عرض/ عمران عبد الله
يكاد العيش في سوريا أن يكون مواجهة يومية مع التناقضات في كل نواحي الحياة تقريباً، ففي ظل حالة قمعية لا يقوم الفنانون بإبداع الأعمال التي تنتقد النظام فحسب بل ينجحون في العديد من النواحي الإنسانية الأخرى ويبدعون فنوناً جميلة مختلفة.
وفي جو يسمّمه الشك والرقابة الذاتية والخوف، يعبر الناس علنًا عن آرائهم السياسية، ويسخرون من نظام يقتلهم، ويستمرون في العيش في حياة مشوبة ليس فقط بالخوف ولكن أيضًا بالمتعة والجمال رغم السلطة التي لا تؤمن بإنسانية شعبها لكنها تمول السينما والثقافة التي تخدم أهدافها السياسية.
وتستكشف ميريام كوك الكاتبة والباحثة المتخصصة بالأدب العربي هذه التناقضات السورية وغيرها بكتابها الطموح لدراسة الإنتاج الإبداعي في سوريا “المعارضة” من 1989 إلى 1996، وتأمل “في إخراج الثقافة السورية من قوقعتها، ونشرها في العالم لمحاربة المفهوم السائد الذي يقول إن الشعب لا يختلف عن حكومته وحاكمه”.
وصدرت مؤخراً الترجمة العربية للكتاب ضمن سلسلة “ترجمان” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (توقيع حازم نهار في 264 صفحة) موثقًا ومفهرسًا، وتضم مقابلات أجرتها كوك بين خريف 1995 وربيع 1996 مع فنانين وأدباء معارضين، راسمة مشهدًا فنيًا سوريًا هيمن عليه مثقفون منهم محمد الماغوط ومحمد ملص ونادية الغزي وكوليت خوري وإلفة الإدلبي وغادة السمان وممدوح عدوان وسعد الله ونوس وغيرهم.
النسخة الإنجليزية من “سوريا الأخرى.. صناعة الفن المعارض”
الفنون والاستبداد
ويحاول الكتاب تناول مفارقة وجود الفنون وازدهارها وخاصة الأدب والدراما والسينما، في ظل نظام استبدادي قمعي ودموي، ويقدم قراءة دقيقة لأشكال سيطرة الدولة والمقاومة التي يقوم بها الفنانون السوريون المعاصرون، ويستكشف العمل لمحات جديدة عن عالم غير معروف فعليًا بالغرب وهو الكتاب الشجعان (وغير الشجعان) والسينمائيين والمصورين والرسامين والنحاتين والمدرسين والأكاديميين وغيرهم من المثقفين المبدعين الذين لا يناضلون فقط لجعل أصواتهم مسموعة ولكن لإحداث التغيير.
ويوجز تاريخ الرقابة في سوريا وجهود نظام حافظ الأسد لإضفاء الشرعية على حكمه من خلال أشكال مختلفة من الرقابة فضلاً عن رعاية الدولة لفنون وفنانين بعينهم، كما يتناول قضايا الفن والحرية، وهدف الفن ووظيفته، والفن والثورة.
وفي خضم التحولات الثقافية والفنية بسوريا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تقول المؤلفة إن سقوط جدار برلين عام 1989 كان نقطة تحول لسوريا. وترى التخفف النسبي للرقابة السياسية بهذه الحقبة كوسيلة لتعزيز السيطرة على الخطاب العام وتحديد حدود المعارضة، وهذا هو السياق الذي تشرح فيه ازدهار “النقد الموجه” وهو تكليف الدولة للأعمال الفنية التي تنقد الحكومة (وليس الرئيس أو عائلته) كطريقة لإظهار الالتزام بالافتتاح الثقافي والحوار والديمقراطية وحقوق الإنسان. ويوضح الكتاب كيف تصبح هذه المصطلحات مجرد شعارات تقبع وراءها اليد الغليظة للدولة.
وفي المقدمة، تسرد كوك سيرة مختصرة لتاريخ سوريا الأسد، وتقول إن الكتاب يعرض قصص أولئك المعارضين المبدعين الذين قاتلوا من أجل الحرية وحاربوا النفاق، وتأمل أن يساهم المؤلف في إخراج الثقافة السورية من قوقعتها، ونشرها في العالم.
الفن المعارض
يقدم الفصل الأول تحليلاً لتناقضات الإنتاج الثقافي والتي ترى الثقافة “حاجة عليا للإنسانية” ومصدراً لعدم الاستقرار السياسي الذي يتطلب ضوابط صارمة بالوقت نفسه. وكما هو حال أوروبا الشرقية (حيث درس العديد من الفنانين السوريين وكذلك السياسيين) فإن الإنتاج الثقافي السوري يدور حول إدارة المعنى وتأكيد السيطرة على العالم الرمزي. لكن السيطرة لا يمكن أبداً أن تكون كاملة، والمثقفون السوريون يبرعون في تقمص خطاب الدولة وفي الوقت نفسه يكشفون عن فراغاته.
الكتاب يوجز تاريخ الرقابة وجهود نظام الأسد لإضفاء الشرعية على حكمه
ويقدم الفصلان الثاني والثالث صوراً لأبرز الكاتبات، ويحلل الموضوعات الرئيسية بعملهن، ويصف لقاءات الطهي معهن.
وسياق الفصلين محاضرة للمؤلفة حول أدب النساء بالمعهد الفرنسي في دمشق بعنوان “الثقافة حاجة عليا للإنسانية”.
ويستكشف الرابع غموض سلطة الدولة وتناقضات “النقد الموجّه” بمجموعة متنوعة من وسائل الإعلام: الرسم والنحت والأدب والدراما والسينما.
وتعرض هذه الإستراتيجية بكونها تقدم صمام أمان لهروب الدولة من الإحباطات الشعبية بالإضافة إلى “واجهة ديمقراطية” للنظام: فالحكومة تسمح بأشكال معينة من النقد تساعد في تنفيس “البخار الشعبي” ضد نظام قمعي لكن دون تشجيع التمرد.
ويتناول الفصل ذاته ظاهرة الانتقاد بالتكليف أو الانتقاد المرخص به، خاصة في أوقات الأزمات والاختناقات السياسية والاقتصادية عندما يرى الرئيس أن من الأفضل وجود مستوى آمن يمكن السيطرة عليه من الاستياء الشعبي.
ويركز الخامس على الأعمال الدرامية التي قام بها ممدوح عدوان وسعد الله ونوس. وقدم كلا الفنانين انتقادات للمجتمع والثقافة السوريين في حين استفادوا إلى حد ما من رعاية الدولة أو دعمها. وربما كان انتقاد ونوس هو الأكثر فعالية، حيث قدم في النهاية الرؤية الأكثر تفاؤلا للتغيير ويرى أن المشكلة المركزية التي تواجه المجتمع المدني هي عدم وجود فضاءات للحوار.
وكان ونوس يأمل أن تساعد الدراما في تشكيل مثل هذا الفضاء، في حين كان عدوان يتصور أن الفنون تلعب دورًا في مقاومة التطبيع مع الظلم، وإن لم تكن بالضرورة تؤدي إلى تغيير ثوري. واعتقد كلا الفنانين أن المسرح يمكن الجماهير من “التفكير في ما لا يمكن تصوره” من خلال ربطهم مع “مجتمع من المعارضة”.
ولعل أكثر الفصول إثارة للاهتمام هو السادس والذي يليه إذ يقدم لمحة عامة عن السينما السورية، وإلقاء نظرة ممتدة على أعمال العديد من صانعي الأفلام. وتركز كوك على دور الحلم والذاكرة في بناء اللغة الرمزية المميزة للسينما السورية.
وتتعرض كوك لفيلمين جذبا الجمهور بمهرجان عام 1995، وهما فيلم “الكومبارس” لنبيل المالح والفائز بجائزة عام 1993، و”الليل” لمحمد ملص، معتبرة أن الأفلام السورية ليست محلية فقط فرغم الحظر والرقابة الذين مارستهما الحكومة فإن السوريين أحبوا أفلامهم الوطنية كثيراً وأعجبوا بحبكاتها ولغتها وحكاياتها.
ويبحث السابع الموضوع الذي درس بشكل كبير في العالم العربي وهو أدب السجون. وبالنظر إلى المحظورات المرتبطة بمجرد ذكر السجون في سوريا، يقدم هذا الفصل لمحة رائعة عن رعب الدولة والمدى الذي يذهب إليه النقد وينقل قصص احتجاز فردية بالإضافة إلى التأثيرات الإنسانية العامة الناتجة عن سلوك النظام. وبمعنى آخر فكل الأدب السوري أدب سجون بطريقة ما.
وتنقل كوك تجارب اعتقال مؤلمة منها تجربة المخرج غسان جباعي الذي أمضى عشر سنوات في السجن، وتنقل كذلك عن إبراهيم صموئيل قصص سجنه أربعة أعوام بقيت آثارها كندوب في روحه وألم يبقى إلى الأبد.
وفي الفصل الثامن “الرحيل من دمشق” تروي كوك يومها الأخير بالعاصمة دمشق وشعورها بمزيج من اللهفة والخوف والحزن والإحباط، وتحكي قصصاً مؤلمة من لقائها بمبدعين قضوا أوقاتاً صعبة في السجون.
المصدر/ الجزيرة نت