17 نوفمبر، 2024 8:48 ص
Search
Close this search box.

شكرًا لك يا أبي !

شكرًا لك يا أبي !

خاطرة

خاص : بقلم – عدّة بن عطية الحاج (ابن الرّيف) :

شكرًا لك يا أبي، لأنّك أنت من كان سبب وجودي في هذه الحياة وروحك تسّري في روحي كما يسّري الكهرباء في المعادن، كنت مدرسة قائمة بذاتها ومنك تعلّمت الكثير، لقد جعلتني أكتشف الحياة على حقيقتها وأعرف النّاس على حقيقتهم وعلّمتني كيف أواجه مصاعب الحياة، كم أنت رائع يا أبي في تواضعك وفي سّمتك وفي حبّك للحياة وللناس، أنت نسّيج وحدك وفريد عصرك وأنت من فهم الحياة على حقيقتها، كم كنت تفرح عندما تراني سعيدًا ومندمجًا مع الحياة ومع النّاس، كنت صبورًا جلودًا تعرف كيف تواجه نوائب الدّهر بحكمة وبصمتٍ رهيب، كنت رائعًا وأنت تدرّس للأجيال نفائس العلم وكلّ من درس عندك لا ينكر فضلك بل يحترمك ويبجلّك ويمنحك تاج الوقار والاحترام.

منذ فتحت عينيّ على هذه الحياة رأيتك أنت النّور الذي سأسّير على هّديه وأنا أمتطي قطار الحياة على عجل ولا ألوي على شيء، أفتخر بك أبًا ومعلّمًا حكيمًا كان لي نعِم السّند في المحن يوجّهني وينصحني ويُعلّمني كيف أواجه الصّعاب بكلّ برودة دم، كان أبي ولا يزال هو ذلك الزّمن الجميل الذي أحنّ إليه كلّما ادلهمّت الخطوب وحلّ شتاء اليأس على نفسي، يا أبي، كنت نعم الصّاحب في هذه الدّنيا التي لا أمان فيها، تُعلّمني من دروس الحياة ما يكفيني لكي أواجهها بكلّ ما أوتيت من شجاعة أدبية، لأنّ الحياة بحر عميق ومن لا يُحسّن السّباحة حتمًا سيغرق في لجُّجه العميقة، فحياتنا هي عبارة عن حلم جميل أو كابوس مزعج، وأنت يا أبي، جعلت حياتي كلّها عبارة عن حلم جميل أتمنى ألاّ أستيقظ منه أبدًا، لأنّك أنت يا أبي هو حلمي الجميل الذي صرت أراه في كلّ ليلة وسأراه في قادم اللّيالي إلى أن أموت.

كنت ولاتزال تراني طفلك المدلّل الذي يرتع في مروج سعادتك المخملية ويحلّق كالعصفور الدّوري في الأجواء البعيدة وعندما يجنّ عليه ليل الهموم يركن إلى عشّك الدّافيء، كنت يا أبي ربيع حياتي الذي أشرقت شمسه من محيّاك وغمر نورها كياني ووجداني، كنت يا أبي شُعلة من ذكاء أصاب شررها ضميري ووجداني فأيقظ في نفسي ومضة الحرّية الفكرية والذّكاء الاجتماعي، كنت يا أبي ذلك الجبل الشّامخ الذي لا تزعزعه عواصف الزّمان ولا رياح الدّهر العاتية، كنت يا أبي في شخصيتك القوّية طودًا شامخًا لا يغرّك ثناء المادحين ولا يحزنك قول القالين، لأنّ شعارك في هذه الحياة هو: “كن صادقًا مع نفسك ومع النّاس ولا تعبأ بما يُقال عنك من كلام، لأنّ ألسّنة الأنام فيها الرّحيق وفيها السّمّ الزّعاف”.

علّمتني يا أبي كيف أكون كبيرًا، وعلّمتني كيف أقرأ شخصيتي وأحلّلها خاصّة عندما أقف أمام مرآة ذاتي، وعلّمتني كيف أقرأ شخصيات النّاس من خلال كلامهم معي، بل ومن خلال نظرتي إليهم فقط بل ومن أوّل لقاء، لأنّ للفراسّة أربابها، فلسّت بالخبّ ولا الخبّ يخدعني، يا أبي، لقد علّمتني فنّ الحوار مع الذّات ومع النّاس بأسلوب هاديء هدوء البحر في فصل الشّتاء، فالحياة مدرسة وأستاذها هو الزّمن وما فيه من أحداث عظام، ليت الزّمن يعود إلى الوراء لكي أعود ذلك الطّفل الذي كان يفرح كلّما رأى والده راجعًا من عمله أو من رحلة سفر وهو يحمل إليك هدايا سّنية لكي يقدّمها إليك بكلّ حبّ وبكلّ أريحية، وكم كانت السّعادة تغمره من رأسه إلى أخمص قدميه عندما يراك مبتسّمًا ابتسامة الطّفل النّائم في عسل السّعادة المخملية التي لا تحدّها حدود، كانت هداياك يا أبي هي السّعادة بأمّ عينيها والتي صارت هزارًا يغرّد في دوحة الطّفولة السّرمدية التي قامت بإعدام غراب البيّن في ساحة الأمل.

يا أبي، لقد وقفت إلى جانبي في مرضي وكنت ليّ بمثابة الطّبيب المعالج، كنت تفرح لفرحيّ وتحزن لمرضيّ، وكم كنت تفرح عندما تراني أتماثل للشفاء، في مرضّي لم يسأل عنّي لا القريب ولا البعيد ولا الصّديق ولا الخلّ الوفي، من كان يسأل عنّي هو أنت فقط، تتفقّدني في كلّ ليل وفي كلّ نهار، وسّاندتني ماديًّا ومعنويًّا لم تجعلني أحتاج إلى أيّ أحد، تعهدتّني وأنا طفل صغير وتعهدتّني وأنا كهل، كم أنت كريم وفاضل يا أبي، أنا أفتخر بك أبًا وسّندًا قوّيًا ليّ في هذه الحياة، فشمسك لن تغيب أبدًا عن أرض حياتي لأنّ نورها دائم لا ينقطع أبدًا، يا أبي، في مرضّي الأخير صرت لا أطيق فراقك أتمنى أن تطول جلساتنا العديدة في اللّيالي اللّيلاء، فوالدك هو الشّخص الوحيد الذي لا يتمنى لك الفشل في هذه الحياة، لأنّه بالمختصر المفيد يريد أن يراك سعيدًا في حياتك وفي عملك وفي أسرتك.

يا أبي، كم أنت شجاع وقوّي وأنت تواجه بكلّ إيمان وبكلّ حزم وعزم مرض سرطان الحنجرة الذي ألمّ بك منذ عام ونصف، لقد صّبرت صّبر أيّوب وأنت تواجه هذا الورم الخبيث الذي عصف بجسّدك النّحيل وكبّدك معاناة وآلامًا شديدة واجهتها بكلّ رباطة جأش، فالسرطان لن يقهرك يا أبي بل ستُقهره في قادم الأيّام، فليله لن يطول في جسّدك الطّاهر بل ستُشّرق شمس الشّفاء عليك وسيّغمر نورها جسّدك وسيّذوب الورم في جسدك كما يذوب الرّصاص، يا أبي، إنّ السّرطان سيذهب من جسدك وسوف تعود إلى حياتك الطّبيعية كما عهدناك من قبل، يا أبي، عشّ حياتك وانسّ مرض السّرطان لا تجعله ينغّص حياتك ويُكدّر صفوّ يومك، عشّ حياتك واعزف نشيد الأمل والتّفاؤل وحلّق مع طيور السّعادة بعيدًا في أجواء الغد المشرق، فالقادم هو الأفضل يا أبي، بعد إجراءك للعملية الجراحية سوف تولد من جديد لأنّك ستتخلّص من ذلك الدّاء الوبيل.

يا أبي، لا تحزن، سأكون أنا هو لسانك الذي ستتحدّث به إلى النّاس وسأكون أنا ترجمانك، أكتب لي ما تريد وأنا سأنقله إلى النّاس بكلّ أمانة، يا أبي، لا تحزن، دعك من النّاس ومن كلامهم الفارغ الذي لا يُفيد، عالج نفسك بالمطالعة وبالقراءة فالصّمت حكمة يا أبي وأنت كنت دائمًا حكيمًا، يا أبي، لا تحزن، ربّ ضارّة نافعة، في صمتك ستكون رائعًا كما كنت تتحدّث إلى النّاس، في صمتك ستكون فيلسوفًا وصوفيًّا لأن الصّمت هو أجمل لغة في هذا الوجود، يا أبي، كم يسرّني أن أهديك هذه الأبيات عربون شكر ومحبّة ووفاء:

يا أبي، لا تحزن…

فللصمت طقوسه

وللصمت سرّه

وللصمت ألقه

فالليل صمت

والبحر صمت

والجبل صمت

كان الصّمت عقل الفلاسفة

كان الصّمت صلاة العارفين

كان الصّمت مهرجان النّاطقين

يا أبي، لا تحزن…

فالصّمت لغة

والصّمت موسيقى

والصّمت حلم

والصّمت حقيقة

والصّمت نور وضياء

أتمنى لك من كلّ أعماق قلبي يا أبي الشّفاء العاجل، وستعود إلينا في صحّة جيّدة، وسنعزف مع العصافير ترانيم الفرح والسّرور والحبور، وسنطارد أمطار السّعادة عندما يحلّ علينا فصل شتاء الأمل والتّفاؤل، أنا أحبّك يا أبي وأفتخر بك لأنّك أنت أنا وأنا أنت بل أنا نسخة عنك ومنك.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة