لتنفيذ الاغتيالات والتصفية الجسدية وما شابه من عمليات العنف المباشر, بالإضافة إلى العمليات المستترة بقصد التأزيم والترويع والتشتيت والسيطرة وغيرها مما يسميه المصريون «فنون اللهو الخفي»، وقد حصل أعضاء الحرس الحديدي عبر هذه التدريبات على احتياجاتهم من التثقيف والتأهيل النوعي وأوراق الهوية الزائفة, التي ساعدتهم في اختراق مؤسسات الدولة السيادية والتنفيذية والتشريعية والقضائية والأحزاب والتنظيمات السياسية ذات التأثير الجماهيري كالوفد والشيوعيين والإخوان المسلمين ومصر الفتاة, كما ساعدتهم في شغل وتولي عدة مواقع قيادية هنا وهناك تسمح لهم بتوجيه المؤسسات والأحزاب والتنظيمات المخترقة ودفعها نحو ما تريده المخططات الألمانية، وفي السياق ذاته جلب الألمان إلى الأراضي المصرية من خلال «الحرس الحديدي» الوسيلة القذرة المعروفة باسم «فتيات السيطرة», وذلك بالتجنيد المنظم والواسع للمنحرفات ذوات التطلعات غير المستحقة من المصريات وبنات الجاليات الأجنبية المقيمة مع الاستقدام السخي لمنحرفات الدول المجاورة, ليحصلن بدورهن على احتياجاتهن من التثقيف والتأهيل النوعي وأوراق الهوية الزائفة التي ساعدتهن في الإيقاع بالعناصر البارزة المستهدفة هنا وهناك, لدفعهم نحو ما تريده المخططات الألمانية أو على الأقل لاستدراجهم إلى عضوية جمعية «الحرس الحديدي» السرية تمهيداً لاستخداماتهم المستقبلية، ومن خلال الجمعية استحدث الألمان وسيلة التلاعب بالصورة الذهنية لمنح الأعضاء والمندوبين وفتيات السيطرة قبولاً مجتمعياً زائفاً يساعدهم في عمليات الاختراق والترقي صعوداً نحو ما تريده المخططات الألمانية, وذلك عبر تنقية تواريخهم وأموالهم وشخوصهم من العفن الذي يملأها والقاذورات التي تحيط بها ثم إغراقهم بمكسبات اللون والطعم والرائحة وتسليط الأضواء على إيجابيات وهمية يتم إلصاقها بهم زوراً, بما يقتضيه ذلك من تلميعهم داخل دوائر الانتشار المجتمعي آنذاك كالمسرح والسينما والآداب والفنون والصحافة والإذاعة والصالونات والمنتديات الثقافية والجوائز المفبركة, وما شابه من «فنون غسيل البشر» المستمرة في مصر حتى الآن على طريقة هيئة الاستعلامات النازية الألمانية !!”.

حرص الكاتب في معرض تحليله للمعلومات التي يسوقها مستشهداً برجل الاستخبارات المركزية الأميركية المخضرم، “مايلز كوبلاند”، الذي تميز بنشاطه الواسع داخل عدة دول، منها مصر وسوريا ولبنان وإيران، خلال الحقب الممتدة بين بدايات الخمسينيات حتى الثمانينيات، وقد أشتهر أكثر ما أشتهر بكتابه (لعبة الأمم)، الذي طبع عدة طبعات لوحظ إعادة طبعها وتوزيعها بكثافة شديدة داخل المكتبات العربية عامة والمصرية خاصة خلال السنوات السبعة الماضية في أعقاب الانتفاضات العربية التي تفجرت عام 2011، برغم شهادات أغلب المؤرخين ومحللي البحث العلمي التأريخي عن ما ساقه من معلومات كونها “أكاذيب موجهة” بمنهجية محترفة..

في إحدى أحاديثه عن ثورة (تموز) يوليو 1952 المصرية، يقول الكاتب الصحافي، “محمد حسنين هيكل”: “.. وربما تكون هذه فرصة مناسبة لكي اتعرض لخرافة تقول بأن الولايات المتحدة كانت على اتصال بقيادة ثورة 23 يوليو قبل قيامها، وأنها كانت في سرها قبل إذاعته، وبعض الذين يروجون لهذه الخرافة يعتمدون، لسوء الحظ، على رواية أوردها المستر مايلز كوبلاند في كتابه (لعبة الأمم) دون أن يسألوا أنفسهم سؤالاً بسيطاً، هو: من هو مايلز كوبلاند ؟

ومايلز كوبلاند – وهو يعترف بذلك في كتابه – أحد موظفي إدارة المخابرات المركزية الأميركية الذين عملوا في مصر فترة من الزمن، وشأنه شأن غيره من موظفي هذه الوكالة لا يستطيع أن يكتب وأن ينشر بغير إذن، ومعنى ذلك ما كتبه ونشره كان محل موافقة من وكالة المخابرات المركزية التي كان يهمها تلطيخ سمعة الثورة المصرية والإساءة إلى قائدها جمال عبدالناصر.

أي أن الكتاب من أوله إلى آخره جزء من حملة في «الدعاية السوداء»، كما يسمونها، ضد الثورة وقائدها.

وتضم ملفات الحكومة المصرية، في رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء وإدارة المخابرات العامة، مجموعة وثائق تكفي لإدانة مايلز كوبلاند، ولست أعرف لماذا لا تنشر كلها أو ينشر بعضها في مواجهة ما يكتبه وينشره مايلز كوبلاند ؟

مايلز كوبلاند

في هذه الملفات خطابات بامضاء مايلز كوبلاند يطلب أموالاً من الحكومة المصرية لينشئ لحسابها إدارة مخابرات مقرها لندن أو جنيف تقوم على خدمتها، وتأشيرات على هذه الخطابات برفض العرض لأننا لا نستطيع أن نعهد لعميل للمخابرات الأميركية بإنشاء مخابرات مصرية.

وبينها خطابات بتوقيع مايلز كوبلاند يبدي فيها استعداده لحذف وتغيير كل ما لا ترضى عنه مصر في كتابه (لعبة الأمم) – وتأشيرات عليها بعدم الرد عليه، لأن مجرد الرد عليه يعطيه قيمة ليست له.

وبينها خطابات بتوقيع مايلز كوبلاند يشكو فيها من أن جميع المصريين المسؤولين لا يقابلونه ولا يردون عليه، بينما هو يريد أن يخدم، ولا يطلب من مصر إلا ما يستطيع أن يعيش به ويحافظ على مستواه – وتأشيرات على هذه الخطابات بمنع دخوله إلى مصر وبعدم حاجتها إلى خدماته، وبأنها ليست مسؤولة لا عن معيشته ولا عن مستوى معيشته، وأنه مغامر على استعداد لأن يبيع نفسه، ومصر ليست مستعدة لأن تشتري !” (3).

………………………………………………

المصادر:

  • رجاء مراجعة الحلقة الثانية من سلسلة: (صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية) – محمد البسفي – موقع (كتابات) في 29 نموز/يوليو 2017.

https://kitabat.com/cultural/%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%87%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88-2/

 

  • راجع: طارق المهدوي – (كوابيس جمهورية الخوف الأولى) – دار روافد – مصر.
  • علي شلش – (الماسونية في مصر)، وراجع أيضاً: (مئات السنين والبحث مستمراً عن زئبق التاريخ .. “الماسونية في الشرق” من الكتب القديمة) – موقع (كتابات) في 22 أيار/مايو 2017:

https://kitabat.com/cultural/%D9%85%D8%A6%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%8B-%D8%B9%D9%86-%D8%B2%D8%A6%D8%A8%D9%82-%D8%A7%D9%84/

  • محمد حسنين هيكل – (قصة السويس.. آخر المعارك في عصر العمالقة) – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – الطبعة الرابعة 1983.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة