خاص: إعداد- سماح عادل
“شهدان الغرباوي” شاعرة مصرية، لها قصائد عذبة تفيض بالرقة.
انبهار بالإيقاع..
في حوار معها أجراه “مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر” تحدثت “شهدان الغرباوى” عن البدايات في الكتابة: “كأي طفلة بدأت في التعرف على الشعر من خلال الموسيقى والشعر العمودي الخفيف، وكان ذلك مبكرًا، وبدأت في الكتابة بصفتها نوعًا من المحاكاة لهذا الشيء، الذي كان يبهجني؛ كلما سمعته وطربت لموسيقاه.
وازداد انبهاري بالإيقاع؛ حينما تعلمت القراءة، ودرست الشعر المدرسي، حتى أصبح فعل قراءة الشعر جزء من نفسي، وأمرا مفروغا منه، ليس فيه مناقشة، وكانت البداية بمرحلة الطفولة، بعد أن تعلمت مبادئ القراءة قبل الالتحاق بالمدرسة، إذ كنت أتصفح بعض الكتب القديمة بالبيت، كأيّ طفلة تلهو، وعثرت على أحد دواوين الشاعر “نزار قباني” المفعمة بالموسيقى، وكنت أحلق معها دون أن أفهم معنى الكلمات، ولانبهاري بالإيقاع حفظت منه الكثير، وظللت أبحث في الكتب المهملة عن كتب أخرى مشابهة.
حتى حان وقت التحاقي بالمدرسة الابتدائية، فوجدت فيما يدرس لي من أناشيد طفولية خفيفة وأغاني مرحة ممتعة خاصة دفعتني إلى محاولة محاكاتها في المناسبات، فبدأت في المحاكاة في عمر 10 سنوات تقريبًا، وبحثت عن كتب مشابهة، ثم حين دخلت إلى مرحلة الأحزان الطفولية، والتي كشفت لي عن ذات شعرية، تدفعني للكتابة سرًّا، وظللت أكتب، حتّى وصلت إلى المرحلة الثانوية.
ففطنت إلى علم العروض وسعيت إلى دراسته دراسة خاصة، وطبقته على القصائد العمودية، وحينما التحقت بالجامعة عرفت شعر التفعيلة، فانبهرت به إلى جانب الشعر العمودي، وكنت قبل ذلك قد أفردت جزءً كبيرًا من اهتمامي لقراءة وحفظ الشعر الجاهلي ومعظم الشعر العربي، كما استهواني شعراء المهجر آنذاك.
ثم قرأت عفيفي مطر ودرويش وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وحلمي سالم في أثناء المرحلة الجامعية مع استمراري في مطالعة وحفظ قصائد نزار قباني، فوجدتني تلقائيًّا انتقل إلى شعر التفعيلة وإلى جانب اهتمامي بقراءة الكثير من الشعر العربي، فقد آنست الشعر المترجم، وأصدرت من شعر التفعيلة مجموعة بعنوان “هلاوس منطقية” وتلقائيًّا أيضا ومع توسع القراءات، وقراءة أدونيس خاصة وبعض القراءات للمتصوفة أمثال ابن الفارض وابن عربي والحلاج، ومع الانخراط في الحياة العملية، وجدتني قد سئمت الايقاع، وسئمت محدودية الحرية، فيما أكتب أو أعبر، وفي هذا الوسط وجدتني أتخلص شيئا فشيئا من القصيدة التقليدية فكانت قصيدة النثر، وأصدرت مجموعة نثرية بعنوان: “لا أفكر أن أدهنها بالأزرق” .
وتتابع عن نفسها: “وعن دراستي وأنشطتي، فقد درست القانون، وحصلت على ليسانس الحقوق سنة١٩٩١ وعلى دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي سنة ١٩٩٢، وقمت بممارسة مهنة المحاماة الحرة وما زلت، وعملت إلى جانب ذلك كناشطة حقوقية في مجال الدفاع عن الحريات وعن حقوق العمال القانونية، ثم عن النساء العاملات والأطفال في نزاع مع القانون، عن طريق بعض منظمات المجتمع المدني، ثم قمت سنة ٢٠٠٥ بتأسيس جمعية قانونية للدفاع عن الحقوق القانونية للمرأة والطفل”.
وعن انتاجها الأدبي تواصل: “انتاجي الإبداعي فيتمثل في:
– ديوان قصيدة تفعيلة بعنوان ”هلاوس منطقية” صدر سنة ١٩٩٤.
– ديوان نثر بعنوان ”لا أفكر أن أدهنها بالأزرق” سنة ١٩٩٧.
– ديوان “في مغطس واحد“ سنة ٢٠١٨.
– ديوان نثر بعنوان مؤقت ”يجلسن على المنضدة الرخامية” (تحت الطبع).
– ديوان نثر بعنوان “قرص مجاز مهدئ” تحت الطبع، بالإضافة إلى أبحاث ودراسات عدة في القانون المصري والاتفاقيات الدولية.
قصيدة النثر..
وعن التأصيل لقصيدة النثر علي مستوي النقد تقول: “هناك كثيرون حاولوا التأصيل لقصيدة النثر، لكن معظمهم كانوا من الشعراء لا من النقاد المتخصصين، وللأسف أيضًا لم يخرج أي منهم عن عباءة سوزان برنار في هذا التأصيل أو على الأقل فإن عددا غير قليل منهم اعتمد بالإضافة إليها على تأصيلات لنقاد من الغرب.
لكن أذكر أن الدكتور بهنام عطا لله، والذي على الرغم من اعتماده على آراء بعض نقاد الغرب؛ إلا أنه قد تعرّض لأصلها الشرقيّ، فهو لم ينسقْ إلى الآراء المتداولة، التي ترجع قصيدة النثر العربية إلى أصل غربي، حيث أشار إلى وجود جذور لنشأتها في الشرق، وساق لذلك بعض الأمثلة: كملحمة جلجامش، وسفر نشيد الإنشاد أو مزامير داوود وغير ذلك من نصوص تحتوي على ملامح من قصيدة النثر العربية.
وأرى أن من النقاد الذين كشفوا عن شعرية قصيدة النثر، واستقلاليتها عن سائر الأجناس الأدبية، الشاعر عز الدين المناصرة في رسالته للدكتوراه بعنوان ”جنس مستقل” وفي كتابه اشكاليات قصيدة النثر، حيث يقول فيه: “أما (درجات الشاعرية) في قصيدة النثر، فهي تتراوح مثل أي نوع أدبي بين (علوُّ الشاعرية) لدى كتّابها الكبار، و(ضعف الشاعرية) لدى الناشئة، و(الشاعرية الوسطى) لدى الغالبية”.
القصيدة الجديدة..
وعن تصوراتها للقصيدة الجديدة: “الشاعر كفنان، لا يجب أن تلقى على قصيدته تبعة تخليص المجتمع من آفاته بشكل فج ومباشر، لأن هذا يتعارض مع تلقائية وصفو تعاطيه مع تجربته بعيًدا عن الأغراض، التي منها: إضاءة النخبة أو النقاد بهدم أنساق بالية أو بث مبادئ وسلوكيات أيديولوجية يتحيزون لها، ويرجون انتشارها في المجتمع، حتّى لو كان على حساب حرية المبدع واستقلاليته وجمال النص الابداعي.
ولو سلمنا بثمة دور في هذا الصدد، فالأولى به أن يناط بالنقاد أنفسهم، وليس عليهم إلّا ترك المبدع حرًّا مع تجربته من دون التدخل أو التوجيه للعملية الإبداعية، متى كانت حرة، ونحسب أنها بهذه الطريقة فقط ستنتج لا محالة نقلات كبيرة على مستوى الوعي والقراءة، تلقائيًّا من دون معاناة أو صدمات اجتماعية.
لكن على المبدع أن يكون شجاعًا في ممارسته لحريته الإبداعية من دون أن يحسب حسابًا لناقد أو قارئ منحاز، وهو بذلك يكون مؤسِسًا لحركة التمرد الواعية التي سيتعلم المجتمع منه ممارستها من دون خسائر.
ويسري ذلك أيضًا على فكرة التخلّص من الموروث، الذي لا يجب أن يتم هو أيضًا بطريق الصدمة من ناحية، ومن ناحية أخرى ألّا يكون منصبًا على التراث لمجرد كونه تراثًا، لكن شريطة الصدق، يجب أن ينصب على كل ما هو سلبي وبغيض، وعلى ما ليس صالحا للإبقاء عليه أساسا منطقيا.
وهنا تبرز رؤيتي لموقف الشاعر الطليعي من المورث، على عكس ما يرد دائمًا لوصف موقفه من التنظيرات المختلفة حيث أراهن على صدق الشاعر إبان تعامله مع الموروث، أراهن عليه في نجاح سعيه نحو التحرر من الموروث، لا لدافع أخلاقي، وإنما لأن صدق الشاعر في نظري هو الجسر الأقرب بين المبدع والقارئ.
وفيما يخص انتصار الشاعر لتجربته الذاتية، فهي بالفعل مفتاح تفاعله مع روح العصر ولغته المتطورة، وهذا لا يقتصر على عصرنا الحالي، فالتجربة الذاتية اعتبرت كذلك على مر العصور”.
وفاتها..
توفيت “شهدان الغرباوي”، يوم 4 سبتمبر 2023، بعد صراع مع المرض.
قصيدة “شغف”..
ل “شهدان الغرباوي”
كسوقية أصيلة أحدق في هيكلك العظمي
أرأيت كم فاجأتني النشوة، وأنا أنظر إليك، حتى أنني اكتسيت ثوبا فاقع اللون من قماش شعبوي
في هذه اللحظة الشيطانية شغفت بالصخب
وتندرت بأقدام راقصات الباليه وزهور البيبي فلاور
أرأيت الليل كم انقلب حولي حفلا للعامة يختلط فيه الحابل بالنابل والأذرع بالخصور
وتضيع أسماء العطور الرخيصة بين أدخنة المخدر
اعلم أيها العابر أن مجمل تاريخي قد حضر
فرأيتني – في البدء- أتربى بين قطط الشوارع وأراقص بنات عِرْس
وتراءى لي كم لعقت معهم ما تساقط من حليب الأمهات اللاتي مررن أمامنا على مدى العصور
وكم قاسمتهم هياكل الأسماك التي كانت تنبذها المخلوقات العليا وأصاغر الناس منذ أول الزمان
هل كان لزاما- يا “علي”- أن تضع كوب القهوة الليلية على طرف المشواة ريثما تفرغ من رَصّ أصابع اللحم المتبل
وأن تمسك بالسيجارة في يدك اليسرى وتدخن بغير اكتراث، وتدير أغنية هابطة دون أن تلتفت نحوي.