خاص: إعداد- سماح عادل
“سليمة مراد” مغنية عراقية ولدت في 2 فبراير 1905 في محلة “طاطران” ببغداد، وهي تعد إحدى قمم الغناء العراقي منذ أواسط العقد الثاني من القرن الفائت، حيث احتلت مكانة مرموقة في عالم الغناء العراقي. وهي أول امرأة تأخذ لقب باشا في العراق.
حياتها..
نشأت “سليمة مراد” في بيئة بغدادية وتعرفت على الجوق الموسيقى وعلى الجالغي البغدادي، وعلى مشاهير المطربين والعازفين آنذاك. وقد تعرفت بالشاعر “عبد الكريم العلاف” الذي كتب لها أجمل الأغاني منها (خدري الجاي خدري، وكلبك صخر جلمود، وعلى شواطئ دجلة مر) وغيرها. كما كان يلحن لها “صالح الكويتي”، وفي عام 1935 التقت بالفنانة “أم كلثوم” في مسرح الهلال عندما قدمت إلى بغداد أول مرة، وتأثرت “أم كلثوم” بأغنية (كلبك صخر جلمود) وحفظتها عن طريق الفنانة “سليمة مراد” وسجلتها على اسطوانة نادرة.
وقد استمع لها الكاتب “زكي مبارك” ل”سليمة مراد” في إحدى الحفلات وأطلق عليها لقب (ورقاء العراق). وفي سنة 1936 كانت من أوائل المطربات اللواتي دخلن الإذاعة فقدمت العديد من الحفلات الغنائية، وكان لها منتدى أدبي في بيتها اجتمع فيه كبار الشخصيات من الأدباء والشعراء ورجال السياسة.
كانت “سليمة مراد” يهودية الديانة، إلا أنها لم تغادر العراق أيام حملة تهجير اليهود إلى إسرائيل، عندما عمدت الحكومة الملكية العراقية إلى إسقاط الجنسية العراقية عن كل اليهود لإجبارهم على الرحيل إلى إسرائيل، وبقيت في العراق حيث استمرت في ممارسة الغناء حتى السنوات الأخيرة من عمرها.
لقب باشا..
حصلت “سليمة مراد” على لقب (باشا) من رئيس وزراء العهد الملكي “نوري السعيد” الذي كان معجباً بها. وقد غنت عدة أغاني من ألحان “صالح الكويتي” و”داود الكويتي” و”سليم زبلي” وغيرهم، ومن أشهر أغانيها (أيها الساقي إليك المشتكى) و(قلبك صخر جلمود) و(يا نبعة الريحان) و(الهجر) وغيرها.
ناظم الغزالي..
في 1952 التقت “سليمة مراد” بالمغني “ناظم الغزالي” في بيت إحدى العوائل البغدادية، وخلال الحفلة التي غنيا فيها كانت عيناهما تتبادلان النظر حتى انتهت الحفلة فذهب إلى بيتها، وقصة الحب التي نشأت بينهما مهدت الطريق إلى الزواج سنة 1953 بحضور الفنان الكبير “محمد القبانجي”، وطوال مدة الزواج كانا يتعاونان على حفظ المقامات والأغاني حتى ساعات متأخرة من الليل، وفي سنة 1958 قدما حفلة جماهيرية كبيرة ثم قدما بعد ذلك حفلات للجالية العراقية في باريس ولندن، وقد قالت “سليمة مراد” على قصة زواجهما: “طوال مدة الزواج كنا نتعاون معا بوصفنا فنانين على حفظ بعض المقامات والبستات، وغالبا ما كنا نبقى حتى ساعة متأخرة من الليل نؤدي هذه الأغاني معا ونحفظها سوية”. وعن وفاته قالت: “وفي يوم وفاته كنت قد عدت من بيروت في حوالي الثانية عشر وعشرة دقائق ظهرا. توجهت نحو البيت فشاهدت جموعا متحشدة من الناس في الباب. وعندما اقتربت منهم كي استعلمهم لم يخبرون فيما كانت عيونهم تنبئ بوقوع كارثة. دخلت مجنونة اركض إلا إن – روزة – فاجأتني قبل أن أسالها بحقيقة المأساة، بعدها تهالكت عند مدخل البيت ولم أفق من غيبوبتي إلا بعد أن اكتظ البيت بالزحام”. كانت “سليمة مراد” تكبر “ناظم الغزالي” بسنوات وكانت تشكل بالنسبة له الصديقة والمعلمة والزوجة.
تحولت “سليمة مراد” في آخر أيامها إلى إدارة الملهى الذي فتحته بالاشتراك مع زوجها “ناظم الغزالي”، الذي غنى العديد من أغانيها القديمة، لأنها قد سبقته في الغناء، وعند وفاة “ناظم الغزالي” بصورة مفاجئة اتهمت بأنها هي التي قتلت زوجها الذي كان يصغرها بسنين عديدة، لكن الدلائل أثبتت عكس ذلك وكانت وفاته بداية انتكاسة لها.
قلب ممزق بالوحدة..
في حوار بعنوان (سليمة مراد باشا) نشر في “مجلة الأسبوع العربي” 1964، وأعيد نشره على شبكة الانترنت، يقول “غازي العياش”: “وتمتد اليد التي رسمت تجاعيدها الخمسون عاما لتوقف الصوت الغارق في حزن عميق والمنطلق من آلة التسجيل.. وتروي صاحبته بنفسها قصتها مع القدر والتي أخفتها بين ضلوعها منذ أكثر من ثلاثين عاما: “واللوعات كثيرة في حياتي رافقتني منذ صباي حتى يومي هذا، حصلت على لقب (باشا) وأغدقت عليّ الأموال بلا حساب ونثرت الجواهر وتبعثر الذهب تحت أقدامي وأصبحت مطربة تحتل القمة، وذاعت شهرتي بين العواصم العربية والأوربية، وفي بغداد وقفت أم كلثوم تخاطب الآلاف من مستمعيها وهي تتمنى أن تملك حنجرة صافية قوية كالتل تتملكها مطربة العراق سليمة مراد، ورغم هذا كله بقي قلبي ممزقا لا يعرف غير الوحدة، تنزف جروحه دما، واللوعة تترعرع بين ضلوعي، وعندما بدأت جروحي تلتئم وتعرف نفسي المتعة الصادقة فقدت الإنسان الذي وفر لي كل ما تمنيت بعد ستين عاما من الحرمان؟!”، وتبكي سليمة مراد بصوت مسموع.. أجهشت في بكاء مر نصف ساعة تحاول عبثا النظر بعينيها المبللتين بالدموع إلى صورة “ناظم الغزالي” المتصدرة صالون بيتها وبصوت تكسره العبرات عادت تقول: “كان بالنسبة لي وسادة مريحة أسند إليها رأسي بثقة.. لم نكن متزوجين.. ولم يكن الجنس له وجود بيننا.. عشنا معا سبع سنوات برابطة الإحساس المرهف والشعور الفياض البريء المستمد من الفن.. كنت انظر إليه كطفل مدلل.. علمته النغم والمقام العراقي بكل زواياه، وعلمني الصبر والثقة بنفسي فأعادني إلى الغناء بعد أن اعتزلته.. كان دافعي في الحياة.. وكنت السلم الخفي الذي صعد به طريق المجد.. وجاء من يتهمني بأني قتلت ناظم.. اتهمني الذين جاؤوا إلي بعد موته يطالبون بساعته الذهبية ليضعها ابنهم في معصمه وتراب قبر ناظم لم يجف بعد؟!.” ويقف الكلام في فمها وكأنها تحبس سرا في صدرها وتغير مجرى حديثها: “دعنا من حديث الآلام ولنرجع إلى الماضي أيام المجد وعزه ومن ثم أعود إلى الحاضر لأروي شقائي مع الناس.. كان عام 1953 يوم جاءت أم كلثوم إلى بغداد لتعمل في ملهى (الهلال) في منطقة الميدان وهي مطربة مبتدئة بالنسبة إلى سليمة باشا التي هي أنا، وفي حفلة خاصة احتضنت أم كلثوم العود وأخذت تعزف واجدة من أغنياتي (قلبك صخر جلمود ما حن عليّ). وبدأت تغنيها وبعد أول مقطع منها توقفت من العزف والغناء والتفتت نحوي وابتسامة خجل ترتسم على وجهها، وهي تقول (ياريت كنت أقدر أغنيها زيك) وأخذ الحاضرون يصفقون مجاملة لها ولإشعارها أنها أجادت الغناء، وطلبوا منها في إلحاح إكمال الأغنية ولكن أم كلثوم أكملت كلامها لي: “إن شاء الله بعد عشر سنوات يكون لي قوة حنجرتك وأوتارها الصافية وبعدها اغني الأغنية بتاعتك وربنا يساعدني أغنيها كويس حتى ما تكونيش زعلانة مني” وبعد خمس سنوات سجلت أم كلثوم الأغنية على اسطوانة تجارية دون أن تأتي على ذكري أو صلتي بالأغنية، رغم أني بذلت جهودا كبيرة من أجل أن تتقن أم كلثوم لحن الأغنية؟!”.
ويضيف الكاتب: “وتسكت سليمة مراد التي حصلت على لقب (باشا) بعد أربعة رؤساء وزارات في العراق.. وتطرق برأسها.. وتمضي في حديثها: “وذات يوم فكرت أن أهجر الأضواء والمجد والشهرة والمال وانزوي في طيات النسيان مع بائع لبن أو بائع دواليب الأطفال علّي أكون سعيدة مرة واحدة في حياتي.. كنت تعيسة في طفولتي وشقية في شبابي ومجدي، وكأن الله، جلت قدرته، أراد أن يعوضني في شيخوختي فبلل قطر الحب شفتي ثم عاد وأيبس فوقها إخضرار حلاوة عمري عندما خطف مني ناظم الغزالي؟!!. كانت في قلب ناظم لوعة كنت أحس بها لأنها نفس لوعتي.. كنا نجلس ساعات دون أن نفوه بكلمة واحدة ولكننا نطلق الآهات التي وحدها تعبر عن مكنونات قلبينا وما فيهما من لوعة وأسى وألم.. كان هو الآخر قد ذاق من الحرمان واليتم واللوعات والجوع ما لم يعانه أحد من قبل.. لم يعرفه قريب يوم كان يستجدي ثمن كتب مدرسته.. ولم يذكروه يوم عانى المرض والتشرد والبطالة وعندما أصبح اسما لامعا عرفه الجميع ويوم مات عرفوا ما يملك ونسوه؟!. وتسند جبينها الذي احتلته سطور التجاعيد بكفها وهي تصف أعنف وأحرج موقف صادفته في حياتها.. بينما نعش ناظم الغزالي تحمله اذرع عشاقه وأصدقائه وتودعه آهات المعجبات كان رجل البوليس يجلس إلى جانب سليمة مراد يستنطقها في تهمة قتله: “هل من المعقول أن أفعل هذا بناظم.. أنا اقتل طفلي المدلل، وحبي البريء، وأملي الوحيد.. شلت يداي واليد التي تريد به السوء.. أنا دسست له السم؟!.. هذا ما قالوه حتى ينالوا ما تركه ناظم وليتهم جاؤوا إلي دون إشاعاتهم القذرة لأعطينهم كل ما ترك ناظم وما أملك لأني زاهدة في المال والأملاك بل زاهدة في الدنيا كلها بعد رحيله!!”..
وعن أيام مجدها يواصل: “وعدنا إلى الحديث عن أيام زمان.. كيف كان الفن ولياليه وسهراته، فقالت: “ليالي زمان الفنية لا يمكن أن تقارن بليالينا اليوم.. صحيح كان يومذاك بذخ وإسراف ولكن ليس من أجل الجسد الرخيص والمتعة الجنسية كما هو اليوم بل من أجل الفن الصحيح والمتعة الروحية.. وكانت حلب في سورية عاصمة الفن كانت أشبه (بكعبة) للفن يجب على كل فنان أن يحج إليها.. وقد حج إليها الموصلي وسيد درويش والحامولي والأغواتي وأم كلثوم وعبد الوهاب وزكية جورج وطيرة المصرية.. إن رواد الطرب اليوم يطربون بعيونهم ورواد أيام زمان يطربون بآذانهم؟!! ”
وفاتها..
توفيت “سليمة مراد” في أحد مستشفيات بغداد في عام 1974 بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها.
https://www.youtube.com/watch?v=cYPiRkxojjo
https://www.youtube.com/watch?v=oqBH6HFeLg4