28 مارس، 2024 6:13 م
Search
Close this search box.

صعود المال: التاريخ المالي للعالم

Facebook
Twitter
LinkedIn

عرض/ إبراهيم غرايبة
الكتاب يقوم على فكرة أن وراء كل ظاهرة تاريخية عظيمة سر مالي، ويسلط الضوء على أهم هذه الظواهر وأسرارها، مثل: عصر النهضة الأوروبية وصعود هولندا والثورة الفرنسية وتراجع إسبانيا والبرتغال والأرجنتين وتدهور أوضاعها، والثورة المالية الجديدة في العالم وكيف نشأت، أزمة الرهونات العقارية والمالية الأميركية والعالمية الحالية، ويفسر لماذا يكون أكثر بلدان العالم أمنًا هو نفسه الأكثر تغطية ببوالص التأمين، ولماذا تولّد عند الشعوب الناطقة بالإنكليزية هذا الهوس الغريب بشراء المنازل وبيعها، ويتوقف مليًا عند الأزمة المالية التي ضربت العالم الغربي في صيف 2007 باعتبارها إحدى أهم حقائق التاريخ المالي.

الكتاب يمنح القارئ ثقافة اقتصادية وتاريخية مفيدة ومهمة، ولكنه لا يساعد بشكل كبير في التخطيط والتحليل للأزمات المالية والاقتصادية التي تهدد الدول والمجتمعات، وهذه ليست وظيفته غالبًا؛ فالكتاب يمنح القارئ فهمًا اجتماعيًا أوسع للتاريخ والعلاقات الدولية، وربما يفيد في التحليل السياسي أكثر من التحليل الاقتصادي، إنه للمثقفين والسياسيين والناشطين في العمل العام أكثر مما هو للاقتصاديين ومدراء الشركات وقادة المال في القطاع العام أو الخاص، وبالطبع فإن ذلك لا يقلل من أهمية الكتاب وروعته، ولكن القيمة الكبرى للكتاب أنه يضع الاقتصاد في مكانه الصحيح في حركة التاريخ والحكم والعمل السياسي والاجتماعي، ويساعد المجتمعات على إدراج احتياجاتها الاقتصادية والمعيشية في الصراع والانتخاب والسلوك السياسي.

يعمل المؤلف نيال كامبيل فرغسون أستاذًا للتاريخ وإدارة الأعمال في جامعة هارفارد، وهو مؤرخ بريطاني متخصص في التاريخ المالي والاقتصادي وتاريخ الاستعمار، ومن مؤلفاته الأخرى (مأساة الحرب: تفسير الحرب العالمية الأولى)، و(آل روتشيلد: أنبياء المال ومصرفيو العالم).

من الإنسان المفكر إلى الإنسان الصيرفي

هكذا يلخص فيرغسون مسار البشرية، فهو يلاحظ أن التقدم والأحداث الكبرى المشهورة في التاريخ يفسرها النشاط الاقتصادي والمالي، وكما يقول جاكونبرونوفسكي: “صعود المال كان ضروريًا لصعود الإنسان؛ فبالإضافة إلى كونه مشابهًا لعمل العلقة التي تمتص دماء الحياة من العائلات المدينة والمقامِرة ومدخرات الأرامل والأيتام فإن التجديد المالي كان عاملاً لا غنى عنه في تقدم الإنسان من مجرد الكفاف شديد الفقر إلى علياء الرخاء المادي الذي يعرفه كثير من الناس اليوم، وكان تطور الائتمان والقروض مهمًا كأي تجديد تكنولوجي في الإسهام في ظهور الحضارة منذ بابل القديمة حتى هونغ كونغ الحاضرة”.

لقد كان المال هو السر وراء كل ظاهرة تاريخية عظيمة؛ فقد أوجد عصر النهضة ازدهارًا كبيرًا في سوق الفن والهندسة المعمارية لأن المصرفيين الإيطاليين جمعوا ثروات من خلال تطبيق الرياضيات الشرقية على المعاملات المالية، وتفوق الهولنديون على إمبراطورية هابسبرغ بامتلاك أول بورصة عالمية، كانت أفضل من مناجم الفضة.

كان اكتشاف الذهب والفضة في القارة الجديدة في أوائل القرن السادس عشر تحولاً كبيرًا في الثروة والقوة، وقد استولت إسبانيا على 45 ألف طن من الفضة الخالصة بين عامي 1556–1783، وبذلك فقد وجّهت ضربة قاصمة للهيمنة العربية والإسلامية على سوق المال والتجارة، ولكن هولندا تفوقت على إسبانيا؛ عندما لم يستطع الإسبان فهم أن قيمة المعادن الثمينة ليست مطلقة؛ إذ تساوي القيمة التي يستعد الآخرون أن يدفعوها مقابلها.

البنوك والنقود

“النقود مسألة اعتقاد، إيمان بالشخص الذي يدفع لنا، ومن يصدرها لنستخدمها، والمؤسسة التي تقبل الشيكات والتحويلات الصادرة عنها…، المال ليس معدنًا، ولكنه الثقة منقوشة، سواء كان هذا النقش على الذهب والفضة أو الورق أو الصلصال (بابل) أو الكريستال السائل أو الصدف (المالديف) أو الأقراص الحجرية المستخدمة في جزر المحيط الهندي، وفي العصر الإلكتروني يمكن أن يكون اللاشيء نقودًا (34–35)، وليس مصادفة أن أصل كلمة credit “ائتمان” هو كلمة credo وتعني في اللاتينية “أنا أصدِّق”.

في القرن الثالث عشر طور دي فيبوناتش أنظمة المحاسبة بإدخال الأرقام العربية التي تعرّف عليها في أثناء عمله وإقامته في بجاية في الجزائر، وتطور نظام الإقراض على يد التجار اليهود في إيطاليا حين كانت المسيحية تحرم الربا، واليهودية تبيح لليهود إقراض غير اليهود بالربا، واستحضرت مسرحية شكسبير “تاجر البندقية” تلك الظروف، وتؤشر المسرحية على إمكانية الإقراض بفوائد كبيرة وضمانات القروض المستخدمة ووجود محاكم لحل الخلافات.

وشهد القرن السابع عشر تأسيس ثلاث مؤسسات مستحدثة على نحو مميز: بنك أمستردام لصرف العملات (1609) وبنك ريكسبانك السويدي (1656) وفيسلبانك الهولندي. وكان التجديد العظيم الثالث في القرن السابع عشر بإنشاء بنك إنكلترا عام 1649، وكان الهدف الأساسي من إنشائه مساعدة الحكومة في تمويل الحرب.

وكان يُنظر إلى المعادن الثمينة على أنها هي النقود، ويعبَّر عنها أحيانًا بسندات ورقية مالية، وبدون ذلك فهي “مزيفة”. وكان إصدار بنك إنكلترا للأوراق المالية مقيدًا إلى حد أن احتياطياته من الذهب فاقت قيمة أوراق النقد المتداولة في الفترة من منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، وحذت الدول حذو بريطانيا فيما يتعلق بالتنظيم من خلال بنك مركزي احتكاري، بنك دي فرانس عام 1800، ورايخسبانك عام 1875، وبنك اليابان عام 1882، والبنك السويسري عام 1907، وتأخر البنك الأميركي إلى عام 1923.

في عام 1924 دعا جون مينارد كينز إلى التخلي عن قاعدة الذهب، وهناك اتفاق الآن على صحة ذلك، وفي عام 1971 أغلق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون نافذة الذهب التي كان يمكن فيها مبادلة الدولارات في ظروف محددة بعينها بالذهب، واعتبارًا من ذلك التاريخ كُسرت الحلقة التي استمرت لقرون تربط بين المال والمعادن الثمينة، ويبدو أن الحقيقة التي لا مهرب منها هي أن كسر الحلقة بين خلق النقود ومصدر استقرارها أدى إلى توسع نقدي غير مسبوق، رافقته زيادة كبيرة في الإقراض لم يشهد لها العالم مثيلاً.

السندات والبورصة

بعد إنشاء البنوك للائتمان كان ميلاد السندات، وكان ذلك ثورة كبرى ثانية في صعود المال؛ فالحكومات والشركات الكبيرة تصدر السندات كوسيلة لاقتراض المال من مجموعة من الناس والمؤسسات اكثر اتساعًا من البنوك.

نمت البورصة من بدايات متواضعة في شمال إيطاليا قبل نحو 800 عام إلى حجم هائل؛ فالقيمة الإجمالية للسندات التي يتم التعامل فيها دوليًا في الوقت الراهن هي 18 تريليون دولار، وتبلغ قيمة السندات على المستوى المحلي 50 تريليون دولار.

تبدأ سوق السندات بتسهيل اقتراض الحكومة، ومع ذلك فقد تنتهي في حالة الأزمة إلى إملاء سياسة الحكومة، فتكون أمام 3 خيارات: أن تعلن عدم قدرتها على سداد جزء من ديونها محققة أسوأ مخاوف سوق السندات، أو تخفّض نفقاتها في مجال آخر لطمأنة سوق السندات؛ مما يؤدي في الوقت نفسه إلى إغضاب الناخبين أو المصالح الخاصة، أو تحاول تخفيض العجز بزيادة الضرائب.

وبحلول منتصف القرن الثامن عشر ازدهرت في لندن سوق السندات؛ حيث كانت سندات الخزينة هي الأوراق المالية الأكثر تداولاً، وكانت جذابة للمستثمرين الأجانب خصوصًا الهولنديين، وفي المقابل لم يكن هناك شيء من هذا القبيل في باريس، وكان هذا توسعًا ماليًا سوف يثبت أن له نتائج سياسية عميقة.

وعندما جاءت الحرب العالمية لم تؤد إلى نقص في البضائع فحسب، بل كذلك إلى اقتراض الدولة قصير الأجل من البنك المركزي؛ الأمر الذي حول الدَّيْن بالفعل إلى نقد؛ مما أدى إلى زيادة عرض النقد، وهو ما أدى إلى تغير توقعات التضخم العامة وانخفاض الطلب على رصيد النقد وارتفاع أسعار السلع.

الشركات

الشركة أكثر الاختراعات أهمية في العصر الحديث؛ ذلك أنها تسمح لآلاف الأفراد بأن يجمعوا مواردهم للقيام بمشروعات طويلة الأجل تتسم بالمخاطرة وتتطلب استثمارات بمبالغ ضخمة من رأس المال قبل أن تحقق أرباحًا، وخلال الأعوام الأربعمائة منذ أن بدأ العمل بشراء وبيع الأسهم كانت هناك قطاعات مالية متعاقبة، فقد ارتفعت أسعار الأسهم المرة تلو الأخرى إلى مستويات عالية لتهبط مسرعة بعد ذلك، وكانت هذه العملية تترافق المرة تلو الأخرى مع الخداع، حيث كان بعض المطلعين على بواطن الأمور غير الشرفاء يسعون لتحقيق الأرباح على حساب المبتدئين السذج، هذا الأسلوب معروف إلى حد أنه يمكن تقسيمه إلى خمس مراحل: الإحلال، بخلق تغير في الظروف الاقتصادية تعطي فرصًا جديدة ومربحة لبعض الشركات، والحماسة الفياضة أو الإفراط في التداول، فتبدأ عملية التغذية الاسترجاعية التي تقود بواسطتها الأرباح المتوقعة المتصاعدة إلى زيادة سريعة في أسعار الأسهم، والجنون أو الفقاعة، فيجتذب توقع الحصول على أرباح سهلة من قِبل المستثمرين لأول مرة المحتالين الحريصين على سلب أموالهم، والعسر: فيعرف المطلعون على بواطن الأمور أن الأرباح المرتقبة لا تبرر الأسعار المبالغ فيها للأسهم ويبدأون ببيعها، والانسحاب وفقدان الثقة، عندما تبدأ الأسعار في الانخفاض، ويتدافع الغرباء للخروج من السوق، .. وتنفجر الفقاعة.

يعتبر الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين من أهم المحطات في التاريخ المالي، ومن بين كل الدروس التي خرجت من الجهود الكبيرة لدراسة تلك الأحداث يظل الدرس الأهم: يمكن لتلك السياسة النقدية غير الملائمة أو غير المرنة في أعقاب الانخفاض الحاد في أسعار الأصول أن تحول التصحيح إلى ركود والركود إلى كساد.

ودخل العالم في الحرب العالمية الثانية، وكان أكثر الأحداث أهمية في الفترة التي تلت الحرب هو ما لم يحدث، فلم يكن هناك ركود عميق وطويل الأجل ولكن حدثت انهيارات أخرى بعد ذلك، لقد حدث في القرن العشرين تسعة انهيارات مالية، من أشهرها وأهمها “الاثنين الأسود” عام 1987؛ حيث هبط مؤشر داو جونز بنسبة 10 في المائة في جلسة تعاملات واحدة.

وبقدر ما كانت الشركات اختراعًا عظيمًا فقد رافق مسيرتها دائمًا سلسلة من الاحتيال والأسواق غير العقلانية، ولكن أليس هناك ما يمكننا القيام به لحماية أنفسنا من الأزمات الحقيقية والمجازية؟ لقد أنشأ سوق التأمين منذ بداياته المتواضعة في القرن الثامن عشر أجوبة لذلك السؤال.

التأمين

إن تاريخ إدارة المخاطر صراع طويل بين رغبتنا اليائسة لتأمين أنفسنا لنكون بأمان، والواقع الصعب أنه ليس هناك شيء اسمه المستقبل على نحو منفرد، بل هناك “مستقبلات” متعددة وغير منظورة لن تفقد قدرتها أبدًا على أن تفاجئنا.

بدأ نوع من سوق التأمين يتكون في لندن اعتبارًا من أواخر القرن السابع عشر، وأُنشئت أول شركة للتأمين ضد الحريق عام 1680، وبدأت في الوقت نفسه سوق متخصصة بالتأمين البحري، ولم يكن التجار المؤسسين الحقيقيين للتأمين بل علماء الرياضيات، ولكن رجال الدين هم الذين حولوا النظرية إلى التطبيق، عندما أنشأوا في أسكتلندا في القرن السابع عشر صندوقًا لإعانة أرامل وأيتام رجال الدين الذين يتوفون.

وتطور نظام التأمين إلى نظام اقتصادي اجتماعي حكومي (دولة الرفاه) ويعتبر المؤلف ذلك اختراعًا بريطانيًا، وليس من اختراع اليسار بل على العكس فقد كان هدف تشريع بسمارك للتأمين الاجتماعي كما عبّر عنه عام 1880 “إيجاد حالة ذهنية محافظة لدى الجماهير العريضة من غير ملاّك الأرض تنبع من الحق في الحصول على معاش تقاعدي”. ومن وجهة نظر بسمارك فإن “التعامل مع شخص يتطلع إلى الحصول على معاش تقاعدي عند تقدمه في العمر أسهل بكثير من التعامل مع شخص لا يتوقع ذلك”.

العقارات

كان امتلاك المنازل أساس الأرستقراطية البريطانية ثم صار أساس الديمقراطية، .. “آمن كالمنازل” عبارة متداولة تعكس توق الناس إلى امتلاك البيوت، وتعني أيضًا أنه ليس أكثر أمانًا من إقراض المال لأناس لديهم أملاك عقارية، ولذلك فإن أهم مصدر أموال للأعمال التجارية في الولايات المتحدة هو الرهن العقاري.

ولكن برغم الثقة بالعقار وتطور العمل المالي ومؤسساته ما زالت عمليات التمويل معرضة لخطر الأزمات كما كانت في أي وقت مضى، لقد وقعت الأزمة المالية العظمى بسبب الاستثمارات والرهون العقارية وتسمى أحيانًا الفقاعة العقارية.

لماذا نظل غير قادرين على إدارة الأزمات وتوقعها برغم ما امتلكنا من براعة وبرغم تقدم الدراسات التي يمكن إلى حد كبير أن تتوقع الأزمة وتساعد في مواجهتها؟

يجيب المؤلف بأن الناس تقع بسهولة كبيرة في أفخاخ معرفية، مثل تحيز التوافر الذي يجعلنا نقيّم قراراتنا على أساس من المعلومات المتوفرة بشكل أسهل في ذاكرتنا وليس البيانات التي نحتاجها بالفعل، وتحيز الإدراك المتأخر الذي يجعلنا نربط احتمالات الأحداث بعد وقوعها بشكل أعلى مما كنا نفعله فبل وقوعها، ومشكلة الاستقراء التي تجعلنا نصوغ القواعد العامة على أساس من المعلومات غير الكافية، وتحيز التأكد، الذي يجعلنا نميل إلى البحث عن أدلة مؤكدة لافتراض مبدئي ما، وإهمال المجال، الذي يمنعنا من أن نعدل على نحو متناسب ما ينبغي أن نكون على استعداد للتضحية به من أجل تفادي الأضرار ذات الأحجام المختلفة، والثقة المفرطة عند المعايرة؛ التي تجعلنا نسيء تقدير فترات الثقة التي تكون فيها تقديراتنا قوية.

الأزمات وتفاديها

كيف تحدث الأزمات المالية والاقتصادية؟ وكيف يمكن تفاديها؟ برغم أن المؤلف يؤكد على أن المستقبل امتداد للحاضر، ويمكن توقع الأزمات في ضوء التاريخ، فإن تكرار الأزمات وتعقيدها يجعل تفسيرها أصعب بكثير من دراستها تاريخيًا. لقد حدثت في القرن العشرين -كما يقول المؤلف- تسع أزمات اقتصادية كبرى، ويبدو فهمها وتحليلها أمرا مهمًا اليوم وشاغلاً لجميع الناس في كل مواقعهم، القادة السياسيين والاقتصاديين والمثقفين والناشطين والمواطنين بعامة الذين يتضررون بسبب الأزمات ويدفعون ثمنها من مدخراتهم وفرصهم.

والحال أن الفكر الاقتصادي على صعوبته وتخصصيته يزيد اليوم حضورًا في الثقافة العامة كما يهيمن على التنافس السياسي، وقد كانت الأزمة المالية العالمية الأخيرة (2007) ثقيلة على العالم تكاد تغير كل شيء، وربما يسعف في تحليلها العودة إلى التاريخ وإعادة إدراج التاريخ الاقتصادي مدخلاً في الفهم والتحليل.

يلخص فيرغسون دروس التاريخ بأن سوء الإدارة يبدد الموارد، هذا ما حدث لإسبانيا في القرن السابع عشر عندما لم تفدها الكميات الهائلة من الفضة التي حصلت عليها من القارة الجديدة وما حصل مؤخرًا للأرجنتين عندما حول سوء الإدارة قصة النجاح إلى قصة فشل!

ولكن سيرورة التاريخ والأسواق معقدة، وتربطها دراسات كثيرة جدًا بتحولات وظواهر أكثر شمولاً وتعقيدًا، الثورة الصناعية مثلاً صنعت عالمًا جديدًا محل عالم آخر، اختفت مدن وأسواق وموارد لتحل مكانها أخرى جديدة ومختلفة، وفي هذا يجادل هوبزباوم عبر موسوعته للتاريخ الاقتصادي التي تدرس التحولات وكيف تشكل العالم القائم اليوم منذ الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر حتى عام 1990.

ويعتبر كارل بولانيي في نظر كثير من المفكرين والمخططين الاقتصاديين -مثل جوزيف إ. ستيغليتز الحائز على جائزة نوبل- أهم مفكر اقتصادي للقرن العشرين، ويقدم كتابه (التحول الكبير: الأصول السياسية والاقتصادية لزماننا المعاصر)؛ والذي صدر في العام 1944 وما زال يعاد نشره حتى اليوم، أفكارًا تخاطب شؤون عصرنا الحاضر.

وبرأي ستيغلتز، فإن أهم طروحات بولانيي أن فكرة التنظيم الذاتي للسوق فاشلة، واليوم (يقول ستيغلتز) لم يعد يوجد أي تأييد فكري محترم لفكرة أن الأسواق في حد ذاتها يمكن أن تؤدي إلى نتائج فعالة، ولا عادلة، وهناك اليوم إجماع عام على أهمية تنظيم الحكومة للأسواق المالية، ولكن ثمة خلاف على أفضل الطرق للقيام بذلك… يتحدث ستيغليتز بالطبع عن أزمة 2007 والتي ترد إلى فلسفة تنظيم السوق نفسها بنفسها.

ويؤكد بولانيي العلاقة المتبادلة بين مذاهب سوق العمالة الحرة، والسوق الحرة، والآلية المالية للتنظيم الذاتي ذي معيار الذهب، لكن من المؤكد اليوم أن اقتصاد التنظيم الذاتي لا يعمل بالمستوى الجيد الذي يرغب أنصاره أن نؤمن به، حتى صندوق النقد الدولي المؤمن بنظام السوق الحرة فإنه منظمة تتدخل بانتظام في أسواق سعر الصرف، فتؤمّن الأموال لإخراج الدائنين الأجانب في الوقت الذي تسعى فيه لرفع أسعار الفائدة التي تؤدي بالشركات المحلية إلى الإفلاس، ويؤكد بولانيي العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع، وكيفية تأثير النظم الاقتصادية في علاقات الأفراد بعضهم ببعض، ونتحدث اليوم عن رأس المال الاجتماعي.

ويلاحظ بولانيي أيضًا تداخل السياسة والاقتصاد بعضهما ببعض تداخلاً معقدًا؛ فالفاشية والشيوعية لم يكونا نظامين اقتصاديين بديلين فقط، بل كانا يمثلان خروجًا مهمًا عن تقاليد السوق الحرة، ولكن (يقول بولانيي) الفاشية مثلها مثل الاشتراكية تأصلت في مجتمع السوق الذي رفض أن يقوم بدوره، فكانت فترة الذروة بالنسبة إلى العقائد التحررية الجديدة هي على الأغلب بين 1990-1997 بعد سقوط جدار برلين وقبل حدوث الأزمة المالية العالمية.

ولسوء الحظ، كما يقول ستيجلتز، فإن خرافة الاقتصاد ذي التنظيم الذاتي لا تمثل توازنًا لهذه الحريات؛ لأن الفقراء يعانون شعورًا أكبر بعدم الاستقرار، وفي بعض البلدان ارتفع عدد الفقراء، وعند هؤلاء توجد حرية أقل، وتحرر أقل من الجوع والخوف.

العولمة والأسواق

إلى أي مدى ساهمت العولمة والمعلوماتية في تشكيل الأسواق وأزماتها؟ وهي بالطبع أسئلة تكاد تكون مستجدة تمامًا في ظل الفرص والتحديات والعوالم الناشئة عن تقنيات الحاسوب والاتصالات والعولمة والتداخل والاعتماد المتبادل الذي ينشئ عالَمًا اقتصاديًا واجتماعيًا جديدًا ربما يكون منقطع الصلة بالماضي، وهناك اقتصاد جديد عملاق ومتنام يقوم على المعرفة والإبداع يغيّر جذريًا في الموارد وقوى الأسواق وعلاقاتها.

الأسواق وأزماتها اليوم كما تبدو في دراسات كثيرة، مثل جيرمي ريفكن (اقتصاد القرن الحادي والعشرين) وألفن توفلر (تحولات السلطة والموارد، واقتصاد المعرفة) وتقارير عالمية، تتشكّل عبر سلسلة من الحوسبة والتصغير والتشبيك لتغير في طبيعة الأسواق وتنظيمها أيضًا، مثل فقدان سيطرة الدول على تدفق الأموال!

هناك اليوم أيضًا ظواهر اقتصادية جديدة وتبدو مفاجئة في الاقتصاد العالمي وتحدث للمرة الأولى (ربما) في التاريخ الحديث، مثل ما أشار إليه تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (2013) من صعود قوى اقتصادية جديدة تؤثر في الاقتصاد العالمي، مثل: الهند والصين والبرازيل وتركيا؛ فالجنوب اليوم يقود الاقتصاد بدلاً من الشمال الذي هيمن على قيادة الاقتصاد العالمي لأكثر من خمسمائة سنة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات الكتاب
عنوان الكتاب: صعود المال: التاريخ المالي للعالم – العنوان الأصلي (الإنكليزي)
Nail Ferguson
The Ascent of Money: A financial History of the World
Washington Rules: America’s Path To Permanent War
المؤلف: نيال فرغسن
ترجمة: محمود عثمان حداد
عرض: إبراهيم غرايبة – باحث متخصص في العلوم الاجتماعية
السنة: 2012
الناشر: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة
عدد الصفحات: 377
_________________________
إبراهيم غرايبة – باحث متخصص في العلوم الاجتماعية

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب