16 نوفمبر، 2024 4:58 م
Search
Close this search box.

“سليم بركات” .. أتقن بلاغة اللغة العربية وتفنن في كتابتها شعراً وسرداً

“سليم بركات” .. أتقن بلاغة اللغة العربية وتفنن في كتابتها شعراً وسرداً

خاص : كتبت – سماح عادل :

“سليم بركات”، روائي وشاعر وأديب كردي سوري.. ولد عام 1951 في ريف القامشلي، سوريا، انتقل عام 1970 إلى “دمشق” لدراسة الأدب العربي، وبعد عام انتقل إلى بيروت وعاش فيها حتى 1982، ثم انتقل إلى قبرص وعمل في قبرص بمجلة (الكرمل) مع الشاعر الفلسطيني الأشهر “محمود درويش”، عام 1999 انتقل إلى السويد.

الشعر والسرد..

في حوار مع “سليم بركات”، أجراه “ناصر مؤنس”، يقول عن كتابته للشعر وللسرد: “لي عينان تريان المشهد ذاته. الكثافات سرد، والظلال شعر في إختزال إشاراته. لا كثافة بلا ظل. لا ظل بلا كثافة. الكلمات، بقيامة واحدة، تحشر الموصوفات أمام ميزانها بلا تفصيل: ما يصلح للشعر في كفة منها يصلح للسرد أيضاً. أنا لا أصنف اللغة، في عرف إنشائي، طبقات ومراتب فأذل بعضها، وأكرم بعضها الآخر. هي نبؤة الخيال النهائية، وهدى ضلالها الطاهر. هدى نفسها في الإسراف خروجاً على أسر المعنى وقانونه. وفي هذا المتاح العميم من شساعتها أذهب إليها بجسد واحد، كثافة واحدة لها قوام ظلها: فيها لا أعرف حدوداً بين الشعري في مسالك وبين المسرد النثري تدويناً، حكياً. فأنا على نحو ما، أحرر الرواية من طابع الحكاية لتنقل إشارة، وفتنة إشارة، لتكون معرفة في مراتب الأحوال بسيطها ومركبها؛ لتأخذ بجواذبها ما تقدر على نهبه. وأمكن الشعر من ترتيب إيحاءاته، لا بانتخاب المختزل من نواظم الرؤى، وانكشاف البرازخ الأكثر خفاء في تجاوزات الألفاظ كعلائق خلخلة، بل بدفعه إلى امتحان أقصى بإيراده مورد النثر السارد ليفتنه، ويدفئه، ويصوغه بكمال الضلال في ذاته شعراً. هكذا يعود النثري إلى الشعري الذي هو خاصيته كسحر مذ كان الأزل ساحراً، والوجود ساحراً، والكائنات ساحرة بجلال نشوتها”.

موت النقد الأدبي..

عن تدهور حال الشعر يقول “سليم بركات”: “حين اجتهد الخيال الشعري في خمسينيات هذا القرن، وستينياته، للخروج من نمطية الإنشاء المتشابه للقصيدة العربية، اتخذ سنداً لدعواه أنه سيرفد الشعر بعلوم أكثر جسامة من أن تقدر النواظم الرتيبة على اكتناهها؛ على القصيدة أن تكون ثقافة الجهات؛ وعيها؛ انعتاقها من ثورية الخصائص المستنسخة. عاش هذا الخيال الشعري، الحسن النية، عقداً ونصف عقد لا غير. من الستينات إلى أوائل السبعينات، ثم انحدرت القصيدة “الغضة الإهاب” إلى فوضى، ثم صارت الفوضى ذاتها نمطاً، لها خصائصها التي يمكن ترتيبها، وتوبيبها كما كانت تبوب “أغراض” الشعر المنظوم: الركاكة. البناء على فراغ. الجهل باللغة كلياً. استحسان القطيعة مع قواعد التدوين. الترفع العميم للجهالة عن تراث الماضي، من غير تحصيل لتراث الحاضر. التجرؤ على الخفة. ولهذه السخرية من جلال الشعر أسباب، في أساسها “موت النقد الأدبي”، بعد موجة هبوب أموال النفط العربي، قبل أواسط السبعينات بقليل، فتكاثرت الصحف، والمجلات الدعائية للأنظمة. وفي هذه الكثرة من الأوراق المطبوعة بحبر مدفوع الثمن بسخاء، بات تقليد وجود صفحات ثقافية أمراً على صخب في شيوعه. وجرى توظيف عاملين فيها بلا اختصاص، بل من باب إسناد الوظيفة إلى “نشيط” في جمع ما يقدر به على ملء صفحاته المتسعة عرضاً وطولاً. قتل التقويم، قتل الانتخاب المصاحب بوعي نقدي. قتل الاختيار بالتفصيل. أميون في القراءة تداعوا إلى تزوير الذائقة بانطباعات تصلح في لغة التعميم الكسولة على كل نص. كان ثمة مجلات قليلة جداً، قبل هذا الباء، بمهمة “ترشيد” الذائقة بقدر معقول من الصرامة في اختيار النصوص. وكان يقوم على الصحف القليلة أدباء مختصون في مذاهبهم، ما كان يجرؤ المبتدؤن في علوم النصوص أن يحملوها إليهم بالثقة التي يفعلونها الآن، تبعثر النقاد العارفون بآلات لغتهم. انحسروا وذابوا في الحشد المتقدم إلى الحلبة، ساذجين ينقدون الشعر بلا معرفة في العروض، وينقدون اللغة بلا فهم في الإعراب، وأما الفقه فهو لفظ من علم مقفل”

ويواصل : “في كل عصر، قطعاً، يتكرر المشهد ذاته، بصورة أو بأخرى، فيكون الجيد الحقيقي نادراً، والنمطي المتوارث سائداً. غير أن الجهل في تصنيف النصوص، راهناً، فاق كل جهالة. إذ بات النشر في المنابر متاحاً بتساهل القائمين عليها في إفراط ما بعده إفراط، وباتت علاقات الشاعر الركيك الشخصية على سعة تؤهل لكتابه المهلهل مقالات لا تحصى في إفراط عافية نصه. فوضى يصححها، من وقت إلى آخر، قارئ حقيقي، مجهول، لا يشتغل في تدوين مدائح معلنة في الصحائف، يبارك روحك بعناء قراءته الخالقة لنصك المتعطش إليه”.

الرواية تجريب..

عن كتابة الرواية يقول ” سليم بركات”: “لم يكن اشتغالي، وأنا في الثانية والثلاثين، على الرواية، قياما بنزهة “تجريب”. وأنا، مذ ذاك، أنجز عملا واحدا كل سنتين، بدأت كدأب الساعة، بلا انقطاع؛ بلا استراحة؛ لقد استدرج أحدنا الآخر (أنا والرواية) إلى حيلته.أعني أنني، في اليوم الأول لجلوسي إلى ورقة بيضاء كي أكتب الرواية، قررت خوضها بجسارة اليائس من واقع الرواية، بجسارة الأمل في تدوين ذاتي على مقام سطر مختلف في علوم الكتابة، بلا حذر من أن أستنهض كل شيء، وأستنفر كل آلة. لك أكتب الرواية لأستميل قارئا إلى “مقدرة” إضافية بعد سخاء الشعر المؤلم. كنت أحادث نفسي كالتالي/ “في ختام كل رواية أنجزها سأقول لي/ هالقد قرأت رواية”. أكتب كي أنتهي منها فأعرف أنني قرأت. رواياتي صعبة: أعرف ذلك. فسيفساء مدروسة: أعرف ذلك. متقاطعة الوقائع كلعبة بلا ميثاق: أعرف ذلك. يحضر الشعر فيها مستأنسا بمقعده كاستئناس النثر. مصائر إشكالية: تلك هي جسارتي. لا أبدأ رواية بلا إشكال. الحياة إشكال. الأمل إشكال كاليأس. الحضور والغياب إشكالان. أمتحن الواقعة لتمتحن الواقعة دربتي في الوصول إلى مخرج. أحيانا يقع كلانا في المتاهة. ليكن. لو رغبت في سهل من السرد، وحيوات مبذولة في الشارع، كنت فتحت على نفسي، في الواقع الضحل للرواية العربية المحطمة الخيال والإشكال، سخاء من المديح والترجمة، تحديدا. أنا صعب، قدري صعب، وكتابتي اشتغال قدري علي واشتغالي على قدري”.

إشكالية الكردي..

عن تصويره للكردي في إحدى رواياته يقول “سليم بركات”: ” إنني لا أبدأ رواية من غير إشكال. وبيكاس هو “إشكال قدري” بامتياز. كل الذين من حوله يجاهدون في تقديم برهان على حقيقته. حضوره مأزق للمنطق. غامض يصير أليفا غامضا. لامعقول يصير معقولا بتبريرات ينسجها المحيطون به ليقتنعوا، سأشرح الأمر قليلا، وأعود إلى بيكاس: لكل وجود مأزقه وإشكاله. الوجود الكردي يشكل إسهاما مضاعفا في هذا الإشكال، قلت لمعلم اللغة العربية إنني كردي فحملق في هلعا، ودمدم: “ماذا تفعل هنا؟ اذهب إلى تركيا”. عليك أن تتعلم كتمان أنك أنت. البعض يلد ويكبر، ويهرم، في المكان ذاته محتجب الجنسية. عليك أن تحمل معك ورقة “إخراج قيد” مكتوب على قفاها “منذ متى أنت عربي؟” للتأكد من نقاء عرقك. لا تستطيع التصريح بحبك لبلدك، مثلا، من غير أن تكون عربيا. اسمك غير العربي، إذا تجرأت على تسمية نفسك بألفا عرقك، سيصمك بالإذلال. صبي اسمه “برزان” طرد من الصف الثالث الابتدائي. بيكاس تيلو، شاب يعيش متزوجا في قبرص. تدبر أوراقا مزورة، في مطلع شبابه، واستقل حلمه إلى موسكو. درس وتخرج. ثم ماذا؟ تدبرت له زوجته القبرصية دخولا مشروعا، بلا أوراق ثبوتية، إلى بلدها. يعيش هنا على نداء القلق: كل صاحب عمل يطلب منه جواز سفر. ليس عنده جواز سفر. سوري بلا جنسية. في ورقة إخراج القيد الوحيدة التي يملكها أنه من فئة “غير المسجل” كلمات غامضة. بشرح للقبارصة أن جنسيته “مطعون في أمرها” فلا يفهمون. حاول تدبير ورقة ما من سفارة سورية لزيارة أهله فصعقوا: ” كيف خرجت من سورية؟”. ليس له حق خروج. إذا، ليس له حق دخول. تجتمع أعراق متنافرة في بلد واحد، مثل الولايات الأمريكية، فتجني لنفسها خصائص انتماء إلى الموقع قانونا. أعراق جاءت من بلاد أخرى قبل قرون قليلة لتؤسس لنفسها خصيصة الجماعة الواحدة، المختلفة الهويات، “المحترمة” كيانا (مع الصفح عن إبادة الهنود). مجرمون، محكومون، سجناء أفظاظ، غير مرغوب فيهم، منفيون، يلقى بهم على شواطئ استراليا، فيعترف لهم الزمن، حالا بعد حال، “بإنجاب” تأريخ متجانس النعمة تحت سقف الدولة. الكردي؟؟؟ تاريخ، وأحقاب، ومواريث في المكان الواحد، لا تشفع له إلا “بوجود إشكالي” هكذا ولد بيكاس في “فقهاء الظلام”: القدر يحمل إلى عائلة حيرة الكون وذهوله. طفل يلد ويكبر ويستولد ويختفي في يوم واحد محسوب بساعات الإنسان. في كل مرحلة من نموه إشكال على أهله أن يستسلموا له، وأن يؤكدوه كجزء من قدر عادي.. بالطبع، ليس صوابا اختزال بيكاس على هذا النحو. فهو رديف العبث في المعرفة أيضا، والحقيقي الذي ينقلب لا معقولا، وصورة أعماق علاقتها بالخرافة ترسم سلوكا في الواقع. وهذه الأمور الثلاث تدفع صوغ المعنى في بيكاس أبعد سياقه الكردي الذي أوردته فيه.إنه المعرفة الشيقة، المعذبة والمعذبة في آن واحد”.

مقايضة المعنى..

في حوار آخر مع “سليم بركات” أجرى الحوار”أحمد فرحات” يقول عن قصائده الطويلة : “يُغوِيني أن أكتبَ القصيدَةَ حتى نفاد غرَضِها، أن أُبادلَ في زمنها المتَّسِع تاريخاً للكلمات بتاريخٍ للكلمات، أن أقايض المعاني بالمعاني، أن أقابل مرايا الخسران فيها بمرايا الفوز، أن أمتحنَ الضرورات والنوافل معاً، أن آخذها معي إلى حافّة كل شيء، أن أُرقّقها وأثخّنها، أن أمتحنَ نفْسي بها من شاهقِ إنشائها قصيدةً، وأمتحنها بي من ضراوة حنيني إلى لا معقول الشعر، وإلى لا موصوفة، أن أبلُغَ بها اللاعودةَ. لا بحث في قصيدتي عن منفذٍ للنجاةِ، أو حلّ لمعضلة. هي، أبداً، ذلك الوقوف في الشفق الذي يَعْرَق في تأمُّله الكونُ من ثقلِ غامضة”.

 

وعن الحداثة وما بعدها  يقول “سليم بركات “: “لا أعرفُ الحداثةَ. لم أَفهمْها. هذا الكونُ المجتمِعُ صغيراً في أزرارِ آلاتِ الإشرافِ على سياقِ العالمِ مرئيّاًّ، مكتوباً، مسموعاً على قدْرٍ هائلٍ بِلا أسرارٍ، بِلا ترقُّبٍ للاحتمالات، بِلا إثارة إلّا ذلك التبادل من مقايضاتِ الإهانةِ. لنْ أرجعَ إلى بعضِ التحليلِ للمصطلحاتِ اتَّفق قذفُها إلى خيالِنا عن الحداثةِ من غير أن تعني شيئاً. لذا أبالغُ، بحسنِ ظنّ، في عدم فهمي لها، لأنّها، حين أنظرُ إلى أمكنتِنا، ومجتمعاتِها، لا أرى إلاَّ الحقدَ على كلّ شيءٍ لا يكونُ صوْغَ ماضيه، منجزاً، منتهياً، نفاية من نفاياتِ الحياةِ موزَّعةً على تلالِ المستقبلِ القُمامة. يقينُ المعتقداتِ الأديان، والمعتقدات الإنذار بالعصبيّة للعرقِ، والمذهبِ، والمعتقداتِ من كراهيةِ الجهاتِ للجهاتِ، والمهاجرِ للمهاجرِ، والمقيمِ للمهاجرِ، والمهاجرِ للمقيمِ، وطعنُ الثقافات للثقافات. الوحشية تتقدَّم بثقة، لأنّ كلّ ما عداها، بُنيَ على نظريٍّ ركيكٍ اصطُلحَ على تسميتِه «إنجازاتٍ قومية»، وفخراً بالمآثر”.

رثاء سوريا..

عن قصيدتِه الملحميّةِ الطويلةِ “سوريا”، والتي رثي فيها بلده يقول : “انتظرتُ كانتظارِ كلّ سوريّ، طويلاً، ليسَ في امتدادِ الزّمن فحسب، بل في فداحةِ هاويتِه المُختزِلةِ قروناً من المفارقاتِ في حدائق الجحيم. انتظرتُ زمناً من اهتراءِ اللحوم على أجسادِنا، واهتراءِ الأنقاضِ على الجثث. لم تأتِ نهايةٌ ما بالمعنى الخاصّ بالنهايات، كنتائجَ يُمكنُ تقويمها. لكنّني أقولها بلسانٍ عُريان: سوريا انتهتْ. وأنا كتبتُ قصيدتي بالخواتيم المُختزلةِ في هذا الحُكْمِ القاتل. الكلُّ يعرفُ أنّ سوريا انتهت. لو توقَّفت الحربُ عند الحدود التي هي عليها، فقد انتهتْ سوريا. لو استعادَها الروسيُّ كاملةً من خصومِ الحاكم، سوريا انتهتْ. في أصلِ نشوئها بسنواتٍ قليلةٍ بعد استقلالٍ ركيكٍ، كانتْ دولةَ عائلةٍ؛ مؤسّساتِ عائلةٍ؛ اقتصادَ عائلةٍ؛ ثقافةَ عائلةٍ؛ ثقافةَ ربط الدولةِ بشرايين الحاكم، إنْ انسدَّت شرايينُه، اختنقَتْ الدولةُ. ظننَّا في الثورةِ المغدورةِ، أنَّ الجغرافيا السوريّة قد تُضيّق على هذا القَدْرِ أو ذاك، النهبَ العائليَّ المذهبيَّ. حروبُ المذاهبِ، وحروبُ الخَوَنةِ، وحروبُ الحلفاءِ الكَذَبة، والصادقين، أنهتْ ما كان مجرّدَ احتمالٍ لنشوءِ الدولة، ولو على مقاسٍ ركيكٍ (بلا أوهام)، بنظامٍ من تداولِ السّلطة. اكتمل القمرُ الدمويُّ في سماء الجغرافيا. انتهت – ليس اللّادولة التي كانتْ – بل علاقة الجماعاتِ “المتُهادِنة” منذ الاستقلالِ الركيك، القائم على تحاصُصٍ في “الأسماء الوطنية” جبلٌ باسم طائفة. سهلٌ باسم طائفة. قومياتٌ نزيف. لم نعرفْ إلاّ “الكيان” القائمَ على عَسْفٍ، وجبروتٍ في القهر، بمواثيقَ لا معنى لها: كرديٌّ يُنشِدُ نشيدَ البعث العرقيّ قوميّةً. يهوديٌّ مُجبرٌ على درسٍ إسلاميّ. مسيحيٌّ يقرأ، كطالبٍ، تاريخَ نشأةِ دينٍ “أذلَّ” دينَه بتنحيتِه من هِدايةِ المعتقدِ. نشأ الكيانُ المذهلُ مجموعاً من جغرافيا الكراهيةِ للجغرافيا، ومن كراهيةِ العِرقِ للعِرقِ، ومن كراهيةِ المذهبِ للمذهبِ، ومن كراهيةِ الجهاتِ للجهات. الفسيفساءُ التي كانت مُلتحِمةً بصمغِ الحريقِ تفتَّتت، من أوّل سطلٍ للمياه اندلقت فوقَها، رماداً سائلاً كان وحدَه “تجانس” ما سُمّيتْ دولة سوريا.. اكتمل موضوع قصيدتي. لا رثاءَ فيها إلاّ رثاء الأخلاق. هي ملحميّةٌ بالقَدْرِ الذي أعدتُ الحُكمَ على أزمنةِ وجودِ سوريا دولةً ركيكةً هدَمتْنا بركاكتِها القاتلةِ، السّهلةِ، تُباعَ فيها وتُشرى، لقاءَ كرسيِّ الحاكمِ. هي قصيدةٌ على سِعَةٍ من الزمن – ذلك يعطيها حقَّ الملحميّة، بالتفاصيل، من انتحارِ الشجر حزناً، وانتحار الترابِ”.

إرباك القارئ..

في حوار ثالث مع “سليم بركات” أجراه “عدنان حسين أحمد” يقول عن رواية (الريش) التي يتداخل فيها الواقع بالحلم، حتى يصل إلى ذروة التشويش السردي وهل يتعّمد هذا النوع من الكتابة المتأرجحة التي تترك القارئ معلقاً: “من حقي كروائي، أن (أتعمّد) نصب فخاخ للقارئ. التقنية لعبة قصدية تتبادل فيها المهارات الصغيرة أدوارها على رقعة العقل. لكن تلك القصدية هي ما ينجزه التلقائي من المشافهة حكياً حين يغدو تدويناً. الوصل، والقطْع، والتدوير، والبدء من النهاية، والانتهاء بالبدء، وإعادة توزيع المشهد على نحوٍ ملتوٍ، والإيهام، كلها مراتب نقْضٍ وإبرامٍ هما من عِقْد التأليف وخواصه. هما احتيالٌ يبتدعه الزمن للإيقاع بالزمن. التقنية دورةُ تخريب نبيلة للتاريخ (القدسي) الذي يقدم به عقل النظام الاجتماعي، ولسانه التعليمي،(حقائق) هويته (الطبيعية). في روايتي (أرواح هندسية) تتبلبل الملائكة في سعيها إلى تأكيد (النسق الواقعي) لزمن الإنسان بالبحث عن أربعة أيام مفقودة من حياة طفل. في (الريش) حلمُ (آزاد) هو واقع (مم). وما يفعله (مم) داخل حلم أخيه هو واقع أبيهما. وما يفعله الأب في واقعه هو إشكال التاريخ السحري: كل واحد يخلق الآخر من ضرورة حاجته إلى نصٍّ أكتبه أنا. أعلى القارئ أن يتبلبل في هذا؟ منذ متى كان(القارئ) واقعياً واثقاً حتى التخمة من تلفيق الفكر الكسول للواقعية المغمى عليها من ثرثرة (رُسُل) الواقعية المنكوبة؟ تعالوا إليَّ كي يلفِّق أحدنا الآخرَ على قَدْر (هيامه) بالحقائق”.

جزء من قصيدة “الغزلية الكبرى”

بقلوبٍ

أو

مِنْ

دونها يختلِسْنَ من اللهِ حظوظَ الهوى.

عاشقاتٌ هُنَّ،

بقلوبٍ

أو

مِنْ

دونها.

لا تشروحَ الشروحُ جُنَّت أنْ إلاَّ سْتوفى من أو بقلوبٍ، الهوى حظوظ من المُخْتَلَس هذا، الشأن في

الأرجحيْنِ؛ أرجحِ على يُعتَمَد سَبْكٌ ممكنٌ؛ ذا كل ممكنٌ.دونها. بالمعاني للنزوح الطُّرقِ الأديانِ في تعديلٌ

إلى شفيرِ لزومها. هُنَّ يتدبَّرنَ هذا تدبيرَ السُّحُبِ مجازفاتِها. وأنا؟ مالي؟ بقَلبٍ،

أو

من

دونه أختلِسُ من الله حظَّ العاشق بلا

تدبيرٍ يُعتَمَدُ إتقاناً، كي أرتجلَ الصعودَ مثلهن في قُبلةٍ إلى متاجِرِ الأبد وأسواقهِ.

بقلبٍ،

أو

مِنْ

دونهِ الآثارُ كلُّها تُحْتَوَشُ ـ الآثارُ القلوبُ طريحةً في مَعَاصِرها، والآثارُ الزَّفراتُ من أحمالِ المواعيد.

راهنتُ كما راهَنَّ. لا يخفى ذلكَ مُذِ المعجزاتُ هِيَ هِيَ كالمُراوَداتِ الصخبِ بقلوبٍ في الرهانِ على

مِلْحهنَّ. لكنْ ما الرهانُ إن كُنَّ جَمَعنَ الجيادَ كلَّها في أَرَقِ العاشقاتِ؟ بقلبٍ،

أو

مِنْ

دونه تُسْتدانُ زفرةُ العاشقِ. بقلبٍ،

أو

من

دونه، أحبهنَّ يتفهَّمن أعذارَ الحدائقِ،

ما أثناهنَّ، من قَبْلُ، نقدُ النباتِ مجازفةَ الزُّرقةِ بأحكامِ الأخضرِ،

وأعذارَ نوافيرها.

ولا توضيحَ توسَّلْنَه من انقسامِ الجبل على إرث السهلِ،

ومن مقاضاةِ السُّحبِ للرعدِ على نقْضهِ هدنةَ البرقِ،

ولا تلمَّسْنَ باعثاً على شَكاةِ النهر من حجارة المجرى تدقيقَها في أدبِ الماء.

يتفهَّمن إفراطَ المنخفضات في حيائها،

ورعونةَ المُحتجِب في حجابهِ،

ورصانةَ وصفِ المعقولِ بريئاً يتولاَّه العَدَمُ عن لسانِ التَّابلِ الأول في مأكولِ الإنسان.

أُحبهنَّ أَبْطَلْنَ نازعَ القَسَمِ بالحقائقِ،

لأنهنَّ تفهَّمنَ القُدسيَّ في الأعْذارِ،

والقدسيَّ في بُطلانِ الأعذار.

أُحبهنَّ تركنَ كلَّ شيءٍ على حالهِ في الوجود الصغير.

لم يبدِّلنَ إناءً،

أو خزْنةً،

لم يبدِّلن موضع التُّحفِ في أبهاءِ الوجود الصغير.

أريكةً، أو سريراً.

أبْقَيْنَ على عيوبِ الذهبِ،

وفوضى الملح منتثراً فوق موائد العرَّافين.

وتفاديْنَ أن يوقفنَ شِجارَ المغيبِ على أبوابهنَّ. أحبهنَّ:

والأكياسَ مثقوبةً على ظهور الأرواح.

تركْنَ الأحذيةَ مثقوبةً،

والكمالَ مثقوباً،

كلُّ شيءٍ على حاله،

مُذْ ألْزَمْنَ الشكَّ قناعَ الحَذَر في دخولهنَّ الوجودَ الصغيرَ من ممرِّ الطهاةِ إلى المطابخ.

لا يباليْنَ:

تركنَ جواربَهنَّ مثقوبةً،

وأقدارَهنَّ مثقوبةً،

وطباعَهنَّ مثقوبةً،

وأمانيَّهُنَّ مثقوبةً،

وعزائمَهن مثقوبةً،

ودِلاءَ حظوظهنَّ مثقوبةً.

لا يأبهْنَ:

كلُّ

شيءٍ

على

حالهِ

في

مديحي إلاَّ هُنَّ:

لقد بدَّلْنَ الوجودَ بفائضٍ من ثناءِ الذهول.

قصيدة محمود درويش لسليم بركات

https://www.youtube.com/watch?v=umtumhrlV0M

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة