20 نوفمبر، 2024 4:44 ص
Search
Close this search box.

شاكر حسن آل سعيد.. تمسك بالتراث وانحاز للصوفية

شاكر حسن آل سعيد.. تمسك بالتراث وانحاز للصوفية

 

خاص : إعداد- سماح عادل

“شاكر حسن آل سعيد” رسام وفنان تشكيلي اشتهر في فترة عقد السبعينيات من القرن العشرين في العراق، ولد في مدينة السماوة عام 1925، وسكن ناحية قلعة سكر في محافظة ذي قار خلال فترة طفولته وشبابه، ثم انتقل إلى العاصمة بغداد، وسكن فيها وكانت دراسته في مدرسة الإعدادية المركزية، ولهُ الكثير من الأعمال واللوحات الفنية، ولقد تأثر في أواخر حياته بالنزعة والحركة الصوفية وأثرت في رسوماته.

كان بداية عملهُ في مديرية المساحة في بغداد عام 1946، ولقد حاز على شهادة البكالوريوس في علوم الاجتماع عام 1948 من دار المعلمين العالية، وساهم وشارك في تأسيس “جماعة بغداد للفن” الحديث مع “جواد سليم” و”محمد الحسني” في عام 1951، وتخرج من معهد الفنون الجميلة في عام 1954، وكان لهُ المعرض الشخصي الأول في قاعة المعهد ببغداد، وسافر بعدها إلى فرنسا للفترة من عام 1955 وحتى عام 1959 وكان طالبا في معاهد فرنسا ثم أمتهن بعد تخرجه التدريس فيها، وفي عام 1962 أقام معرضاً مشتركاً مع الفنان “محمد غني حكمت” في مدينة بعقوبة.

أمتهن تدريس الرسم في السعودية عامي 1968 و1969، وظهرت عندهُ فكرة البعد الواحد، وبعدها في عام 1970 أسس تجمع أو (جماعة البعد الواحد) مع مجموعة من الفنانين ومنهم الفنان “جميل حمودي”، وصاغ مفهوم الفنان يستلهم الحرف، وكتب بيانه التأملي ومن ثم نشر سلسلة من المقالات عام 1977حول مفهوم البعد الواحد والمجال الروحي في الفن، مبتعداً عن أسلوبهِ الخمسيني التشخيصي في الرسم ومنحازاً كلية إلى التجريد والتجريد المطلق.

كتاباته..

كانت كتاباته، تفسر نزعاته الداخلية وبمثابرته بالعثور على علاقات أوضح ما بين الأشكال المرئية ومحركاتها، وأقام معارض شخصية في بغداد والكويت وبيروت وعمان وتونس والبحرين، وله عضوية رابطة نقاد الفن العالمية (اليكا)، وكان يعمل مستشاراً ثقافياً في مؤسسة عبد الحميد شومان في عمان وأقام معرضا فيها في عقد التسعينيات، وفي عام 1994 أسس ندوة الخطاب الجمالي في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وله بعض من المنجزات الفنية والثقافية في العديد من الدول.

أحد الرواد..

في مقال بعنوان (شاكر حسن ال سعيد.. أحد رواد الحركة التشكيلية والمنظر لها) يقول “حسين الهلالي”: “هو ليس سياسياً ولا مفكراً سياسياً ولكن فنان مرهف الحس عاش في وسط الشعب وأصبح واحداً منه يتأثر لأي حالة عاطفية، أو حالة اضطهاد أو خوف أو خنق لحرية الآخرين، هو حس السياسي المرهف وقلقه قلق الجياع والطبقات المسحوقة التي ينتسب إليها، ويبقى ذلك الريفي عاش التراث ومحباً للحرية بلا حدود، مرة التقيته في بغداد في بداية التسعينات وقي ذروة تألقه كفنان ومفكر ومنظر تشكيلي كبير.. إن ذاكرة شاكر حسن ال سعيد التي حفظت الشيء الكثير من الموروث والتراث وتعاملت معه بصدق وحساسية مرهفة لهي جديرة بصاحبها أن يكون أحد رواد الحركة التشكيلية العربية ومفكريها القلائل. لقد تمسك بالتراث وأصر على أن يكون متجدداً ومتفرداً في خضم التيارات العالمية والحركات الفكرية التي تظهر بين الحين والآخر، إنه يستبق الزمن، ويطرح نفسه كمفكر يحمل عملية تزاوجية بين التصوف وهموم الفن التشكيلي بأحدث ما وصلت إليه المدارس والأساليب المتعددة ويصر أن يكون طليعياً في ذلك، لذا وصف بأنه مفكراً عربياً سد كل الثغرات في الكتابة عن الفن التشكيلي”.

ويواصل: “لقد كانت حياته اعتيادية وكأي شخص موهوب يريد أن يسلك طريق الفن لصقل موهبته، في دار المعلمين العليا أثناء دراسته سنة 1947 بتعلم الرسم بالزيت على يد زميله فريد يوسف نانو، وفي سنة 1949 ينتسب إلى معهد الفنون الجميلة القسم المسائي رغم المصاعب التي يلقاها من جراء السفر بين بغداد وبعقوبة، التي عين فيها مدرساً للرسم في مدارسها وكان يعود في الليل في القطار قاطعاً مسافة 45كيلو متر في هذا الجو الملبد بالغيوم. ونحو الوعي الاجتماعي وتفجر الطاقات لشعب ينشد الحرية والاستقلال التام من نير الاستعمار الانكليزي يتحدث شاكر حسن ال سعيد فيقول: “كانت بغداد أشبه ببركان قابل للانفجار كانت (الوثبة) ضد الاستعمار الانكليزي في 1948 قد تحدث وعيناً اجتماعي وشددت مطالبتنا بالحرية والحياة الجديدة، إلى التزامنا الاجتماعي والإنساني تملكتنا رغبات وقناعات بضرورة التغيير، بضرورة الحداثة . هكذا جمعتني تلك السنوات ببدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وجبر إبراهيم جبر وبلند الحيدري كنا نلتقي مساء في (مقهى ياسين) بين السادسة والثامنة مساءً مع الموسيقي فريد الله وردي والشاعر الراحل حسين مردان والصحفي الراحل عبد الحميد الونداوي ونهاد التكرلي”.. كانت أيام البحث والتقصي والعمل المتواصل للوقوف على مديات الحضارة السومرية والبابلية والإسلامية لبلاد ما بين النهرين . لقد ذهب جواد سليم لاستلهام الحضارة السومرية وبعدها تحول إلى الحضارة الإسلامية. وقد رسم أجمل لوحاته في عام 1953،  1955 التي تمخضت عن اكتشافه لدور كل من المربع والدائرة ومجزءاتهما في العمل الفني. أما شاكر حسن يتوقف قليلاً في تلك السنوات أمام الفنين السومري والبابلي في لوحة (شخصيات) و(الفلاحون والقمر) ويطيل الوقوف أمام الروح الشعبية كما تتمثل خاصة في  (ألف ليلة وليلة) كانت محاولات الأسلوبية تجمع بين المؤثرات الحديثة في الفن الأوربي من تكعيبية ووحشية وتعبيرية، والمؤثرات الحضارية العراقية والعربية، ثم ما لبثت رسوماته في نهاية الخمسينات تنحاز بصورة حازمة إلى النزعة التجريدية ،لكي ما تتمثل خصوصاً في التجريدية اللاشكلية في عام 1956 عالم التحولات وعالم الصعود وعالم المعرفة وعالم التصوف”.

تطوره الفني..

ويضيف عن تطوره الفني: “هذا الفتى الريفي الذي يحمل كل خصائص أهل الجنوب وكل معتقداتهم كان عليه أن يسلك طريقاً واحداً من اثنين، الأول الولوج في داخل الحضارة الأوربية والغوص فيها ومعرفة خفاياها وبالتالي إدراكها وتبينها كما فعل البعض والثاني هو العودة إلى تراث بلاده والالتزام به والسير باتجاه التطور ضمن هذه الحداثة، هذا إذا كان الموضوع ثقافياً وتشكيلياً ولكن لا هذا ولا ذاك، لقد كان الموضوع سلوكياً لا ثقافياً ولا تشكيلياً لذلك كان واضحاً عندما اختار الطمأنينة والسلام والهدوء في التدين، وذهب بعيداً عن الفكر الوجودي السائد في فرنسا آنذاك ويقول في تلك الفترة: “في باريس اتضح لي أن الفكر الوجودي، وقد كان الفكر السائد فيها بعد الحرب العالمية الثانية عاجز عن تبرير نفسه،  لم أستطع تحمل مسؤولية اختيار مواقف الإنسانية، وهو ما تقول به الوجودية حيث وجدت أن قوى خارجية هي خارجة عن إرادتي تتحكم في مصيري بشكل مذهل وغير منطقي”، لم يؤثر هذا التصوف ومعاناته الروحية على فنه، فقد قدم لنا فناً سلك فيه منحاً آخر وهو اختزال الأشكال إلى دلالات محدودة المقاصد (أنه الفن الصوفي) كما يسميه الفنان نفسه، وقد أكد على الحرف في لوحاته، لقد نظّر إلى ذلك في جماعة البعد الواحد وانسجم هذا التوجه مع جماعة بغداد للفن الحديث، وكانت دراسته في باريس عن الحرف كأداة للزخرفة وبعد عودته من باريس إلى بغداد أصبح الحرف كأداة تعبيرية لديه ويقول في البيان التأملي وهذا جزء من فقراته :”على أن جمالية التأمل تعتمد على أساسين الأساس الأول هو أن العمل الفني التأملي وصف للعالم وإيضاح للعلاقة ما بين الذات، أي الفنان، والموضوع أي العمل الفني وهو وصف لا يتم دون أن يتخذ له معنى (معراج)، أي حركة صعود من الذاتي نحو المحلي، ومن المحلي نحو العالمي، فالكوني كما يتخذ له معنىً  تحول عكسي أو سقوط  من الإنساني نحو الحيواني فالنباتي فالجرثومي. وما بين كل من المعراج والسقوط، ما بين حركة صعود وحركة هبوط سيتم الوصف غير المنحاز للعالم الخارجي عبر العالم الباطني، سيتمكن الفنان من كشف ذلك من خلال مقاماته- الحالية  أو معراجه، الذاتي الكوني، الروحي وضمن معراجه الحجري وذلك بعد مسيرته (المادية- الإنسانية). أما الأساس الثاني فهو أن العمل الفني التأملي إبداع شخصي وأفكار يحول دون مليء السطح التصويري بالعلاقات، إنه يعترف مقدماً بكمال أية لوحة فنية دون إنجاز وعلى ذلك فالتدخل في خصوصياتها بواسطة الفعل سيظهر بصورة ديمومية وبدلالة المنهج المقارن عودة الفنان، وتعرفه على اللا – شخصية يتم ضمن مسار أفقي يبدأ من ذات الفنان نحو الآخرين من كونه شخصاً معيناً إلى كونه عضواً في مجتمع”. شاكر حسن ال سعيد ملك أدواته ووصل إلى درجة اليقين في منجزه واستخدم حريته دون ضغوط من الآخرين، قدم لنا هذا المنجز التأملي والخطاب التشكيلي الذي يتجسد فيه الإدراك الكامل لتحولات المرحلة في هذا القرن وإعطاء الصورة الواضحة لجميع التيارات الفنية والجماعات الفنية التي قدمت عطائها ضمن مرحلة القرن الواحد والعشرين، وأصدر كتاباً خاصاً بذلك (البيانات الفنية في العراق) التي تنتمي إليها هذه الجماعات”.

الصوفية..

وفي مقالة ثانية بعنوان (شاكر حسن آل سعيد.. تشكيلياً على الطريقة الصوفية) يقول “رباح آل جعفر”: ” شاكر حسن آل سعيد اختار الفن منذ بداياته الأولى، وضحّى بقيم كثيرة من أجله، وتجوّل في عديد من بلدان العالم (ألمانيا، إنكلترا، بلجيكا، الهند، فنزويلا)، وعاش في فرنسا وحدها أربع سنين، ثم عاد ليحطّ رحاله في بلاد الرافدين، كما يحط عصفور على سنبلة قمح، ومارس التعليم بحكم اختصاصه المهني، وأتقنه يشهد له تلاميذه، وتمرّس بالكتابة، نقداً وتأليفاً، وتجوّل بين القوارير، وزجاجات الألوان، والفراشي، ليصنع للناس زهرة جميلة، وشمساً، وعافية. وبرغم أسفاره إلى الأماكن البعيدة، ورؤيته للجانب الآخر من الجبل، والبحر، والنهر، وانفتاحاته على العالم، واحتكاكه بحضارات الشعوب وآدابهم وفنونهم، فإن نوعاً من الحنين ظلّ يشدّه إلى (مقهى ياسين) في شارع أبي نواس ببغداد، قبل أن يدركها عصر الزوال، وتبنى عمارة في مكانها، ويحكم عليها بالهدم.. وكان شاكر آل سعيد مثل أي بغدادي عريق، يقضي في هذه المقهى بعض الأمسيات الممتعة، بشيء من اللهو البريء والترويح، ويعتقد أنها بحق كانت العينّة الأساسية لمعنى الهوية عنده، ويشعر معها بصداقة عميقة مع الأيام.. فهذه المقهى هي حجيرة دماغية في جسم بغداد العظيم، تأخذ كلما التصق بها شكل الرحم !. سألته يوماً عن أجمل صفحات ماضيه، فأيقظ آل سعيد ذاكرته، وأعادها إلى سنة 1934، يوم كان يسكن الكرخ من بغداد في سوق حمادة، وبتلقائية قال لي: كنّا ونحن أطفال، نمتطي الخيول في العيد، ونذهب من سوق حمادة إلى منطقة قريبة من منطقة الشيخ معروف، فيها أنواع من الألعاب، وكان الناس يقفون على شكل حلقات، ليدبكوا الجوبي، وفي حلقات أخرى كنا نرى الحواة، وهم يخرجون الأفاعي من جيوبهم !.”.

ويواصل: “اقتربت منه في السنوات الأخيرة من حياته، فوجدته مقبلاً على ربّه، الناسك، والزاهد، والطوباوي، ينتمي إلى مجتمع المتصوّفة، والدراويش، الذين يعشقون ويموتون عشقاً، وكان يخال لمن يراه، كأنه شيخ طريقة، أو مريداً في تكية، وإن لم ينقر مثلهما على الدفوف برؤوس الأصابع، وقد حجّ بيت الله الحرام منذ سنة 1968، يتواجد ويأخذه الشوق والمدد والحال مثل أي درويش، ويدخل في خلوة عميقة، على طريقة كبار الزهّاد.. وكان كثير القراءة في التصوّف والإشراق، وشاكر حسن آل سعيد الفنان التشكيلي الكبير، النابت كالنخلة في الصحراء، يتعامل مع لوحاته، كما يتعامل مع فراشة ضوئية، إنها لوحات رائعات الرسوم، مزيجة من صفاء الطلّ، ومن بهاء النور، رسمها في ساعة من ساعات التجلّي وأحسن رسمها، وكان يحني رأسه أمام الجلال والجمال، الذي يجده في الأرض وفي السماء، ولقد استطاع آل سعيد تقديم النموذج الأم في الفن، ويكفي أنه مؤسس (تجمع البعد الرابع)، ومن مؤسسي مدرسة جواد سليم 1951، التي رسّخت قيمة التراث العراقي والعربي، كناية عن (مرحلة الانعتاق) في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وهو فنان تجريبي اختباري، استهوته الفلسفة والإثنولوجيا، وصقلت موهبته في التنظير الفني، وقدرته على طروحات، اعترض على بعضها عدد من الأدباء، إنه يختصر الفنان الحقيقي بوصفه، جامع الأسلحة الذي يموت دائماً، بانفجار أسلحته بين يديه!.”.

وفاته..

توفى “شاكر حسن” في بغداد، عام 2004.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة