خاص: إعداد_ سماح عادل
“شفيقة القبطية” راقصة مصرية، ولدت في 1851 اشتهرت في القرن التاسع عشر.
حلم الرقص..
في عام 1871 كانت في مصر راقصة شهيرة اسمها “شوق” وفي ذلك العام دعيت “شوق” لترقص في بيت أسرة عريقة من أسر الأقباط لمناسبة زواج أحد أبناء الأسرة واستطاعت “شوق” أن تخلب ألباب السيدات والفتيات برقصها الرائع، وفي فترات استراحتها كانت الفتيات المدعوات يرقصن مشاركة للأسرة في فرحها. ونهضت من بين المدعوات آنسة سمراء جميلة التقاطيع فاتنة القسمات، وبدأت ترقص، وبعد دقائق كانت الدهشة والإعجاب قد أذهلا المدعوين. فلما ختمت الفتاة رقصتها، تقدمت منها شوق وقبلتها، وقالت لها (اسمك إيه يا عروسة؟) فقالت الفتاة في استحياء (شفيقة) فقالت شوق: (انتي خسارة.. ما تجي أعلمك الرقص؟) وثارت والدة شفيقة، وعدت هذه الدعوة إهانة، إذ كان الرقص في ذلك الوقت حرفة منحطة في نظر الأسر الكبيرة، وكان يطلق على محترفاته (الغوازي)، وعندما همت أم شفيقة بالانصراف بابنتها، غمزت “شوق” بعينها ل”شفيقة” غمزة فهمت معناها.
كانت “شوق” أول راقصة استطاعت أن تجعل لنفسها مكانة محترمة بين العائلات الكبيرة، وكانت الراقصة الوحيدة التي يسمح لها بأن ترقص في الحفلات التي يقيمها الخديوي، وعندما افتتحت قناة السويس، رقصت “شوق” بين المدعوين لحفلة تكريم الإمبراطورة “أوجيني” التي جاءت لحضور حفلة الافتتاح، ولهذا عدت “شفيقة” نفسها محظوظة حين أظهرت لها “شوق” هذا الإعجاب والتشجيع. وكانت أسرة “شفيقة” من الأسر المتدينة، فكانت تحتم على فتاتها أن تؤدي الصلاة في الكنيسة، فكانت تخرج بحجة أنها ستؤدي الصلاة، ثم تذهب إلى بيت “شوق” بشارع محمد علي، وكثر ترددها على “شوق” التي لقنتها الدروس الأولى في الرقص. وفجأة اختفت “شفيقة”، فجن جنون الأسرة، وبحثت عنها في كل مكان حتى يئست من العثور عليها، وبعد حوالي ستة أشهر علمت الأسرة أن فتاتها تعمل راقصة في أحد الموالد الكبرى بالوجه البحري، فأرسلت إليها قسيساً من أصدقاء الأسرة لينصح لها بالرجوع عن هذا المسلك الذي يزلزل مكانة عائلتها، ولكن القسيس فشل في إقناع الفتاة التي بدأت تضع قدميها على أولى درجات الشهرة والغنى! ولم يسع الأسرة المحافظة إلا أن تتبرأ من فتاتها المارقة.
ولم تعبأ الفتاة بهذا القرار، ولعلها أرادت أن تثبت لأسرتها أنها لم تنحرف عن استقامتها فألصقت باسمها نوع ديانتها فكانت تنادى “شفيقة القبطية” وعادت إلى القاهرة لتعمل مع أستاذتها “شوق” لتعمل في الأفراح الكبرى. وبعد ستة أشهر ماتت “شوق” فخلا الميدان ل”شفيقة”، وفي فترة قصيرة تربعت على عرش فن الرقص، ولمع اسمها، فأصبحت الأسر الكبيرة تباهي بأنها جاءت “بشفيقة القبطية” في فرحها. وأرادت شفيقة أن تجري تجديداً يتناسب مع شهرتها، فابتدعت “رقصة الفنيار” فكانت تميل بجسمها إلى الخلف وتحمل على بطنها منضدة صغيرة تضع عليها أربع أكواب مملوءة بالشربات، وتضع على جبينها فنياراً (شمعدان) مضاء بالشموع، ثم ترقص وفي يدها الساجات على هذه الحال، فلا تسقط الأكواب، ولا ينزلق الشمعدان لقدرتها العجيبة على حفظ توازنها.
اتسعت شهرة “شفيقة” فسعى إليها أصحاب الملاهي الكبرى يغرونها بالأجور لترقص في ملاهيهم، حتى استطاع ملهى (الإلدورادو) أن يظفر بالتعاقد مع “شفيقة”، وبذلك بدأت حياة جديدة، وبدأت الثروة تتدفق عليها. وبدأت في حياة “شفيقة” قصة جديدة تشبه قصص ألف ليلة.. كانت يومئذ قد تم نضخها، واكتملت أنوثتها، وبدت فاتنة، فالتف حولها عشرات من المعجبين الأثرياء، وأحاط بها رهط من العظماء والكبراء، وتوافد لمشاهدة رقصها كبار السواح الأجانب الذين نقلوا اسمها وشهرتها إلى الخارج عبر البحار، وأصبح الملهى الذي ترقص مزدحم برواده. وعندما تقف “شفيقة” على خشبة المسرح لترقص كانت الجنيهات الذهبية تتناثر تحت أقدامها تحية لها من المعجبين والعشاق، ولكنها كانت لا تمد يدها إلى شيء منها، بل كانت تستخدم ثلاثة من الخدم يجمعون هذه الجنيهات ويقدمونها لها بعد انتهاء وصلة الرقص، وقيل أن واحداً منهم كان يحتفظ لنفسه ببعض هذه الجنيهات، فاستطاع في مدى قصير أن يقتني ثروة اشترى بها عقارات في حي شبرا، وبذلك استطاع أن يعتزل الخدمة.
العشاق..
من عشاق “شفيقة” اثنان من أغنى أغنياء مصر، أحدهما أنفق في سبيل إرضائها مئات الألوف من الجنيهات حتى فقد ثروته عن آخرها دون أن يظفر من “شفيقة” بأكثر من لمس يديها. والثاني ثري كبير كان دخله لا يقل عن 300 جنيه ذهبي في اليوم، بلغ إعجابه ب”شفيقة” إلى حد أنه كان يأمر بفتح زجاجات الشمبانيا للخيل التي تجر عربة (الست شفيقة القبطية). وانتقلت شفيقة للرقص في ملهى (ألف ليلة) فكانت تظهر في ملابس موشاة بخيوط من الذهب، وتلبس حذاء غطت كعبه طبقة من الذهب، وزينته قطع من الماس الحقيقي. واتسعت شهرة الراقصة العجيبة، فبدأت إحدى الشركات الفرنسية التي تصنع أدوات ومواد الزينة تضع صورة “شفيقة” على منتجاتها، فظهرت زجاجات عطر ومراوح وعلب بودرة تحمل صورتها، فراجت في أنحاء العالم، وظهرت مناديل رأس عليها صورة شفيقة فتهافتت عليها حسان مصر.. وتلقت شفيقة كثيراً من الهدايا التي بعث بها السواح الذين شاهدوها في مصر. ومن بين هؤلاء السواح تاجر فرنسي أعجب ب”شفيقة” وأحبها، وأراد أن يتزوجها فرفضت، وعاد يقترح عليها أن يأخذها إلى باريس لتعرض فنها هناك، فاستهوتها المغامرة، وسافرت حيث رقصت فسحرت باريس التي كانت يقام فيها يومئذ معرض دولي كبير، استأثرت الراقصة المصرية بمعظم رواده.
وعادت شفيقة إلى مصر لتستأنف استقبال المجد والثراء، وكانت عاصمة الأناقة “باريس” قد صقلت ذوقها، فازدادت أناقتها، وأصبحت الملابس التي تلبسها، والحلي التي تتجمل بها هى “موضة” العصر عند سيدات الطبقة العليا. وأحست “شفيقة” أنها ملكة الرقص فأرادت أن تستكمل أبهة الملك فاقتنت ثلاث عربات “حنطور” فاخرة، واقتنت عشرات من الخيل الأصيلة، فكانت إذا خرجت صباحاً ركبت عربة “كومبيل” وإذا خرجت ظهراً ركبت “تينو” وإذا خرجت ليلاً في الصيف ركبت “الفيتون” المكشوف. وكل عربة من هذه العربات يجرها أربعة من الخيول المطهمة، ويحيط بها اثنان من (القشمجية) ويتقدمها اثنان من السياس يصيحان: (وسع.. وسع).
وحدث أن كانت تتنزه مرة بموكبها هذا في الجزيرة، وكان الأمير “حسين كامل” يتنزه في نفس المنطقة، فلما رأى الموكب ظنه لأحد الأمراء، ولما عرف الحقيقة غضب وذهب إلى الخديوي وأخبره بأن هناك سيدة مصرية تنافس الأمراء، بل تنافس الخديوي نفسه في الأبهة والعظمة! وسرعان ما أصدر الخديوي “ديكريتو” يمنع أصحاب العربات من استخدام السياس والقشمجية، وقصر استخدامهم على الخديوي والأمراء. ومن مظاهر الأبهة التي كانت تعيش فيها أميرة الرقص “شفيقة” أنها كانت تستخدم طائفة من الخدم الايطاليين، وكانت لا تفصل لهم ملابسهم إلا عند أشهر خياطين في مصر وهما “كلاكوت” و”ديفز براين” اللذين كان الوزراء يفصلون ملابسهم عندهما. وكانت إذا انتقلت من بلد إلى بلد استأجرت صالوناً خاصاً في القطار تركبه مع حاشيتها وخدمها.
وفي حياة “شفيقة القبطية” جوانب إنسانية رفيعة، فقد كانت كريمة إلى حد الجنون أحيانا.. رأت مرة مشاجرة بين رجلين، فسألت عن سببها فقيل لها أن أحد الرجلين استأجر من الآخر دكاناً وعجز عن دفع إيجاره عدة أشهر فقامت بينهما هذه المعركة، فتقدمت “شفيقة” ودفعت متأخر الإيجار كله ومنحت مستأجر الدكان منحة سخية. وسمعت مرة أن تاجر أقمشة كبيراً ممن كانت تتعامل معهم، موشك على إعلان إفلاسه، فأسرعت إليه لتمده بمال يحول دون إفلاسه. وإلى جانب هذا كانت لا تحجم عن إحياء أفراح بعض الفقراء دون أن تتقاضى أجراً، بل وكثيراً ما كانت تمنح العروسين مساعدة مالية تعينهما على قضاء شهر عسل سعيد.
وعلى الرغم من بذخ “شفيقة” في الإنفاق، وإسرافها وكرمها فقد استطاعت أن تجمع ثروة ضخمة، فكانت تملك عدة دور في حي باب البحر، وأخرى في حي شبرا، وحارة السقايين وعدة قصور كانت تعيش فيها. واستطاعت أن تحقق كل أمنية لها في الحياة إلا واحدة لم تتحقق… كانت تتمنى أن تكون أما ولكنها لم تنل هذه الأمنية فتبنت طفلاً سمته “زكي” وأغدقت عليه الحنان، فنشأ مدللاً، وكان يرهقها بالمطالب فلا تبخل عليه، وأفسده التدليل فتعاطى الخمر والمخدرات، وأرادت أن تفرح به فزوجته زواجاً مبكراً، وأقامت له الأفراح ستة أيام، واشترك في إحياء فرحه عدد كبير من المطربات والمغنين. ولكن الشاب أمعن فى إدمانه، فمات بعد قليل من زواجه، وحزنت عليه شفيقة حزناً هز كيانها.
غدر العمر..
وتقدمت ب”شفيقة” السن، فبدأ طابور المعجبين يتناقص، وبدأت الثروة تتبدد بعد أن بطل السحر وولى الشباب، ولم يبق ل”شفيقة” من كل ذلك المجد غير ذكراه، ولم يبق لها من ثروتها غير بيت واحد في شبرا أرادت أن تعيش فيه فأجرت بعض غرفه.. ولكنها أحبت شاباً حملها على بيعه، فباعته وافتتحت محلاً لبيع الخمور في شبرا، ولكنها اضطرت لبيعه إرضاء لفتى جديد لم يلبث أن هجرها.. فاضطرت للرقص بعد أن شاخت في “بوظة” باب الخلق في مقابل ما يسد الرمق.. وأشاحت الوجوه عن “شفيقة” لتتجه إلى ثلاث حسان جديدات ظهرن في عالم الرقص هن “معتوقة” و”زهرة العربية” و”نفوسة غرام”، ومع أن هؤلاء لم يبلغن ما بلغته “شفيقة” من القدرة إلا أن جمالهن كان كفيلاً بتفوقهن عليها، فراحت تتسول في الطرقات وتطلب العون من قدامى العشاق.
وفاتها..
توفيت “شفيقة القبطية” عام 1926 بعد أن بلغت الخامسة والسبعين.