خاص : بقلم – طارق يوسف :
“شجر الدُّر” في التاريخ الرسمي (1)
في عام 647 هـ / 1249 م، نزل فرسان وعساكر الحملة الصليبية السابعة من المراكب على بر دمياط ونصبوا خيمة الملك لويس التاسع. وانسحبت العربات التي كان وضعها السلطان الصالح نجم الدين أيوب في دمياط للدفاع عنها، فاحتلها الصليبيون بسهولة وهي خالية من سكانها الذين تركوها عندما رأوا هروب العربات. فحزن الملك الصالح، وأعدم عددًا من راكبي العربات بسبب جُّبنهم وخروجهم عن أوامره. ورغم مرض السلطان انتقل من القاهرة إلى مكان آمن في المنصورة. (السلوك للمقريزي)
وفي ليلة النصف من شعبان، توفي الملك الصالح نجم الدين أيوب في لحظة حرجة جدًا من تاريخ البلاد، بعد أن حكم مصر 10 سنوات.
“شجر الدُّر” تُصَرّف شؤون البلاد والعباد
كما هو معروف أخفت شجر الدُّر خبر موت السلطان، حتى لا تتأثر معنويات المصريين، وأعلنت أن السلطان مريض ولا يستطيع مقابلة أحد. وتعمدت إدخال الطعام للغرفة التي كان من المفترض أن يكون نائمًا بها حتى لا يشك أحد. وظلت المعارك سجالاً بين الفرنجة من جانب والمصريين من جانبٍ آخر، حتى انتهت بهزيمة الحملة الصليبية، وأسر الملك لويس التاسع بدار ابن لقمان بالمنصورة.
ويجب أن نُشير هنا أن المماليك البحرية هم من لعبوا الدور الأكبر في هزيمة الفرنجة وأسر لويس التاسع، وليس المماليك الأيوبيين.
أرسلت شجر الدُّر رسولاً إلى توران شاه، (ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب)؛ الذي كان موجودًا بحصن كيفا بالشام، تستدعيه ليحكم مصر بدل أبيه المتوفى. في حين ظلت شجر الدُّر تُصدر الأوامر السلطانية على أوراق يُقال إن الصالح أيوب كان أعطى لشجرة الدُّر هذه الأوراق الممهورة بخاتمه على بياض حتى تستخدمها لو مات.
وبعد هزيمة الفرنجة تنكر السلطان الجديد توران شاه لشجر الدُّر، وأخذ يتهددها، كما بدأ في التخلص من المماليك البحرية، أصحاب الفضل الأول في تحقيق النصر، فقرروا التخلص منه، وقتلوه على يد أقتاي.
بعد مقتل توران شاه، كان تاريخ مصر والمنطقة التي حولها يتشكل من جديد عن طريق شجر الدُّر، وبداية ظهور دولة المماليك البحرية في مصر.
الملكة “عصمة الدين أم خليل شجر الدُّر”
“كانت شجر الدر تركية الجنس، وقيل بل أرمينية، اشتراها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان لا يُفارقها سفرًا ولا حضرًا. وولدت منه ابنًا اسمه خليل، مات وهو صغير. وهذه المرأة، شجر الدُّر، هي أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك.”… هذا ما ذكره المقريزي عن “شجر الدُّر”، في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك).
“….. لما قُتل الملك المعظم توران شاه، ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، كما تقدم ذكره، اجتمع الأمراء المماليك البحرية، وأعيان الدولة وأهل المشورة، بالدهليز السلطاني، واتفقوا على إقامة شجر الدُّر، أم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب، في مملكة مصر، وأن يكون مقدم العسكر الأمير عزالدين أيبك.”
“…. ولم تكن شجر الدُّر أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك فحسب، بل إنها كانت أول امرأة تجلس على عرش مصر منذ الملكة كليوباترا، وآخر امرأة حكمت مصر منذ ذلك الحين، ولم تجلس على عرش مصر إلى وقتنا هذا أية امرأة أخرى.” (حسب المقريزي)
لما صار أيبك مُقدّم العسكر، مع الملكة شجر الدُّر، ووصل الخبر بذلك إلى بغداد، فبعث الخليفة المستعصم بالله من بغداد كتابًا إلى مصر، وهو ينكر على الأمراء ويقول لهم: “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نُسّير إليكم رجلاً.” (المقريزي)
ولم تجد شجر الدُّر إزاء ذلك بدًا من التنازل عن العرش للأمير عزالدين أيبك مُقّدم العسكر، الذي تزوجته، وتلقب باسم الملك المعز. وبذلك تكون شجر الدُّر قد حكمت البلاد ملكة على عرش مصر مدة ثمانين يومًا.
الوحشة بين “أيبك” و”شجر الدر”
ونذكر نقلاً عن السلوك للمقريزي، انه في سنة 655 هـ / 1257 م، بعد أن استبدت شجر الدُّر بأمور المملكة، فأصبحت لا تُطلع أيبك عليها، وألزمته بطلاق زوجته الأولى “أم علي”، ولم تُطلعه على ذخائر الملك الصالح، عزم الملك المعز أيبك على قتل شجر الدُّر، فلما علمت بذلك، أعدت له خمس غلمان ليقتلوه..
وفي يوم الثلاثاء 14 ربيع الأول، ركب الملك المعز أيبك، وصعد إلى قلعة الجبل آخر النهار، ودخل إلى الحمام ليلاً، فأغلق عليه الغلمان الباب، فلما أدرك أنهم قاتلوه، استغاث المعز بشجر الدُّر فقالت اتركوه، فأغلظوا لها في القول وقالوا لها: ومتى تركناه لا يبقي علينا ولا عليك، ثم قتلوه..
فلما علم مماليك المعز بفعلتها، أمسكوا بها ونقلوها إلى البرج الأحمر بالقلعة وحبسوها..
“أم علي” تنتقم
لما تسلطن “علي” ابن المعز، فأصبح سلطانًا على المحروسة، أتى مماليك المعز بشجر الدُّر إلى “أم علي” (أرملة المعز) في يوم الجمعة 27 ربيع الأول.. اصطحبت “أم علي” عددًا من جواريها، ودخلت على شجر الدُّر في حمامها، وأمرت الجواري بضرب شجر الدُّر بـ”القباقيب” الخشبية، إلى أن ماتت في يوم السبت.. فحملوها وألقوا بها من سور القلعة، فبقيت في الخلاء أيامًا، “وأخذ بعض أراذل العامة تكة سروالها.” (حسب المقريزي)
وسارعت “أم علي” بإعداد كميات كبيرة من حلوى صنعتها من الرقاق واللبن والسكر، وقامت بتوزيعها على العامة ومساتير الناس..
وهذه الحلوى التي يتناولها المصريون حتى الآن والمسماة بـ”أم على” هي ما يذكره التاريخ من أعمال وإنجازات لأرملة الملك المعز أيبك…. “أم علي”..
“شجرة الدُّرة” الدر في الخيال الشعبي (2)
قبل أن نبدأ..
نُشير إلى أن الشخصية التي نتناول سيرتها هنا، اسمها في كتب التاريخ: “شجر الدُّر”.. أما الخيال الشعبي فأضاف التاء المربوطة (ة) بعد الراء فأصبح اسمها في القصص الشعبي “شجرة الدُّر”..
فـ”شجرة الدُّر” هو الاسم الدارج المتداول على ألسنتنا كلما ذكرنا هذه الشخصية التى احتفى بها العامة في الحكاية الشعبية.
ونُشير أيضًا، إلى أن مرجعنا في هذا الجزء (شجرة الدُّر في الخيال الشعبي)، سيكون الدراسة المهمة للصديق الدكتور “قاسم عبده قاسم”، لروحه السلام والسكينة: (دراسة في القراءة الشعبية للتاريخ)
السيدة فاطمة شجرة الدُّر
تأتي سيرة شجرة الدُّر كجزء من السيرة الشعبية الشهيرة للظاهر بيبرس، تلك السيرة التي حولته من حاكم إلى بطل تتلى بطولاته في المقاهي، وتتحاكى به الأجيال لبضعة قرون.
أما أصل تسميتها في السيرة الشعبية بـ”شجرة الدُّر”، فراجع إلى أن الخيال الشعبي جعلها بنت خليفة يُدعى: “شعبان المقتدربالله”، وأنها سميت بشجرة الدُّر لأن أبوها الخليفة أهداها ثوبًا مرصعًا بالكامل بحجر الدُّر، فلما أرتدته صارت تُشبه شجرة من الدُّر..
هذه هي الرواية الشعبية التي أضفت عليها أيضًا صفات حميدة ترفعها إلى درجة القديسات، فتصفها بالصلاح والتدين والذكاء، وأضاف الخيال الشعبي إلى اسمها اسم بنت النبي (صلعم) “فاطمة”، فأصبح اسمها في السيرة: “السيدة فاطمة شجرة الدُّر”…
أوجه الاختلاف بين السيرة الشعبية والتاريخ الرسمي
نُلاحظ أن السيرة جعلت شجرة الدُّر بنتًا للخليفة، وأعطتها اسم بنت النبي: “فاطمة”، ومع التقدم في متابعة الحكي نجد السيرة تتخلص رويدًا رويدًا من اسم شجرة الدُّر وتستخدم بدلاً منه اسم: “السيدة فاطمة”، ومن المعلوم أن هذا الاسم له أهمية خاصة وقدر من التبجيل والاحترام لدى المصريين لأنه اسم ابنة النبي عليه الصلاة والسلام.. وهكذا تأبى الرؤية الشعبية أن تُلصق صفة العبودية والرق لهذه السيدة، التي لعبت دورًا مهمًا في إنقاذ البلاد، وترتقي بها إلى نسب الخلفاء.” (قاسم عبده قاسم).
وهذا وجه الاختلاف الأول بين التاريخ الرسمي والسيرة الشعبية.
ومن خلال حكاية فرعية، تُخبرنا السيرة أن الخليفة العباسي وهب أرض مصر لابنته شجرة الدُّر، ثم نسى ذلك، فمنح أرض مصر أيضًا علاوة على الشام لصلاح الدين الأيوبي ! ثم تختلق السيرة موقفًا يتقابل فيه الصالح نجم الدين أيوب ـ الذي تقول السيرة إن اسمه: “الصالح نجم الدين أيوب ولي الله المجذوب” !! وحتى يضمن عرشه، يتقدم الصالح نجم الدين أيوب ولي الله المجذوب ويطلب الزواج من شجرة الدُّر التي ترفض في البداية، لكن كرامات الصالح أيوب (ولي الله المجذوب) تجعلها توافق على الزواج منه…
شخصية اسطورية
وهنا يتوقف “د. قاسم” أمام مفارقة مُثيرة للانتباه، فصلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة الأيوبية في مصر، تولى حكم البلاد سنة 1174 م، أما الصالح نجم الدين أيوب ـ الذي تزوج شجرة الدُّر للحفاظ على عرشه، كما تقول السيرة الشعبية ـ فقد كان سابع سلاطين بني أيوب، ومات أثناء الحملة الصليبية السابعة سنة 1249 م…،
إذاً، نجد أن السيرة الشعبية جعلت السيدة فاطمة شجرة الدُّر “تعيش عدة أجيال منذ زمن صلاح الدين الأيوبي حتى تتزوج من الصالح نجم الدين أيوب.”
وتقول السيرة إن شجرة الدُّر عندما نزلت أرض مصر، أرسلت إلى الصالح نجم الدين أيوب ولي الله المجذوب تأمره بأن يترك أرض مصر لأنها أرضها وحجتها معها..
ويُلاحظ “د. قاسم”؛ أن: “… المبدع (الوجدان الشعبي) لا ينسى دور الصالح نجم الدين في الدفاع عن مصر ضد قوات لويس التاسع، رغم المرض، فيضعه في صورة شعبية محببة.” (ولي الله المجدوب وله كرامات)..
فكما كان حظ شجرة الدُّر من كرم الخيال الشعبي كبيرًا، فقد جعلتها السيرة ابنة الخليفة والحاكمة الشرعية. على الرغم من أن الراوي لم يذكر أنها جلست على العرش، وهو ما يُخالف الحقيقة التاريخية. وقد حل الخيال الشعبي مشكلة جلوس المرأة على كرسي الحكم بأن جعلها تتزوج الصالح نجم الدين أيوب. ولأن العقلية الشعبية لا تقبل حكم المرأة فقد جعلتها تتنازل عن حقها في الحكم لزوجها الصالح نجم الدين أيوب، وليس المعز أيبك كما حدث في الحقيقة.
وكانت أهم الاختلافات بين السيرة والحقائق التاريخية، أن السيرة تجاهلت تمامًا دور عزالدين أيبك الذي تنكر لشجر الدُّر بعد أن أجلسته على عرش البلاد، فكان عقاب الخيال الشعبي لايبك هو إنكار وجوده تمامًا، وهو شكل من أشكال الانتقام الذي أنزله به الخيال الشعبي لمجرد تفكيره في قتل شجر الدُّر !!
لقد نفت السيرة صفة العبودية عن شجرة الدُّر، ونسبتها إلى أحد الخلفاء العباسيين، كما جعلت سلوكها مثاليًا، وجعلتها تعيش عدة أجيال منذ زمن صلاح الدين الأيوبي حتى تتزوج الصالح نجم الدين أيوب.
ونظن أن لجوء الخيال الشعبي لجعل شجرة الدُّر تعيش عدة أجيال كان من منطلق محاولة إسباغ طابع أسطوري على شخصيتها، فقد أحب الناس شجر الدُّر، فسعى الوجدان الشعبي إلى إسقاط العيوب عن الشخصية التاريخية، لصالح الشخصية الشعبية.