رياض عبد الكريم … سنوات التحدي والاصرار
لا يستريح الى قلوب الاشياء .. يستريح
الى قلوب الناس
جاسم المطير
الصور و الكلمات الموجودة على صفحاتِ كتابٍ عنوانه ( سنوات التحدي الاصرار) وقفتُ في اثناء قراءته حيراناً ، مبلسأً أين أنا..؟
كنت اعرف هذا الشاب منذ أواخر ستينات القرن الماضي. عرفته شابا طموحاً يستمد طموحه من نفسه و من العصر، الذي يعيش فيه.. هذا سر من اسرار نجاحه جعله بمثابة نابليون بونابرت الفنون الطباعية.. لكن لم يحقق طموحاته بالسيف، انما بالقلم و الفرشاة ، معاً.. ما جعل جميع ابطاله المتعاونين معه يحتلون عالم الطباعة و يسيطرون على قلوب جميع معارفهم .
يا له من كتابٍ جميلٍ..
في أي يدٍ كانت عناقيد هذه الخميلة
الطباعية
– الثقافية الخضراء ..!
نظرتُ في داخل ، تلك الخميلة ، عميقاً، فوجدتُ الكروم العالية، اللذيذة، الجميلة، منتشرةً بكلِ صفحةٍ من صفحاتٍ امتلأ بها الكتاب. أنها من افعال رياض عبد الكريم نفسه .. اللعبة التصميمية هي ، حسب معرفتي، من ألعاب وفنون رياض نفسه .. أو ربما من شراكة افعال صاحبه و صديق عمره هيثم فتح الله، المقيم مع مطبعته في عمان. –
كلا .. أنه كتاب بالكامل، تأليفاً و تصميماً، من صنع الرجل المعروف انه يتحرك، دوماً، مع حركات عين العصر وهو الملم بكل شيء، صحفيٍّ متجددٍ و انه نوع من انواع الصحفيين المتفرد بالعلوم الصحفية و النابغين فيها و مثلما تأثر بمعطيات الحياة الجامعية، فأنه تأثر، أيضاً، و بإتقانٍ تامٍ في جميعِ تجاربهِ العملية في المؤسسات الصحفية، التي عمل فيها، فأنه قد اتخذ العدّة المتقنة في اخراج كتابه موفراً جهوده و قواه، لكي يجعل (ولادة الكتاب) على نارٍ هادئةٍ، ابصره مؤلفه بالنتيجة انه كرمة اصيلة، لكنه اراد ان يجعل منه (روابي كروم) يبصرها كل ناظرٍليها..
صار غلاف الكتاب ينادي: انا هنا يا ايها القراء.. كونوا هنا.. يا له من غلافٍ جميلٍ..
تلك عناقيدُ بجميع صفحاته تحت تصرفكم ..ارفعوا الاربطة عن عيون القراء كي يلاحظ كل واحد منهم انه يرى شيئاً جديداً. ها هو الكتاب الواحد تنهض كل صفحة من صفحاته بايقاظ القاريء،
كل قاريء و انا اولهم وجدت ضربة من الضربات غير العنيفة قد وقعت على خدي او على عيني لا ادري .
لكنها ضربة توجهت الى كل اعضاء عقلي، الى المخ و المخيخ و إلى العقلانية و العاطفية و التراكيب الدماغية المختلفة و الفصوص الدماغية العلوية و السفليه.. كلها تحركت لمعالجة اصول النهضة الكلية لهذا الكتاب و تأثيرها الايجابي على جذوع ادمغة القراء المطالعين لهذا الكتاب، الذي يصر بكل صفحة من صفحاته.. أنه كما يقول الجنوبيون – البصراويون، أنه (لا توجد وراء عبادان قرية) حين يميّزون تمييزاً دقيقاً، شيئاً ، بأيديهم.
هذا الشيء كان هذه المرة كتاب اسمه (سنوات التحدي و الاصرار) لمؤلفه رياض عبد الكريم حيث جميع القراء يشمون رائحة المثال العباداني ليقولوا انه لايوجد كتاب بعد هذا الكتاب، من حيث المادة العجائبية الصريحة ، و من حيث التصميم العجائبي ، غير المعهود.
اول شيء يتحدث عنه فنان الصحافة العراقية رياض عبد الكريم هو قصته مع الشيوعيين في فصل كامل من الكتاب حيث سمع عن والده و هو كان ،بنظره، الاقرب إليه و الأكثر تأثيراً عليه. كانت اقاصيصه الاكثر انباتا في عشيبات دماغه الاخضر ، دماغه الاخضر ، المبدع من خلاصة اقوال الأب عن اصحابه و اصدقائه الشيوعيين على تجارب الابن بكافة المحن الصحافية و ما يرتبط بها من نتاجات و افعال ،خصوصاً ان الابن رياض عبد الكريم كان يترجى الاستمتاع بما يشبه العيد حين يكتشف ان صديقاً شيوعياً قد جعله (مرفوع الرأس) في قضية من قضايا الصحافة ، سواء بالكتابة الصحفية او بالتصميم الصحفي و هو جوهر عمله. اول شيء تعلمه من اصدقائه الصحفيين العاملين معه في نهاية ستينات القرن العشرين او اوائل سبعينياته.. تعلم من الشيوعيين ان يجتذب روح الشعب لعمله الصحفي ،كله . كما تعلم ان يعمل كما يعمل كل صحفي نجيب ، من اجل الشعب. تعلم منهم الاخلاص و المودة و النزاهة و التسامح.
هكذا كان يقضي يومه و ليله مرحباً بقرائه، متمنياً لهم طالعاً سعيداً في نهاية المطاف و بدايته. من امثال الفنان في التصاميم الصحفية و الكتابة الروائية (عارف علوان) الذي نجح لاول مرة في استخدام الكومبيوتر في التصميم الصحافي كما عذب نفسه في ان يتحرر من الهموم و المشاكل الصحافية ، من خلال الانغمار بالعمل و الاستفادة من كل لفتة او همسة باعتبارهما فضيلة من فضائل زميلته فاطمة المحسن او زميله زهير الدجيلي او من خلال ما يتمنى ان يتعلمه من زميله زهير الجزائري و غيرهم ممن يصعب علي صحفي جديد متعلم ،توّاً، ان يستغني عن هالة القديس الصحفي التي امتهنها رياض عبد الكريم لنفسه و ما غابت عنه في اي يوم من الايام عدالة جميع زملائه العاملين معه. من خلال هذه العدالة احبه اصحابه العاملين معهم. أولاً في مجلة الاذاعة و التلفزيون و ثانيا في مجلة النفط و التنمية. كانت حمى صعود اسعار النفط او هبوطها يحدده صعود انتاج النفط ، مع حمى العمل النفطي بعد تأميمه في الاول من حزيران 1972 حيث كان مصمم المجلة رياض عبد الكريم و جميع العاملين فيها بدءا من رئيس تحريرها الدكتور الروائي عبد الرحمن منيف صاحب رواية (مدن الملح) بأجزائها الخمسة و صاحب ارض السواد بأجزائها الثلاثة، اضافة الى اعتماد الحكومة العراقية و كثير من الحكومات العربية على حمى تسري بشرورها في ريح الدولة العراقية و غيرها من الدول العربية، بالعنف و الشر، اللذين كان رياض عبد الكريم و جميع اصدقائه يستنكرونها لأنها جعلت الشعب العراقي الماشية يعيش في ظل نتائج الحرب العراقية – قطيعاً من الايرانية، الداخلة بمعمعتها، حرب عراقية على الكرد في كردستان ومن ثم احتلال دولة الكويت. كل هذه ، و غيرها من أفعال الدولة ، لم تؤثر ،سلباً، على ابداعات المصمم العامل على اصدار الكتب من دار الشؤون الثقافية، التابعة لوزارة الثقافة و الاعلام ،الخدوش ، التي خدشته قليلاً او كثيراً، لكنه اشتهر ،عراقياً و عربيا. انه يتدافع رغم الزمجرية في عمل رياض عبد الكريم و لي تجربة تزيد على اربعة عقود من الزمان في مراقبة عمله و الاطلاع على اهم منجزاته، حيث تسيطر عليها، عموماً شخصيته الانسانية،
المتشوقة كثيراً الى أن تكون موضع حب و تقدير من جانب القرّاء، مع توفر التواضع التام.. يشعر كلما نجح في أي تصميم من تصاميم الكتب، التي اشتهر بصياغتها في اثناء عمله بمجلة النفط و التنمية و بدار الشؤون الثقافية او في أثناء زياراته الاستطلاعية الى دار الاديب و مطبعتها .
اشتغل رياض عبد الكريم مع اشخاصٍ يتصفون بصفات العباسيين المتساهلين مع المعترضين، او من نوع الاخشيديين المتصلبين بنوع من الطغيان. يتسيد عليه شعور بكفاءة التجربة الشخصية، التي آل بها نحو الصعود، دائماً، إلى أعلى، حتى وصل الى حدٍ هادىء، غير مضطرب ، في اثناء التزامه بأعمال التصميم ، حيث كان يلتزم بها بكلِ وقارٍ و اتزانٍ في وقتٍ قياسيٍّ سريع، و ما اكثر ما كان يقضي وقت نهاره كله و يحن الى استكماله خلال الليل بالطريقة الدقيقة المتعبة.
ما من حديثٍ جرى او يجري عن ابرز التصاميم الصحفية العراقية و كذلك تصاميم اغلفة الكتب الا و ينتهي الحديث ان المصمم الاول هو رياض عبد الكريم. ان تكوينه يتناول التجديد بالمرور واجتياز هذا الطريق بالنقد و النقد الذاتي، متمسكاً بخيوطٍ تاريخيةِ التصميم و تطوراته، حتى صار جميع الباحثين يؤكدون ان علاقة رياض عبد الكريم بتصاميم (الاغلفة) و (المجلات) يضاف الى ذلك قدرته الكتابية في بعض التحليلات على طرح او تقديم حاجات (المجتمع المدني).. أن علاقته بحروف الكتابة ، مثل علاقة الكاتب النرويجي هنريك ابسن في تأليف المسرحيات و في تناول مراحل التاريخ المسرحي.
ملخص القول ان فنون التصاميم في ميدان المجلة و الكتاب فأن رياض عبد الكريم يعتبرها أمرأ فلسفياً او بأقل الاحتمالات يعتبرها مثل شاعرٍ يكتبُ قصيدةً شعريةً، موزونةً، يضع فيها مخيلته لكسب رؤية الجمال ليخدم الفكرة العقلية في اي عمل فني يضع يديه فيه فأنه يتمّه برضاه و رضا القراء، بشكلٍ رفيع.
من هنا فأن كتاباً بقلم المصمم، ليس بقلم الكاتب ، يتفرغ لتأليفه. لابد ان يكون قطعةً من الكتلة الجديدة، المستحدثة بتفاصيلَ عقليةٍ إنسانيةٍ، تستهدف المزيد من المعرفة و الكمال.
هذه هي ابرز صفة في كتابٍ عنوانه (سنوات التحدي و …) حين يقبل رياض عبد الكريم على الاستهلال في مداخل الكثير من الاهتمام ، بمزيدٍ من الموضوعات الخصوصية ، مثل تكريس الفصل الثاني من الكتاب في البحث التفصيلي عن تجربة رياض عبد الكريم مع الراحل عبد الرحمن منيف رئيس تحرير مجلة النفط و التنمية، حيث وجد ان دراساته النظرية – الاكاديمية وعمله التجريبي ،معاً، قد دغدغ عواطفه و احلامه بالتحوّل من التصميمي ــ – عمله الصحفي الاول بمجلة الاذاعة و التلفزيون و الانفتاح على تجارب الكثير من الصحفيين التجريبيين العراقيين بدءأ من زهير الدجيلي رئيس تحريرها و عزيز السيد جاسم، الذي اشتغل فترة طويلة رئيسا لتحرير مجلة وعي العمال ،لمعالجة القضايا الصحفية الصعبة في مجالاتها الفنية و الاجتماعية و الروحية .. كان في التجربتين يحس انه يعمل مع سقراط و يتعلم منه . اصبح بيده مفتاحاً لكل مشكلةٍ من مشاكل الادارة الصحفية بالرغم من غرابة ان يكتب هذا الصحفي اللامع القدير، جبراً، وهو في المعتقل، كتاباً مذلاً، عن الرئيس الدكتاتور صدام حسين ، مقابل قرار رئاسي بإطلاق سراحه. كان الامر هو اقصر الطرق لنيل الحرية . كان وجود رياض عبد الكريم في هذا الطريق بداية الطريق – ان صح التعبير – هو استخدام عبقرية المفردة الصحفية ، التي بنى عليها اغلفة مجلة آفاق عر،بية كخطوةٍ اولى نالت موافقة (المدير العام لمؤسسة دار الثقافة الدكتور محسن الموسوي) الملتفت الى وحدة ارائه مع اراء المصمم رياض عبد الكريم . من هنا ، من الوحدة بين القيادتين الفكرية و التصميمية برزت بشكل واضح من خلال المضمون العام لنتاجات دار الشؤون الثقافية على قاعدة يقوم عليها الكيان الفكري ، لانتاج هذه المؤسسة الكبرى من المؤسسات التي استطاع مديرها الفني انقاذها من طابع الرتابة و التكرار بعد ان هيمن فن جديد قادر على تحويل شخصيات القصص و لروايات في منظور القراء من اشباح ذهنية الى اشكال يخلع عليها المصمم شيئاً من الالم، الذي يملأ وجدان الصورة المرسومة من قبل المؤلف الى انسان يزلزل المجتمع . كانت (حرية العمل) تنهض لدى الجميع و كانت الواقعية تجاور في (مجلة افاق عربية) و جميع مرافق مؤسساتها ، التي دفعته اعماله فيها خلال سنوات عديدة ان يتهيأ لمرحلة جديدة ، مرحلة التقاعد و العمل كمؤسسة شخصية في ميدان الاعلام بالقطاع الخاص ، حين وجد ان اهتمامه الاول بناحية (نطرية الفن) التي تغاير معها ،كلياً، ليختم بها عمله الفني ،كله، بعد ان صار شقيقه الاصغر محمد وريثه المؤهل لاكمال رسالته الانتاجية – الثقافي – الفني حيث اوجد كتابه المشروح من قبله بما احتواه من عذابات الحصار الاقتصادي، في تسعينات القرن العشرين و ما بعده من الانتقال الى عمان و من ثم الاستقرار المتكامل الابعاد في مدينة اسطنبول التركية . كان كتاب سنوات التحدي و الاصرار نموذجاً عن التجريد.
تحية الى رياض عبد الكريم ، الشخصية النضالية الداعي، دوماً، الى التغيير للخروج من كل قديم الى الموائمة مع كل جديد كشرطٍ من شروط ابداعاته ومواقفه من روح العصر الجديد.
“””””””””””””””””””””””