خاص : بقلم – عبدالناصر محمد :
ارتبط شهر رمضان المعظم ارتباطًا وثيقًا بمؤسّس الدولة الطولونية؛ الأمير “أحمد بن طولون”، حاكم البلاد في الفترة من سنة 254 هجرية الموافق سنة 868 ميلادية، وحتى وفاته في العاشر من شهر آيار/مايو عام 884 ميلادية الموافق سنة 270 هجرية، خاصة في أمرين؛ الأول متعلق بميلاده الذي كان يوم 23 رمضان عام 220 هجرية الموافق 20 أيلول/سبتمبر عام 835 ميلادية، أما الأمر الثاني فكان مرتبطًا بالجامع الذي بناه وسُمي باسمه حتى الآن؛ وهو ثالث جامع يُبنّى في مصر بعد جامعي “عمرو بن العاص” و”جامع العسّكر”.. ولازال “جامع أحمد بن طولون” شامخًا على أرض المحروسة تتزين به “قاهرة المُعّز” إلى عصرنا هذا وأصبح نبراسًا يُضيء القاهرة بالعلم والمعرفة، ورغم أن جامع عمرو بن العاص قد بُني قبل جامع بن طولون بنحو مائتي عامًا، إلا جامع أحمد بن طولون يُعد أقدم مسّاجد مصر القائمة الآن نظرًا لإحتفاظه بحالته الأصلية التي بنّي عليها بالمقارنة مع جامع عمرو الذي توالت عليه عمليات الإصلاحات والتوسّعات التي غيّرت من معالمه.
اسّتعان “ابن طولون” بمهندس قبطي لبناء الجامع يُدعى: “سعيد بن كاتب الفرغاني”، وهو رجل بارع في العمارة وسّبق له تولي عمارة “مقياس النيل” في جزيرة الروضة، وفي أحد أيام شهر رمضان المبارك قام بن طولون بزيارة لمسّجده فوجد العمال يعملون حتى اقترب موعد آذان المغرب حيث الإفطار مما تسّبب في إصابته بحالة من الضيق فوجه الحاكم كلامه لرفاقه وللمشرفين على بناء الجامع متسائلاً بشكلٍ ساخر: “متى يذهب هؤلاء العمال الضعاف ليشتروا الإفطار لأولادهم ؟!”، فأمر على الفور بأن يصّرفوا العمال وينهوا عملهم وقت العصر حتى يتسّنى لهم الإفطار بكل يُسّر مع أسّرهم؛ ثم كان الاقتراح الأهم هو إعداد مأدبة لمن يرغب في التأخر حتى وقت الإفطار.. وبالفعل تم تنفيذ أوامره وتم إعداد مأدبة في اليوم التالي؛ وقرر هو أن يفطر وسط العمال ودعا كبار رجال الدولة وكبار التجار للإفطار معه؛ وكذلك فتح الباب للفقراء ليفطر الجميع إفطارًا واحدًا، وهنا قرر “ابن طولون” أن تستمر تلك المائدة في الجامع طوال العام وطالب الجميع؛ وبخاصة التجار، بأن يُحّاكوه في هذا الأمر وكلٍ منهم يُقيّم مائدة على الأقل خلال شهر رمضان المعظم لتقديم الإفطار للصائمين من الفقراء والمسّاكين وعابري السّبيل، وصار هذا التقليد عادة مسّتمرة حتى الآن، وهي التي يُطلق عليها “مائدة الرحمن”.. تاريخ عريق حافل بالأحداث لهذا المسّجد العريق الذي تم بنائه فوق جبل مرتفع يُطلق عليه جبل “يشكر”، فها هو الآن من العلامات التي تتميز بها مصر المحروسة؛ “قاهرة المُعّز”، ولكنه للأسف امتدت إليه أيادي الإهمال ويحتاج إلى بعض الاهتمام ليُصبح صرحًا عظيمًا لا مثيل له.