10 أبريل، 2024 8:59 م
Search
Close this search box.

“صادق باخان” .. أزمة المثقف في حنينه إلى وطنه القديم !

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتبت – سماح عادل :

“صادق باخان” كاتب ومترجم عراقي.. ولد في بغداد عام 1949، وأتم دراسته  فيها، وحصل على درجة الماجستير عن طريق “المعهد الثقافي البريطاني” في الخارج، نشر العديد من المقالات في الأدب والثقافة والسياسة.. فصل من التدريس في 1979، لكونه كردياَ وقد رفض الانتماء إلى “حزب البعث”، واختار السفر إلى الخارج وعاد في 1991.. رحل منذ أيام قليلة مخلفاً رصيداً من المقالات والمترجمات القيمة.

إجادة اللغة الإنكليزية..

في حوار مع “صادق باخان”، في جريدة (الصباح)، أجراه “سعد صاحب”، يقول عن طفولته وعلاقته باللغة الإنكليزية: “أهم المحطات في طفولتي علاقتي بوالدي، رحمه الله، الذي كان يجيد التحدث بسبع لغات، وكذلك أشقائي وشقيقاتي يتحدثون بأكثر من لغة، عشت في هذه البيئة العاشقة للغات ولهذا برزت في إجادتي  اللغة الإنكليزية وهناك من يقول أني أتحدث أفضل من الإنكليز أنفسهم، وكانت أعظم محطة قادتني إلى أن أتقن اللغة الإنكليزية عندما تقدمت إلى الالتحاق بكلية بغداد بعد أن تخرجت من المرحلة الإبتدائية وأصروا على امتحاني ونجحت فيه، ولكنني أصبت بإحباط وجرح مازلت إلى يومنا هذا أتذكره بشيء من الحسرة، إذ سألني مدير المدرسة إن كان والدي وزيراَ أو ضابطاَ كبيراَ في الجيش؛ فقلت له بأن والدي ليس هذا أو ذاك إنما هو تاجر وأنا من عائلة ميسورة الحال فرد عليّ: آسف يا ولدي إن التعليمات لا تنطبق عليك. ومن ذلك اليوم أردت الانتقام من درس الإنكليزي، وقبل التغيير أجرى معي صحافي أميركي مقابلة وناقشته في ما يتعلق بالثقافة الأميركية والإعلام الأميركي، ومن ردودي عليه: لماذا اتخذ إعلامكم منحى تضليلياَ إذ تنشرون المقالات والدراسات وتنتجون أفلاماً سينمائية تظهروننا كأننا مازلنا نعيش في أجواء قصص (ألف ليلة وليلة)؛ وتصورون للآخرين السندباد مازال يطير فوق سجادته في بغداد، وأن كل عراقي عندما يستيقظ من نومه يحمل فانوسه ويفركه ويخرج الجن ويقول (شبيك لبيك…عبدك بين يديك) وسألته هل تراني أحمل فانوساَ بين يدي ؟.. فوجدته في غاية الإحراج وسألني: كم سنة قضيتها في الولايات المتحدة، فقلت له أني لم أذهب لأميركا وإنما أعرفها من خلال الكتب والأفلام السينمائية، وفي الوقت الحالي أترجم قصة طويلة لكاتبكم (وليم فوكنر) هل تعرفه ؟.. قال لا أعرفه”.

المجتمع في الستينيات والسبعينيات..

يقول “صادق باخان” عن فترة الستينيات والسبعينيات في العراق: “كنت في مدرسة الفلاح الإبتدائية في (تل محمد) مميزاَ في اللغة الإنكليزية لأنني تعلمت اللّغة في كنيسة للآشوريين، وأول فتاة أحببتها كانت آشورية لكنها سافرت لأميركا، وللملاطفة قال صديقي الشاعر(سركون بولص): لماذا لا تصبح آشورياَ ؟.. فأنت تجيد اللغة الآشورية وتعرف كل الطقوس والعادات الخاصة بالآشوريين. و(سركون) من الناس الذين لهم مكانه اجتماعية في المجتمع البغدادي، ثم انتقل إلى كركوك وبعدها غادر هرباَ من العراق بسبب تخلفه عن الخدمة العسكرية، وكانت بغداد مدينة التآخي والمودة والاحترام والذوق، وكانت العائلات العراقية تدخل إلى دور السينما بكل تهذيب وأناقة ومع الأسف غاب اليوم هذا المشهد الرائع وتهدمت السينمات، وكتب صديقي الراحل (سركون بولص) قصيدة أسماها: (هل صحيح هدموا دار سينما السندباد). وكان الناس أخوة وتربطهم علاقات وثيقة، وكان العربي يتزوج من كردية والكردي يتزوج من عربية، وأنا أناشد من يهمه الأمر أن يسعى جاهداَ لإعادة النسيج الاجتماعي، كما كان في السابق. فإذا كنت تريد أن تبني مجتمعاَ ناجحاَ عليك أن تعيد بناء العلاقات الاجتماعية مع الحرص على التخفيف من الصراعات الطبقية، وذلك بالعمل على ردم الفجوة بين الطبقات والتأكيد على نشر الثقافة والتعليم وتخصيص موارد مالية للقضاء على الأمية، فكيف نستطيع أن نتّطور وفي بغداد أعداد هائلة من الأميين ؟.. وكيف نستطيع أن تبني مؤسسات دولة مدنية وأنت لديك كل هذا الخراب ؟.. فعلى المعنيين أن يتولوا دراسة التجارب العظيمة التي حققتها شعوب لا تمتلك ربع الثروات التي يتمتع بها العراق، وعلى سبيل المثال فليذهبوا ويدرسوا تجربة (ماليزيا) التي لا تمتلك عشر ما نمتلكه من ثروات طبيعية هائلة وشعب مبدع في شتى المجالات، والحقيقة التي يجب أن تقال؛ الرجال العظماء هم الذين يصنعون التاريخ ولا يصنعه الدهماء ولا الغوغاء، والعراق مؤهل ليصبح دولة محورية في المنطقة العربية لما يتمتع به من تاريخ عظيم حافل بالإنجازات الفكرية، وعلى الحكومة العراقية أن تعمل بصورة جديّة على أن تحرر من الاقتصاد الريعي وعدم الاعتماد على النفط وحده، وتنويع مصادر الدخل من خلال إقامة المشاريع الصناعية الإستراتيجية وإعادة أعمار. وبناء البنى التحتية التي حطمتها الحروب”.

كتابة المقالات..

عن الكتابة يقول “صادق باخان”: “لا أكتب المقال الذي في رأسي على الورق ما لم أطبخه على نار هادئة حتى تأتي الوجبة لذيذة وطيبة وشهية، فالكتابة قضية مقدسة وفيها مسؤولية عظيمة، ودائماَ اتسائل بتعجب كيف يسمح هؤلاء لأنفسهم أن يكتبوا بهذه السهولة والعجالة ؟.. وهذه حكاية فيها الكثير من العبرة والحكمة والفائدة، الروائي المعروف (جيمس غويس) ذات يوم ذهب صديق بزيارته في المساء فوجده جالساَ متأملاَ فسأله صديقه هل كنت تكتب ؟.. نعم كنت أكتب، فقال له الصديق لابد أنك كتبت الكثير ؟.. أجل كتبت جملتين، وكنت أرغب أن أكتب جملتين لم يسبقني أحداً إليها وهذا قمة الحرص والإحساس والمسؤولية، وفيما يخصني أنا مقل في عالم الكتابة وأكثر كتاباتي تدور حول السياسة”.

تشوه المثقفين..

عن المثقفين والتناقضات في سلوكهم يقول “صادق باخان”: “ومن واجب المثقف أن تتناغم ثقافته مع سلوكه، وكم أمقت الإزدواجية المقيتة في شخصية المثقف؛ ولا يحلو لي أن اسميه مثقفاَ ذلك المتسلط في داخل البيت وفي الخارج تراه مثل الحمل الوديع، واليوم أصبحنا مبتلين بمثقفين مشوهين تجدهم يتخذون من أنفسهم مسميات في غاية الفكاهة ويتيحون لك فرصة أن تضحك عليهم وعلى مواقفهم غير المنسجمة مع ثقافتهم، فالثقافة بمنزلة الدين ترتقي بالإنسان وتهذب لسانه وتطهر يديه وقلبه وضميره، فالمثقف هو القديس الذي يحمل بيده فانوس الهداية في مجتمع مختنق بالقبح والخوف والجنون، نحن اليوم نعيش في زمن آخر وهذه فرصتنا الأخيرة لكي نبرهن على أننا نحب هذا الوطن العظيم وعلينا مسؤولية حمله فوق ظهورنا والسير به إلى آفاق التجد والإبداع والجمال، أكرر هذه فرصتنا الأخيرة ولا تأتي فرصة أخرى، أيها المثقفون استيقظوا من غفلتكم وألاّ ستأتيكم العواصف وتقتلع جذوركم”.

الجيل الستيني والخيبة..

عن جيل الستينيات يقول “صادق باخان”: “الستينيات فترة الثورات العديدة التي جرت في العالم ومرحلة التحولات الوطنية في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، وقد أثرت هذه الحركات في السينما والمسرح والقصة والشعر والاجتماع، وقدم هذا الجيل الراقي إسهامات عظيمة وتجاوز الإنجازات التي قدمها السابقين، وأن هذا الجيل نال الكثير من النعت والسباب والشتائم لأسباب أيديولوجية، وكانت المعارك قائمة بين الماركسيين والشيوعيين والقوميين، وسمّت الكاتبة فاطمة المحسن هذا الجيل بـ(جيل الخيبة)، ونحن أبناء هذا الجيل كنا نولي الثقافة أهمية خاصة ونقرأ كل شي وكنا نعاني من جوع ثقافي، وكانت ثقافتنا متشعبة متنوعة غنية بالإبداع والأفكار الجديدة، وكنا نجيد القراءة بلغات أجنبية على سبيل المثال، أنا أجيد القراءة باللغة الإنكليزية والفرنسية، وأصدقائي (سركون بولص) و(فاضل العزاوي) و(جليل القيسي) يقرؤون ويكتبون بلغات أجنبية، ومن هذا المنظار نحن نرى أن الثقافة شرط جوهري لبناء الأوطان وبناء الإنسان من الناحية الروحية والذوقية، والثقافة مفتاح التقدم والإزدهار، وإن أردت أن تقيس مستوى تقدم أي بلد فنذهب إلى ثقافته”.

ويواصل: “كنت التقي بأصدقائي القدامى الذين عبثت بهم الأقدار، وهم: (سركون بولص)، (فاضل عباس هادي)، (إبراهيم زاير)، (عبد الوهاب داقوقي)، (فوزي كريم)، (عبد القادر الجنابي)، (زهير الجزائري)، (إسماعيل زاير)، (كوكب حمزة). وقد وجدت أخيراَ عدداَ من الأصدقاء لأعوض بهم إحساسي بالخسارة غداة وفاة زوجتي، لاسيما الصديقان (محمد خضير سلطان) و(عبد الكريم حسن مراد)، ولكني لا أميل أن أجعل من الصداقة أفقاَ للثرثرة، وإنما أسعى دائماً لتحويل المقهى إلى جامعة، ولهذا تراني أتولى تدريس بعض الأصدقاء الأدب الإنكليزي وأشجعهم على تعلم اللغات الأجنبية، هذا معناه أن المقهى كما كانت في السابق مكاناً للإبداع والصداقة والحرية والنبل والتعاون”.

الجيل الحالي..

رأيه في الجيل الحالي، يقول “صادق باخان”: “في جيل الشباب الحالي تجد العجب؛ وإذا سألت طالباَ في كلّية الآداب عن ما يقرأه فسوف تجده يتلفت يميناَ وشمالاَ حتى أنه لا يفرق بين (حافظ إبراهيم) و(حافظ شيرازي)، ولا يفرق بين (غائب طعمه فرمان) و(فؤاد التكرلي)، ولا يولي اهتماماً للثقافة ولا يقرأ كتاباَ في السنة الواحدة، وهنا أسأل كيف ندفع بالشاب أن يهتم بالقراءة ويطور ذائقته ؟.. هذه مسؤولية البيت أولاً ومسؤولية الجامعات ثانياَ, فلا بد أن تركز الجامعات العراقية بدفع الطلبة إلى الاهتمام بالثقافة بالإضافة إلى تطوير أساليب التدريس وتأهيل المدرسين وتعويد الطلبة المشاركة في المناقشة حتى لا يظل الطالب يستقبل المعلومات فقط بل مشاركاَ بإثارة الجدل حتى نستطيع أن نبني جيلاً يتمتع بالقوة والصبر والثقة، فالأوطان لا تبنى بالأميين وأصحاب الجهل؛ وإنما تبنى بالعلم والثقافة وبغير ذلك نكون خسرنا فرصة عظيمة للتقدم والتطور”.

أزمة وجودية..

يقول “صادق باخان” عن العراق: “السياسة تنتج فناَ رديئاَ وتخلف ضغائن وعداءات، والعراقيون أفنوا حياتهم في السياسة وفي فترة الشباب كانوا يحلمون بإقامة المدن الفاضلة وبالنتيجة اصطدموا بواقع صلب فأصيبوا بالانتكاس والإحباط، فانطووا على ذاتهم يرممون إحساسهم بالخسارة، وأن المجتمع بعد العام 1958 عاش فترة من الهزائم والخسارات، ولذلك عاش المثقفون سنوات من الخيبة، فانعزل من إنعزل وسافر من سافر والبعض الآخر تحول إلى إنسان متهدم يمضي حياته متنقلاَ من خمارة إلى خمارة، والعراق كان بإمكانه أن يبني مجتمعاَ مدنياَ ويبني مؤسسات دولة حديثة وأن يؤسس لدولة ديمقراطية تؤمن بالتعددية وحرية الفكر، وهذا لم يحصل بسبب هذه الحروب التي قامت بين الأحزاب الماركسية والقومية، والذي نحصده حالياً نتائج تلك الحروب حتى أصبح العراق اليوم يبحث عن هوية، إنه الآن يعاني من أزمة وجودية في البحث عن الذات، وأن زمن الأيديولوجيات انتهى وبدأ زمن الديمقراطيات والديمقراطية أصبحت نتاج التحولات العظيمة التي أفرزتها ثورة المعلومات وثورة ثقافة الصورة، أستطيع القول أن العراق دخل بعد ربيع العام 2003 إلى زمن الحداثة، بعد أن كان العراقيون خارج الزمن”.

لقاءه بـ”جبرا إبراهيم جبرا”..

يحكي “صادق باخان” في مقالة له بجريدة (الصباح الجديد)، عن لقاءه بالكاتب الكبير “جبرا إبراهيم جبرا”، يقول: “كنت وأنا في مرحلة المتوسطة أتابع مجلة (العاملون في النفط)، وكان يجلبها لي جار لنا كان يعمل في شركة النفط، وكانت تستهويني فيها مواضيعها الأدبية والثقافية فسألت الرجل عمن هو مسؤول عنها فابلغني بأن شخصاً يدعى جبرا إبراهيم جبرا هو المسؤول عنها ويتولى تحريرها، وقلت له هل يسمح لي بالقدوم إليه لأني أرغب أن أنشر فيها كتاباتي وتراجمي، وفي الغد جاءني الرجل وابلغني بأن الأستاذ جبرا يرحب بي؛ ففرحت بالخبر وبعد أيام رحت أحمل ما لدي من أعمال وجئت الدائرة التي يعمل فيها الأستاذ ودخلت إلى غرفته فوجدته وحده في الغرفة وتناثرت الكتب فوق طاولته؛ واستقبلني بكل أخلاقيات (الجنتلمان)، واتخذت مجلسي قبالته ثم بادرني بالقول: بأي لغة تحب أن نتكلم فيها ؟,, قلت: اختر ما شاء لك بين العربية والإنكليزية، وما كدت أتكلم ببعض الجمل حتى وجدت الأستاذ يقف على قدميه ويقول لي: هل لديك جيب صغير في بنطالك ؟.. قلت: بلى، قال: هل تعلم يا ولدي بأنك تتحدث الإنكليزية أفضل من أكبر دكتور في جامعة بغداد، فمن أين تعلمتها ؟.. قلت: تعلمتها في البيت إذ أن والدي يحسن الحديث بسبع لغات وأن إخواني يحسنون الحديث بثلاث لغات وأني درست اللغة الإنكليزية في كنيسة على يد أستاذ آشوري تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت، فرأيت الدهشة تلون قسمات وجهه وطلب مني أن يلقي نظرة على نتاجاتي، وبعد التدقيق اختار قصيدتين مترجمتين من الشعر الإنكليزي الحديث، وأبلغني بأنه سينشرهما في العدد المقبل من المجلة، وأستأذنت منه بالخروج وخرجت وشعرت بأن الدنيا لا تسعني من الفرح، وفعلا نشر الأستاذ القصيدتين وذهبت لتسلم المكافأة فكانت خمسة دنانير، ويا لها من ثروة في زمانها، وتمضي الأيام ويتولى النظام البعثي تأميم شركات النفط الأجنبية وصدف أن التقيت في طريقي على شخص موتور حاقد فبادرني بالقول: اسمع يا هذا أن السلطات ستحكم على (سركون بولص) بالسجن لـ 15 سنة، وعلى (موسى كريدي) بـ 20 سنة، وعلى (عبد الرحمن مجيد الربيعي) بـ 20 سنة، وستحكم عليك بـ 10 سنوات لأنك أصغرهم سناً، قلت: لماذا ؟.. قال: لأنكم تنشرون في مجلة يشرف عليها (عميل) لبريطانيا، نظرت إليه مستهجناً مستخفاً بهذه التهمة القذرة، وقلت له: إذا كنت تقوله الصحيح فهل كانت مخابراتكم تسمح للأستاذ أن يتنفس لدقيقة واحدة، أخجل من نفسك وأنصرفت عنه محتقراً له، ولكني مازلت إلى اليوم أتذكر أول مكافأة تسلمتها”.

لغة أدبية..

في مقالة أخرى بجريدة (الصباح الجديد) يتحدث “صادق باخان” بلغة قصصية أدبية بعنوان “بحيرة الطفولة” عن يقول: “هذه رواية أعيد روايتها رواها لي في الأصل صديق عاش طفولته في الحي المدني من معسكر الحبانية ولما كبر انتمى إلى أحد الأحزاب اليسارية وناضل ضد النظام الدكتاتوري ثم رحل مع الراحلين إلى المنافي حتى توفي هناك وهذه تحية له، قال الجلاد لأمه أن تحبس شقيقه الأصغر في البيت ولا تدعه يذهب إلى البحيرة، الصبي وجد نفسه محاطاً بهذه العزلة الثقيلة وازدادت عزلته حين علم أن أصدقاءه ذهبوا إلى البحيرة العظيمة وتركوه وحده، أخذ الصبي يتوسل أمه أن تدعه يخرج من سجنه وكانت أمه ترفض ذلك خشية أن يعود شقيقه الأكبر فيشبعه ضرباً. وحين وجدت الأم ابنها الصغير يطلق عويله مثل ذئب جريح رق قلبها وقالت له بأنها ستسمح له بالذهاب إلى البحيرة على أن يعود قبل مجيء شقيقه الأكبر من العمل. خرج الصبي وكأن طائراً انطلق من قفصه، كانت البحيرة تبعد عن ( بلدتهم ) مسافة ثلاثين ميلاً ومع ذلك قرر الصبي أن يقطع كل تلك المسافة وحده من دون خوف، والمحزن أنه لم يكن يملك حذاءً يحميه من تلك الأشواك المنتشرة على الهضبة العالية، وقف ينظر إلى تلك التلال التي تناثرت على سفوحها الأسلاك الشائكة وكأنها عفاريت كالتي كانت أمه تروي عنها في قصصها المرعبة المسلية ولكن الصبي كان قد نشأ مع أشجار التوت والرمان والتفاح ولم يكن يعرف الخوف إلا بعد انتقاله إلى المدينة الكبيرة التي عدها مصنعاً لإنتاج الخوف والكآبة والأحزان وهي تختنق بالكذب والغدر والخيانة وتقتل براءة الإنسان، اندفع وتسلق التلال حتى صار فوق الهضبة وأخذ يجري حافي القدمين وغداة مدة رأى ذلك المدى الأزرق يمتد أمام باصرته ثم أخذ يتدحرج من المنحدر وهو ينظر إلى ذلك الشاطئ الجميل ولم ير أحدا يحتل رماله الدافئة إذ بدا مهجوراً إلا من طيور النورس.

تملكت الصبي وحشة مريرة وهو يكتشف غياب الأصدقاء، قال مع نفسه – ( جئت وسألقي بنفسي في هذا الحضن الأزرق) ، بعد برهة تراكمت عليه الأحزان وجلس يبكي ومن يومها شعر أن ثقباً كبيراً قد انحفر في قلبه وروحه، وفجأة رأى الصبي راعياً عجوزاً وهو يقود قطيعاً من الأغنام فسأله الصبي إن كان قد رأى فتياناً جاؤا إلى البحيرة فقال الراعي بأنه رآهم يستقلون شاحنة عادت بهم إلى البلدة، ومن يومها ظل الصبي يحمل ثقباً في قلبه وصار يعيش وحشة لا شفاء لها”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب