16 نوفمبر، 2024 6:48 ص
Search
Close this search box.

صدمة موت الأب على ابن مهجور في “اختراع العزلة”

صدمة موت الأب على ابن مهجور في “اختراع العزلة”

كتبت: سماح عادل

“بول أوستر” كاتب ومخرج أمريكي، ولد في 1947 في ولاية “نيوجيرسي” أمريكيا، لأسرة يهودية من أصل بولندي، اشتهر بروايات بوليسية ذات طابع خاص، كما أنه اشتهر بترجمته للشعر والكتب باللغة الفرنسية.

بدأ “بول أوستر” حياته الأدبية بكتابة الشعر حيث سكن في باريس فترة طويلة، وعندما توفى والده أحس بحاجة ملحة إلى كتابة كتاب عن نفسه، وعن أبيه، وعن طفله الذي كان يبلغ في ذلك الوقت عامان، ويعتبر كتابه “اختراع العزلة”، ترجمة أحمد علي، إصدار دار أثر 2016، أول محاولته لكتابة السرد، كتب بعده روايته الناجحة.

هزة موت الأب..

في كتابة “اختراع العزلة” والذي هو عبارة عن مذكرات يحكي “بول أوستر” عن عائلته، في البداية يخبر القراء بنبأ موت أبيه الذي فاجأه، والذي جعله يشعر بحاجة ملحة إلى الكتابة، ثم يكشف بالتدريج عن علاقته بأبيه وتصوراته عنه، اضطر إلى البقاء في منزل والده حوالي شهر لإخلائه من الأثاث حتى يسلمه لمالكه الجديد، فقد باع والده منزله الذي عاش فيه سنوات طويلة قبل وفاته مباشرة، وكان قد أخبر ابنه بذلك قائلا له أنه سينتقل لمكان آخر، ويبدو أن أباه قد استشعر نهايته فقرر بيع المنزل الذي تمسك به سنوات طوال.

أحدثت وفاة أبيه المفاجأة هزة في نفس “بول أوستر”، لم يعبر عنها بوضوح ربما لأنه نفسه لم يكن يعي بها، لذا لجأ إلى الكتابة لكي يخفف من وقع تلك الهزة، وأيضا لكي يقاوم فناء والده وذهابه إلى النسيان الدائم، وربما لكي يعيد اكتشاف نفسه في ضوء المتغيرات الجديدة، من خلال اكتشاف أبيه المتوفي ومحاولة التعرف عليه من جديد.

اكتشاف الأب..

كان أبوه تاجرا غنيا يعمل بجد، عاش عدة سنوات قبل وفاته في منزل العائلة بعد أن انفصلت زوجته عنه،  لم يغير أي شيء في المنزل في سنوات وحدته والتي دامت لخمس عشرة عاما، رأي “أوستر” أن حالة الإهمال التي بقى عليها المنزل، طوال سنوات الوحدة، كانت انعكاسا ملموسا لسلوك أبيه غير الواعي، والذي يتمثل في العيش بشكل سطحي، دون التعمق في الحياة أو في الذات.

أثناء تفحص “أوستر”  لأغراض أبيه انتابه الهلع، ذلك لأنه أخذ وقتا ليصدق موت أبيه، كما أن تلك الأغراض، الذي احتفظ بها والده على مدار سنوات طويلة، تذكره بحياته في ذلك المنزل، طفولته، وعلاقته بأبيه، ومعاناة أمه من زواج فاشل.

صورة الأب..

يبدأ “أوستر”  في رسم صورة أبيه للقارئ، رجل معزول داخل ذاته، عاش سنوات عمره الأخيرة في عزلة مضاعفة، بعد انفصاله عن زوجته، كرس وقته للعمل، كان يتناول وجباته في المطاعم، ويستخدم المنزل فقط للنوم، لم يكن يهتم بالمنزل حتى أن الإهمال قد بدا واضحا عليه، أفسد الأثاث، وجعله أشبه بمنزل مهجور لا يعيش فيه أحد، ورغم ذلك لم يقرر تركه والعيش في مكان يناسب وحدته لأنه كان سيضطر حين بيعه إلى إعطاء نصف ثمنه لطليقته، ووصف الكاتب عزلة أبيه داخل ذاته بأنها كانت للتخلي، فهو لم يكن يعيش بمفرده، بالعكس كان يختلط بالناس، يعمل، وله أصدقاء، كما كانت له علاقات نسائية متعددة، لكنه رغم ذلك لا يظهر ذاته الحقيقية أمام الناس، بل يخفيها قدر ما يستطيع ليظهر مكانها ذات أخرى من صنعه، لا علاقة لها بحقيقته، ذلك لكي لا يضطر إلى النظر لنفسه أو التعمق فيها، أو يرى الآخرون يطلعون عليها كما هي.

لا يدخن ولا يشرب الكحول، وليس شغوفا بالمتع الحسية، ولا مهتم بالمتع الفكرية، الكتب تضجره وكذلك الأفلام والمسرحيات تبعث فيه النعاس، تزوج في الرابعة والثلاثين وفقد زواجه بعد 18 عام، في الواقع الزواج استمر لعدة أيام لأنه لم يملك الموهبة ليكن زوجا رغم التزامه بأطفاله وعائلته، لم يتكلم قط عن نفسه يبدو وكأن حياته الداخلية استعصت عليه، لم يستطع الحديث عنها لذا تخطاها بصمت، كان صلبا ومحايدا على السطح، ويمكن التنبؤ بسلوكه بشكل قاطع، كان الأب مفتقرا للمشاعر يريد أقل القليل من الآخرين ومن الحياة.

صورة لأبو أوستر في شبابه

وجود مرهون بأب مهمل..

نتيجة للعلاقة الباردة بين أبوه وأمه يستنكر”أوستر” كونه مجرد حدث طارئ، وأن وجوده كان محض صدفة وخطأ، فقد حملت به أمه أثناء شهر العسل، وكانت وقتها قد اكتشفت أن زواجها غير ناجح وكانت تنتوي ترك زوجها حين اكتشفت أنها حامل، ولذا اضطرت إلى الاستمرار في الزواج،  وعند الولادة لم يهتم الأب وكان انشغاله بالعمل أهم، حتى أنه لم يرافق زوجته أثناء الولادة، وأتى إليها في اليوم التالي في زيارة باردة مع أمه، وتكرر الأمر عند ولادة حفيده، لم يظهر أي اهتمام عاطفي لذلك، حتى أن الكاتب آلمه ذلك لأنه كان يتوقع أن يظهر حبا واهتماما لحفيده كتعبير عن وده وحبه له، يقول”أنت لا تكف عن الجوع لحب أبيك حتى بعد أن تكبر”، لكن أبيه في الواقع لم يهتم، فقد رأى حفيده ثلاث أو أربع مرات فقط خلال حياته كلها.

ثم يتذكر الكاتب أبوه من واقع ذكرياته عنه في أيام الطفولة وتأثير ذلك عليه، كان دائم التغيب يذهب للعمل قبل استيقاظه ويعود بعد نومه بكثير، لذا كان ابن أمه وعاش في مدارها، كان طفلا يشعر دوما بحاجته إلى أب لكنه كان غير موجود، لم يكن يشعر أن أبوه يكرهه لكنه بدا مشوشا فقط وليس بمقدوره النظر في اتجاهه رغم أن أكثر ما أراده أن يلاحظه أبوه، لذا عاش كثيرا من خيبات الأمل في فترات مختلفة من حياته، كلما بدا أن أبوه تغير وأصبح مهتما يعود مرة أخرى، لقد كان أبوه بالنسبة له شخصية خيالية، رجل ذو ماض مظلم ومثير، وكان هو الابن لم يكن مميزا عنده بأي أمر يحققه.

جرح غائر..

كان هناك جرح حاول الكاتب مداواته بالكتابة عن أبيه لكنه أثناء الكتابة  أحس أكثر من مرة بتشوش ذهنه، وبأنه كلما اقترب مما يريد قوله يتبعثر كل شيء، وأن الكتابة عن أبيه لم تشف جرحه وإنما تبقيه فاغرا فالكتابة عن أبيه أبقته حيا أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي تمثلت أمامه خيباته مرة أخرى، والفشل المذري في أن تكون له علاقة جيدة ومرضية بوالده.

قتل الجد..

أثناء البحث الشغوف ل”أوستر” عن ماضي والده ليكتشف المزيد عن ذلك الرجل الذي عاش طوال حياته في عزلة داخل ذاته، اكتشف أمرا مثيرا للاهتمام بل بالأحرى أمرا مرعبا، لقد وجد صور كثيرة في درج في غرفة نوم أبيه، احتفظ بهذه الصور لكي يتعرف على أبيه من خلالها، إحدى الصور كانت لجدته وأبنائها الخمس، الذي كان والده واحدا منهم، لكنه لاحظ أمرا غريبا بعد التدقيق في الصورة، لاحظ أنها مقطوعة وأنه تم إعادة لصقها مرة أخرى، واستنتج أن الجزء المفقود من الصورة هو لجده الذي ظهرت أصابعه فقط على كتف أحد الأبناء، ثم ومن خلال قلق نفسي عميق يحكيه للقارئ يستمر في سرد ما حدث لجده، الذي كان موته سرا كبيرا حتى أن أبيه أخبره، بثلاث ميتات مختلفة له، وكان جده قد رحل وأبوه طفل صغير في السابعة من عمره.

بمحض الصدفة اكتشفت إحدى قريبات “أوستر” أثناء سفرها بالطائرة لغز موت جدها، حيث قابلت رجلا يعيش في المدينة التي نشأت فيها العائلة.. لقد قتلت جدة “أوستر” زوجها، أطلقت عليه الرصاص، وقد حكم ببراءتها رغم اعترافها بقتل زوجها بسبب دفع محاميها أنها مريضة نفسيا، وأن زوجها خانها مع امرأة أخرى، واضطرت إلى ترك المقاطعة التي تعيش فيها مع أولادها الخمس، والتنقل المتكرر بسبب سوء حالة العائلة المادية، وكان أبو الكاتب هو أصغر الأبناء ولقد عاش الإخوة في ترابط عائلي حميم.

ويتذكر الكاتب جدته التي ربت خمسة من الأبناء واستطاعت أن تتحمل العوز المادي، وكانت تجمع بين أبنائها حتى أنها رسخت داخلهم أهمية ارتباطهم بالعائلة، كانت مخلوقة ضئيلة ومتغضنة، فكرة تقبيلها كانت تجعله ينكمش لأن وجهها كان كثير التجاعيد، وبشرتها ناعمة بشكل غير بشري، ورائحتها كانت رائحة الكافور، وأنها لم تكن تهتم به أو تداعبه، ومرة واحدة أعطته كتابا هدية لكنه كان قد استعمل من قبل أشخاص آخرين.

ابن غير مرضي..

اشتغل والده بشقاء طوال حياته منذ التاسعة من عمره، ولقد كان يعمل كثيرا لأنه أراد الحصول على أكبر قدر متاح من المال، ورغم ذلك كان لا ينفق الكثير، كان جمع المال هدفا في حد ذاته، وكأنه أيقونة ستحميه من مخاطر الحياة، وهذا البخل انحفر في ذاكرة الكاتب لأنه حرمه من متع كثيرة في طفولته، لأن أبوه كان يهتم فقط  بأن يحصل على الأشياء التي يحتاجها بأقل ثمن ممكن.

ثم وفي انقلاب مفاجئ تحول الكاتب من الرثاء لنفسه لكونه كان طفلا لأب معزول وبعيد ومهمل، لا يعبر له عن حبه واهتمامه، تحول ليرى الأمر من زاوية أخرى، لقد رأى أنه نفسه كان ابنا سيئا، فقد خيب أمل والده لأنه كان شاعرا، وكونه شاعر لم يكن يعن شيئا لأبوه، المكافح في العمل، كانت اختياراته لحياته لا ترضي والده، واستسلم أخيرا لكونه لم يكن شيئا أساسيا في حياة أبيه، وكأنه كان بخار بالنسبة له، لأنه بالنسبة لأبيه أن تكون جزءا من العالم يعني أن تقوم بعمل ما، عمل يجلب المال، والكتابة وخاصة كتابة الشعر ليست عملا يجلب المال، وبالتالي ليست عملا.

عندما كبر الكاتب كان تواصله مع أبوه ضعيفا، عبارة عن مكالمة هاتفية شهرية، وتزاور أربع مرات في العام، ورغم ذلك يذكر صفات أبيه الحسنة بعد أن رسم صورة  فرغ فيها كل ما عاشه مع أبيه من إحباط، فقد كان أبيه  يعطف على الفقراء ويساعدهم في تحسين حياتهم، كما كان يساعد أصدقاءه في المواقف الصعبة دون أن يشتكي، كما كان يمتلك صبرا وقوة احتمال و يبدو في معظم الأحيان شديد الهدوء.

كتاب الذاكرة..

في  القسم الثاني من الكتاب كتب “أوستر” بشكل مختلف، كتابات يحكمها الخيال عن مشاهد ومواقف من حياته قبل وفاة والده، وعلاقته ببعض الناس، وعلاقته بطفله الذي اضطر أيضا إلى الابتعاد عنه بعد انفصاله هو أيضا عن زوجته، ومرض ابنه الذي لم يستمر طويلا، ومخاوفه من أن يفقد ابنه..

الكتاب في مجمله محاولة من الكاتب لترميم نفسه بعد موت والده المفاجئ دون أن يكون قد عاش معه حياة مرضية، لذا حاول إعادة اكتشاف والده  ليعيد اكتشاف نفسه هو أيضا، ولكي  يعيش ما تبقى من حياته بعد أن يحل معضلة الأبوة داخله، وفي رأيي أن والده كان معزولا نتيجة لأنه هو نفسه لم يكن قد وجد أب يحتويه وبالتالي عجز عن أن يكون أبا جيدا.

يقول “أوستر” في كتابه “عندما يموت الأب يصير الابن أبا نفسه، وابن نفسه في نفس الوقت، ينظر إلى وجه طفله ويرى نفسه في وجه الصبي، يتخيل ما الذي يراه الصبي عندما يلتفت نحوه وينظر إلى وجهه، ويتكشف للصبي أنه أبو نفسه، ولسبب غامض يجد نفسه مأخوذا بهذه الفكرة، ليس منظر الصبي مكتشفا الحقائق هو ما دوخه باللذة، ولا حتى فكرة أنه يقف داخل أبيه، ولكنه الذي يراه في وجه الصبي من حياته الماضية المتلاشية، إنها حالة من الحنين لحياته نفسها، هذا ما يشعر به ربما، ذكرى طفولته كابن لوالده، ولسبب غامض أيضا يجد نفسه يرتعش في تلك اللحظة من الفرح ومن الأسى معا، لو كان هذا ممكنا وكأنه يتقدم وفي نفس الوقت يتخلف، نحو المستقبل ونحو الماضي معا، وهناك أوقات، عندما تكون هذه المشاعر في أشد قوتها وانفلاتها، يعود غير واثق من أن حياته تقيم في الزمن الحاضر”.

 

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة