23 نوفمبر، 2024 5:03 ص
Search
Close this search box.

صلاح جياد.. بضربات فرشاة متقاطعة وقوية رسم ملامح هوية عراقية

صلاح جياد.. بضربات فرشاة متقاطعة وقوية رسم ملامح هوية عراقية

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“صلاح جياد” فنان تشكيلي عراقي، من مواليد البصرة 1947 وتخرج من معهد الفنون الجميلة عام 1968، وعمل في مجال الصحافة وكان أحد مؤسسي مجلة “ألف باء” إضافة إلى رسوماته الإبداعية في (مجلتي). كما ساهم في تأسيس جماعة الأكاديميين 1971 التي تتكون من الأستاذ المرحوم كاظم حيدر وفيصل لعيبي ونعمان هادي ووليد شيت.

غادر “صلاح جياد” إلى باريس عام 1976 وأصبح أحد أركان معالمها الفنية والثقافية. وفي باريس تخرج من مدرسة الفنون البوزار وأنهى دراسة الدكتوراه في تاريخ الفن في كلية الفنون فيها. أقام معارض كثيرة في داخل وخارج العراق وحاز على عدة جوائز ذهبية.

 

الرسم..

في مقالة بعنوان (صلاح جياد.. من أقطاب الفن العراقي المعاصر) يقول “د. كاظم شمهود”: “تخرج على يد فائق حسن مئات من الفنانين العراقيين خلال أكثر من أربعة عقود، وكلهم يشهدون بفضله. ومن الفنانين الذين اعتبروا من مدرسة فائق هو الفنان العراقي صلاح جياد. ويعتبر قمة وأستاذا في عملية أداء الأسلوب الأكاديمي سواء كان في التخطيط الأكاديمي المنهجي للشكل أو في معالجة الألوان وتوزيعها. وكان لصلاح فرشة عنيفة ضاربة حرة وحركات عفوية تقود إلى تلقائية جميلة وتأتيه عناصر اللوحة طائعة حيث ما يشاء. وكان صلاح مثيرا للإعجاب بين الأساتذة والطلبة وقدوة وعونا في الإرشاد والتوجيه. وكان يخاطبه الأساتذة باسم أستاذ صلاح  وهو اعتراف له قبل التخرج. وكان ظاهرة فريدة موهوبة ومتفوقة ولم يضاهيه أحد حتى من الأساتذة. ويظهر تمكنه الكبير في السيطرة على أدواته وأسلوبه الأكاديمي منذ بداية دراسته في معهد الفنون الجميلة”.

ويضيف عن بدايته: “بدأ صلاح يتجه إلى الرسم الحديث في وقت مبكر أثناء دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة. وخضعت لوحاته إلى الجانب التركيبي من مقاطع أشكال هندسية ورموز تاريخية وإنشاء حر وألوان منتخبة. وأصبحت تأثيرات المحيط العربي وأحداثه تستقطبه فكانت ظاهرة على أعماله خاصة القضية الفلسطينية وقضايا أخرى من عالمنا العربي. ولكنني أراه في هذه المرحلة بالذات أنه أكثر حرية في رسم المواضيع الاجتماعية، واتجاهه الانطباعي الأخاذ الذي يطرب المتلقي حيث يذكرنا بسيزان وأئمة المذاهب الانطباعية. فتظهر الشناشيل والأعراب والنساء القرويات وبائعات الماء وغيرها من المواضيع الشعبية. وهي مواضيع بارزة في أعماله نراها قمة في التقنية والإبداع والجمال”.

ويواصل: “عندما انتقل صلاح إلى باريس عام 1976 هروبا من مضايقات النظام الدكتاتوري الشوفيني. بدأت مرحلة جديدة في حياته الفنية بل أننا نرى هنا ملحمة كلكامشية حقيقية في الفن. فقد استدرج صلاح الموروث الرافدي فظهرت الأشكال السومرية والآشورية بوجوه محطمة مكتظة بالخطوط المتقاطعة العنيفة أو غاطسة وسط شبكة عنكبوتية من الألوان والخطوط المتنوعة وبطريقة التفكيك. ونشاهد عنف وضربات للفرشة قوية تتصاعد نبراتها بقساوة. وكأن صلاح يستدرج الماضي ودمجه بالحاضر الحديث بحثا عن الهوية. الهوية التي ضيعتها القرون الماضية بفعل السياسات الخاطئة والحكام الجهلاء الذين أذلوا الناس وأهملوا تاريخهم ومجدهم. فنشاهد رؤوس وثقوب وأجسام مبتورة ووجوه أسطورية ورموز سومرية وغير ذلك. وربما يريد صلاح بتحطيمه للجسد أن يستنطقه ويدخل إلى أعماقه للوصول إلى الحقيقة المستورة الغائبة في حضارة وادي الرافدين”.

وعن العمل في الصحافة يقول: “كنت قد درست مع صلاح في معهد الفنون الجميلة عام 1968 والسنة الأخيرة له من أكاديمية الفنون الجميلة عام1971. كما عملنا سوى في مجلة مجلتي والمزمار منذ عام 1969 إلى رحيله إلى باريس عام 1976. وكان نعم الصديق والأخ الطيب. واشتهر صلاح بمسلسلاته الجميلة في المجلة منها “رحلة ماجلان- وأحمد بن ماجد”، وغيرها من القصص التاريخية التي رفدت الأطفال بثقافة بصرية جديدة غير مألوفة سابقا في العراق. وكنا نعتبرها لوحات أكاديمية معبرة أكثر من كونها مشاهد قصصية للأطفال. لما تتمتع به من التناغمات اللونية والحساسية الجمالية الراقية. وكان يرسم في المجلة بنفس الروح والحس الذي يرسم فيه لوحة فنية من ناحية الأسلوب الأكاديمي ومعالجة الشكل واللون وكذلك طلاقة الفرشة الانطباعية وتلقائيتها. وكانت معظم أوقات صلاح يقضيها بالرسم كما كان صامتا. وهو صمت تركيز وتعمق وتأمل”.

كشف حساب..

في مقالة بعنوان (نظرة في رحلة صلاح جياد مع اللوحة” يقول “يوسف الناصر”: “في واحدة من لوحاته وضع صلاح جياد مجموعة من إشاراته وأشكاله ورموزه، كل  واحدة في مربع أو مستطيل أو شكل مختلف على أرضية سوداء، يفصلها حاجز خطي رقيق عن التي إلى جوارها، وجوه وأيد وعيون وأصابع ومقاطع من أجساد، آهلة وأشكال حيوانات. لوحة (كشف الحساب)، اسميها، لأنها سجل غير مكتمل للثيمات المبثوثة على امتداد مسعاه الفني, والتي تتكرر بتطويرات وتحويرات  تمليها طبيعة اللوحة. وغرضي من هذا المثال هو الإشارة إلى تمرين الفنان المتواتر على الإيقاع ذاته والذي حافظ على عالمة الخاص الذي حمله معه من العراق، إذ يبدو صلاح جياد نواة ثمرة عراقية محلية، بالإمكان ملاحظة عناصرها في الكثير من الفنانين العراقيين من مجايليه، لم ينتج عن عملية إنباتها خارج بيئتها غير ثمارها التي طلعت هي منها، إذ لم يتغير لون الثمرة الجديدة ولا طعمها. استمر صلاح يحاول إشباع موضوعته التي قطعه عنها انقلاب الأحوال في العراق واضطراره للهجرة هربا من ظلم البعثيين الذين استولوا على الحكم وبطشوا بالناس وهدموا الثقافة. بقي صلاح يرسم تحت هاجس مادته الأولى مكررا إشاراته وأشكاله، ليس في ذلك ما يعيب، بقي سيزان يرسم تفاحاته زمنا طويلا، لكنها كانت تزداد علوّا كل مرة حتى تجاوزت شجرتها”.

ويواصل: “صلاح ما احتاج وجوده في الغرب لكي تتفتح موهبته الكبيرة، فقد كانت متفتحة ومورقة من قبل. مع أنه أضاف الكثير للوحته من وجوده في فرنسا واضطلاعه على الفن الأوروبي. هذا الأمر يقودني إليه دائما سؤالي لنفسي وأنا أراجع لوحات صلاح، من أين يغترف صلاح كل هذا الدفق في اللون والخط والشكل وهو القليل الفضول الزاهد عما يجري خارج حدود يومه وحياته الخاصة؟، وأضيف، أن صلاح نوع من الفنانين النادرين الذين لا يحتاجون إلى الكثير من التجريب والبحث والرسم لتطوير رؤاهم وأدواتهم، تكفيه حلقاته وركائزه المتباعدة ليوصل بينها جسرا رائعا.  لكني لا أتغافل عن قوة التيار الهادر الذي يجري تحت ذلك الجسر ويلطم دعائمه”.

ويؤكد: “تقدم لوحات صلاح التي رسمها في السنوات الأخيرة صورة مراوغة للنظرة الأولى، إذ يتزاحم خليط من الأشكال ضمن بنائها المتين الواضح الحدود، خليط من خطوط عنيفة وضربات فرشاة متقاطعة وقوية، أجزاء من أجساد ووجوه شائهة، مرسومة بطلاقة وحيوية تجمعها وشائج غامضة، لكن تلك الأشكال الحرة والبناء المتين لا يسعيان، بالضرورة، لهدف واحد، (حفل صاخب داخل بناء محكم الجدران)، هكذا تبادر إلى ذهني وأنا أراجع مجموعة اللوحات تلك، والجدران هنا، بالطبع، لا تكبّر صوت موسيقى الحفل بقدر ما تكتمه. فنان ذكي مثل صلاح لابد وأن يعرف ذلك. على أني لابد وأن أذكر هنا أن ذلك النوع من (المعترك) هو ليس كل ما انطوت عليه تلك اللوحات، فالفنان يعود هنا وهناك إلى موضوعات أثيرة إلى نفسه، تبدو مثل فواصل واستراحات، موضوعات هي خليط من أشكال فولكلورية و(بغداديات) وحتى أبعد من ذلك زمنيا، إلى تكوينات جذورها في الفن الإسلامي، تذكر بفنان العراق الواسطي”.

ويقول: “كان صلاح بالنسبة لنا، نحن الجيل اللاحق لجيله قليلا، عضوا في مجموعة ليست كبيرة من رسامين مختلفين يمثلون الرسم الجديد في العراق، ويمثلون حيوية وانفلات الحركة التشكيلية الناهضة والواعدة بالكثير، الحركة المتحررة من مصيدة (الحرس القديم)، أولئك روادنا وأساتذتنا الأفاضل الذين أسسوا حركتنا وطوروها، لكنها غادرتهم مع الجيل اللاحق لتدخل متاهة لا تنتهي من أسئلة وبحوث ومنازعات عديمة الفائدة، تكاد رتابتها أن تصير قدرا لا فكاك منه. كانوا (صلاح ومجموعته) يمثلون صورة ما نتطلع إليه ويجسدون أحلامنا كفنانين شبانا ينتظرنا الكثير، مندفعين بقوة باتجاه الحياة والفن. كانوا أول جيل أو مجموعة توفرت لها في العراق فرصة الانتشار غير المسبوق في إعلام البلاد من خلال الوسائل المختلفة كالتلفزيون والراديو والمسرح، إضافة إلى المادة الأساسية وأقصد بها المطبوعات الملونة، تلك التي عملوا فيها أو نشرت أعمالهم، مجلات وكتبا وملصقات وبطاقات، كان في العراق آنذاك نهضة طباعية لم تعرف البلاد مثلها من قبل، جعلت الصور في متناول الجميع، بينما كنا قبل ذلك نسمع عن اللوحات الجيدة أكثر مما نراها، وكثيرا ما طبعت بالأسود والأبيض أو بألوان رديئة”.

سبعينيو الرسم العراقي..

وفي مقالة بعنوان (الرسام صلاح جياد وسبعينيو الرسم العراقي.. تجارب محاصرة بالـمِحَن) يقول “خالد خضير الصالحي”: “إن انقطاع الرسام العراقي صلاح جياد، (البصرة 1947)، عن الساحة الثقافية العراقية بسبب الهجرة إلى فرنسا وما نتج عنها من ضعف في تسويق التجربة إلينا، من هناك، قد ألقى بظلاله على تقييمنا لتلك التجربة، ووضع اللمسات الأخيرة لخسارتنا إحدى أهم تجارب سبعينيات القرن الماضي في الفن التشكيلي العراقي، ونحن نحاول الآن أن نرتق صورتها من أذهاننا، ونختبر قناعتنا القديمة الراسخة التي مازال الكثيرون متمسكين بها حولها، والتي تقول بأنه لولا تلك الهجرات لكان ممكناً للفن العراقي أن يمتلك الآن ذات الزخم التشكيلي الذي كان في سبعينيات القرن الماضي، وأيضاً أن يكون لتجربة صلاح جياد تحديداً شأن أعظم في الرسم العراقي”.

ويضيف :”لقد كانت هناك هيمنةً شكلية رئيسة، كان يبني عليها صلاح جياد والرسامون السبعينيون اليساريون المجايلون له، أعمالهم، وهي ما أطلقت عليه مرة أيقونة (المناضل الجورنيكي)، وربما أعدها من مؤثرات بعض رسامي الخمسينيات وأهمهم: محمود صبري الذي نقلها حينما كان في مرحلته التعبيرية (الثورية) عن بيكاسو، وكاظم حيدر في معرض الشهيد، وضياء العزاوي في أعماله عن تل الزعتر، ومؤثرات جواد سليم في نصب الحرية، وهي أيقونة لرجل صارخ يرفع قبضته في الهواء رغم تقطع أوصاله، وبقائه: رأساً، ويداً ترقع قبضتها، وبعض الأشلاء المقطعة، وكان نموذجه القياسي: ذلك الرأس المتألم الذي يحتل مقدمة أشكال لوحة جورنيكا بيكاسو، فكان أغلب المنجز السبعيني، للشباب وقتذاك، ومنه منجز صلاح جياد وفيصل لعيبي ونعمان ماهر ووليد شيت قبل إكمال دراسته خارج العراق، اشتغالا على تكرار ذات الثيمات، وأشكالها الإيقونية المتكررة، “بتطويرات وتحويرات تمليها طبيعة اللوحة”، ولم يكن العالم الخاص بصلاح جياد إلا ذاك الذي حمله معه إلى فرنسا، وظل يرسم تحت وطأة إيقوناته وأشكاله المهيمنة دون تغيير كبير في الموضوعات، مكرراً إياها طوال منجزه الماضي، مما يعني أن قناعاته الأساسية عن اللوحة، وماهية الرسم لديه إنما بقيت ثابتة لديه وكثير من مجايليه من السبعينيين العراقيين الذين كان الرسم عندهم (سطحاً تملأه إيقونات الجورنيكا)!، وأدى ذلك إلى ما أسماه يوسف الناصر (اتساع مهمة اللوحة) عند جيل السبعينيات، فصار مطلوباً منها أن تؤدي وظائف جديدة أدت إلى خضوعها إلى مزيد من (الإلزامات) الإضافية واقترابها، بدرجة ما، إلى نوع من وسائل الإيضاح (البوسترات) التي شهدت معارضها فورة بالإنتاج والعرض وقتذاك، حيث كانت برعاية رسمية من قوى السلطة والقرار، فكانت موجِّاتها سردية، (خارج بصرية)، و(خارج جمالية)، وقد استحكمت (المهام) المنوطة بالبوسترات الإعلانية التي استحكمت شيئاً فشيئاً باللوحة تالياً، بسبب ما تحظى به من قبول (رسمي)، لكن ذلك السيل الوافد من منابع تقع خارج حدود التشكيل لم يتخذ شكلَ عصفٍ جارف عند صلاح، والسبب، كما يؤكد الناصر “قوة ألوانه، وخطوطه، وحريته، التي هيأت له مدخلا آمنا لاستقبال العصف وللاستجابة للفروض الجديدة، ساعده في ذلك انتشارُ وشعبية بعض الصياغات الجاهزة التي منحها الفنانُ أبعادا جديدة، وبدا الإعلام الصديقُ مزهوا بالمواهب التقدمية الشابة”.

محنة الجيل..

ويوضح:”لقد خضعت تجربة هذا الرسام إلى قوى ضاغطة كانت أهمها محنة الجيل السبعيني من التشكيليين والمثقفين العراقيين الذين تزامنت تلمذتهم، وصعودهم، مع تصاعد الخطابات الأيديولوجية التي كانت تسعى إلى توظيف الفن، والثقافة العراقية، لوجهة نظرها، ومصالحها بعد 1968، فقولبت جيلاً بكامله وقع الكثير منهم تحت طائلة (شيزوفرينيا) ثقافية مماثلة لما وقع فيه جيل الستينيات قبلهم، حينما انفصل عندهم الخطاب اللغوي وجهازه المفاهيمي، عن التجربة المتحققة، ففي الوقت الذي انتمى فيه خطاب جيل الستينيات وجهازهم المفاهيمي، إلى بقايا خطاب جيل الخمسينيات، الذي هو بدوره كان مستمداً من مصادر عتيقة مستمدة من الخطابات التنويرية لعصر النهضة العربية، وهي خطابات نثرية لا تنتمي إلى الجوهر المادي (الشيئي) للفن التشكيلي، وذات طبيعة التهامية قادرة على توظيف أي حقل يخدم أهدافها، بينما كانت اللوحة، وعلى العكس من الخطاب العتيق المحايث لها، قد انطلقت في آفاق الحداثة، وتجاوزت عصرها، سواء من ناحية التحرر من موضوعات ومشخصات الواقع، أو من ناحية سبرها آفاقا تقنية كان الستينيون يجربونها؛ فظهروا بها وكأنهم أكثر حداثة من أجيال شابة ظهرت في جيل تال لهم وعاصرتهم، فبدت تجربة صالح الجميعي، كمثال نموذجي لهذا الجيل، بموادها شديدة الغرابة نموذجاً لعصر تخلفت فيه التنظيرات عن منجزات تدعي تلك التنظيرات إنها ناتجها، ويمكن الرجوع إلى البيانات والمدونات التي كان يصدرها الستينيون وجماعاتهم ليرى درجة تخلف الخطاب عن المنجز. إن محنة السبعينيين كانت محنة مضاعفة، أولاً من خلال التصاق غالبيتهم بموضوعاتهم فكانوا يفكرون نثرياً بطريقة (رسامي البوسترات) فتأتي نتاجاتهم، ربما بوعي أو دونه، في خدمة اتجاهات فكرية خارج الواقعة الفنية وماديتها، بينما كانوا ينفذونها كرسامين، وهو وجه التناقض المماثل لما وقع فيه جيل الستينيات، ولكن منحة السبعينيين الآن تقع داخل اللوحة لا خارجها، ورغم أن غالبية هؤلاء، ومنهم: صلاح جياد، نعمان هادي، فيصل لعيبي، عفيفة لعيبي وغيرهم؛ كانوا من أخلص تلاميذ الرسام الرائد فائق حسن، وأكثرهم قدرة وتأهيلاً أكاديمياً، وجدارة تقنية عالية، وربما فاقوا في ذلك الأجيال السابقة لهم في هذا”..

ويواصل: “لقد تربى صلاح جياد على مرجعية فكرية تركز على (البطل الإيجابي) وتُعلي من شأنه، حيث كانت الترسيمة القياسية لذلك البطل السمة الأكثر ملموسية للرسم الواقعي بمفاهيمه التي كانت تطرح في الأدبيات العراقية في السبعينيات، والتي سادت، كما قلنا، بفعل أعمال بيكاسو (الثورية) وأهمها الجورنيكا التي غدت (علامة) تشبّع بها جيل السبعينيات، باعتبارها مرتكزات قبلية لكل عمل فني، وهو اتجاه أشاعه وحافظ عليه رسامون خمسينيون أهمهم: محمود صبري في أعماله عن الثورات والمسيرات، والذي تحول أخيراً إلى تجريدية هندسية موندريانية (نسبة إلى الرسام موندريان) اسماها واقعية الكم وألف عنها كتابا بالعنوان ذاته، والستيني محمد مهر الدين الذي حتى حينما تحول إلى التجريد كان موضوع ما سمي بـ(البطل الإيجابي) يطل بشكل ما، في أعماله فكانت خطابات ذلك البطل تظهر بشكل كتابات تعلن سخطها على الإمبريالية، والاستعمار، وأمريكا، وكل أشكال استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وكان ذلك البطل مهيمناً في تجربة ستينية شهيرة هي تجربة (كاظم حيدر) في ملحمة الشهيد، والتي كانت الحدود التي ينطلق منها ويعود إليها جيل واسع من الرسامين العراقيين، فهيمن ذلك البطل على تجربة صلاح جياد باعتباره موضوعا أثيرا ولازمة تقريبا في بناء اللوحة، “فالجسد أو بعض من أجزائه يشكل القاسم المشترك لأهم مفرداته التشكيلية، والتي يصعب تجاوزها، حتى لو اشتغل على المشهد الطبيعي” (علي النجار)؛ فكانت لوحته تعبيرية في شكلها، وفي موضوعها، وغالبا ما يشكلها حشد من (الأبطال) الساخطين الذين يخضعهم الرسام لشتى ضروب الاشتغال التقني المتمثل بشتى الفورانات اللونية؛ لينقل للمتلقي إحساسا بحالة اللوحة، من خلال رداء لوني تقني عال، ولكن بقيت روح اللون الانطباعي تطل برأسها من خلال تلك الأجواء”..

وأخيرا يقول: “إن نقطة القوة التي يتمتع بها الرسام صلاح جياد كانت عقب آخيل في تجربته، ونقصد بها التقنية الانطباعية التي يمتلكها، فقد قدم، ومذ كان طالب فن، أعمالاً دراسية انطباعية جلبت اهتمام المعنيين له، فقد اتصف، كما يؤكد الكاتب فاروق سلوم بـ”ـقدرات تصوير… يؤاخي (فيها) فائق حسن في كلاسيكياته… وكان منهمكا بحرفية عالية في دراسة الطبيعة ومخلوقاتها.. منظورها وتفاصيلها الدقيقة بأسلوب منهجي مدرب وعميق.. وكانت معظم الأعمال التي أنجزها خلال عقدين مهمين، منذ أواخر الستينيات حتى أواخر السبعينيات، أعمالاً منهجية متكاملة، دراسية وتشريحية، تسمّيه كرسام كلاسيكي من الطراز الأول.. يوم كانت الدراسة همّه ومبتغاه في مواءماتها مع متطلبات التجربة الشخصية”، إلا أن تجربته كانت تحتاج، بمرور الوقت، إلى حلول من نمط آخر يتخلص فيها من روح اللون الانطباعي ليتجه إلى مديات حداثية أرحب، ولكنه، مثل الكثير من الأكاديميين الانطباعيين المتمكنين، لم يتمكنوا من الخلاص من انطباعية اللون التي ظلت علامة عالقة في تجاربهم حيثما حلوا وارتحلوا، فقد كنا نرى رسامين منهم ينتقلون إلى التعبيرية، وأحياناً إلى التجريد، بينما تبقى ألوانهم انطباعية تماثل أعمال فائق حسن التعبيرية التي بقيت فيها ألوانه ذاتها دونما تغيير، فكأن هؤلاء يحاولون أن يذكروا المتلقي أنهم بارعون في الرسم الأكاديمي، وأنهم قادرون بذلك على الرسم في أية منطقة يشاءون، فكان ذلك يصيب منهم مقتلاً لا تخطئه عين خبير الفن”..

وفاته..

توفى الفنان التشكيلي العراقي الكبير “صلاح جياد” في إحدى مستشفيات باريس بعد صراع مع المرض.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة