خاص: إعداد- سماح عادل
سلفادور دالي فنان تشكيلي فرنسي شهير، وكاتب أيضا. يعتبر “سلفادور دالي” من أهم فناني القرن العشرين، وهو أحد أعلام المدرسة السريالية. يتميز بأعماله الفنية التي تصدم المشاهد بموضوعها وتشكيلاتها وغرابتها، وكذلك بشخصيته وتعليقاته وكتاباته غير المألوفة والتي تصل حد اللامعقول والاضطراب النفسي. وفي حياته وفنه يختلط الجنون بالعبقرية، لكن يبقى مختلفاً واستثنائياً. في فوضاه، في إبداعه، في جنون عظمته، وفي نرجسيته الشديدة.
حياته..
اسمه “سلفادور فيليبي خاثينتو دالي إي دومينيتش”، ولد “سلفادور دالي” في جرندة بإسبانيا، قرب الحدود الفرنسية. أُطلق على “سلفادور دالي” اسم شقيق له كان قد توفي قبل ولادته بثلاث سنوات، ويقول عن ذلك: “لقد كنت في نظر والدي نصف شخص، أو بديل، وكانت روحي تعتصر ألماً وغضباً من جراء النظرات الحادة التي كانت تثقبني دون توقف بحثاً عن هذا الآخر الذي كان قد غاب عن الوجود”.
عاش “دالي” في أسرة ثرية، وكان والداه يوفران له كل مطالبه. ونتيجة لذلك عرف عنه سلوك الطائش، مثل دفعه صديقه عن حافة عالية كادت تقتله، أو رفسه رأس شقيقته “آنا ماريا” التي كانت تصغره بثلاث سنوات، أو تعذيب هرّة حتى الموت، واجداً في أعماله تلك متعة كبيرة كالتي كان يشعر بها حين يعذب نفسه أيضاً، حيث كان يرتمي على السلالم ويتدحرج أمام نظر الآخرين. ولعل هذه التصرفات التي أوردها “سلفادور دالي” في مذكراته فيما بعد هي التي شكّلت الشرارة النفسية الأولى للمذهب الفني الذي اختاره للوحاته.
عالم الرسم..
ساعد “رامون بيشوت”، أحد جيران عائلة “دالي” على دخوله إلى عالم الرسم، ففي السابعة من عمره رسم “دالي” أولى لوحاته، واستطاع في مدرسته أن يلفت النظر إلى رسومه التي تنبأت له بمستقبل بارع، مما دفع بعائلته وأساتذته إلى حثّه على دخول أكاديمية الفنون الجميلة في “سان فيرناندو” في مدريد. خلال الأشهر الأولى من التحاقه بأكاديمية الفنون الجميلة كان “دالي” يتصرف كتلميذ نموذجي مبتعداً عن المجتمع المحيط به من أقرانه من التلاميذ.
كان “سلفادور دالي” يذهب إلى متحف “البرادو” كل يوم الأحد، حيث كان يمضي ساعات طويلة مُتسمراً أمام لوحات المشاهير أمثال “دييغو فيلاثكيث، فرانثيسكو غويا، وسورباران فرانشسكو”، وعندما كان يعود إلى الأكاديمية كان يقوم برسم رسوماً تكعيبية للمواضيع التي شاهدها في هذه اللوحات. وفي ذلك الوقت تعرّف على الفن التكعيبي، إلا أنه ثار على المفاهيم التي يدعو إليها هذا الفن، مما دفعه لأن يستبدل ألوان قوس قزح في لوحاته بالألوان الأبيض والأسود والأخضر الزيتوني والبني الداكن فجاءت ألوانه حزينة إلى حد كبير.
في ذلك الوقت، كان طلاب أكاديمية الفنون الجميلة متابعين التطور الفني والأدبي الذي كانت تشهده أوروبا، وخاصة المذهب الراديكالي في الفنون والآداب الذي ثار على كل القيم المعترف بها. فقد كان الفنانون والأدباء أمثال “لوبيل بونويل، فيديريكو غارثيا لوركا، بدرو غارفياس، ويوجينو مونتير”، هم المحركات لمجموعة صغيرة من الفنانين الأصوليين ومنهم “سلفادور دالي” الذي ما لبث أن تبوأ مركزا مرموقا في هذه المجموعة. وكان أعضاء المجموعة يثنون على لوحات “سلفادور” التكعيبية التي احتوت على أفكاره الغريبة.
بدأ “دالي” يتردد على المقاهي الفنية وينخرط في النقاشات الفكرية حول الفن والأدب والنساء والجنس. ثم طُرد من الأكاديمية لمدة عام كامل لأنه دافع بحماس عن أحد أساتذته اليساريين، مما تسبب في إغضاب إدارة الأكاديمية، وقد عاد إلى “كتالونيا”، وأُلقي القبض عليه بسبب أفكاره الثورية ودخل السجن لمدة شهر، ثم أُفرج عنه نتيجة لعدم العثور على أدلة تثبت انخراطه في إثارة الرأي العام ضد الملك في إسبانيا. وبعد انتهاء مدة إبعاده عن الدراسة في الأكاديمية في مدريد عاد إليها لتعود إليه شهرته.
درس “دالي” المدرسة المستقبلية الإيطالية، وفي 1924 أبدى اهتماما بالمدرسة الميتافيزيقية وبمبادئها التي وضعها كل من “جيورجيو شبيريكو وكارلوكارا”. وقد أثرت تلك الفترة في حياته كثيرا، لأنه عرف فيها جميع المذاهب الفنية معرفة كبيرة وتقابل مع فنانين عالميين من مختلف الاتجاهات مثل الشاعر “فيديريكو غارثيا لوركا” الذي شاركه في أول عمل مسرحي له، و”لويس بونييل” وقد اختلف معه بسبب آرائه السياسية التي تحولت من الفكر الثوري إلى البورجوازية التي تنادي بالاستمتاع بالحياة. وأثناء وقت الدراسة تعرف “دالي” على مؤلفات فلسفية مثل منجزات “نيتشه، فولتير، كانط، وسبينوزا”. وقد اهتم بشكل كبير بإنتاج الفيلسوف “ديكارت” الذي اعتمد على أفكاره بعد ذلك في الرسم.
وبعد أن أحب كتابات “نيتشه”، خاصة بعد قراءة كتابه “هكذا تحدث زرادشت” قام “دالي” بإطالة شاربه ليصبح شبيها بشارب “نيتشه”، واستمر في احتفاظه بهذا الشارب حتى وفاته. في 1926 أخذ “دالي” يتقابل بشكل دوري مع رسامين سرياليين مثل “لويس أراغون وأندريه بريتون” مما ساعده على تكوين أسلوبه الخاص الذي وصل إلى حد التفوق عليهم جميعاً.
سرياليو باريس..
في أواخر العشرينات، اهتم “دالي” بكتابات عالم النفس الشهير “سيجموند فرويد” التي ترصد الأهمية الجنسية اللاشعورية للصور، وفي نفس تلك الفترة أصبح واحدا من سرياليي باريس، وهي عبارة عن مجموعة من الفنانين والكتاب السرياليين، وقد ساهم ذلك في حدوث تطور كبير في أسلوبه الفني واتجاهه نحو السريالية.
الزواج..
تزوج “سلفادور دالي” من الروسية “إيلينا ديماكونوفا” واشتهرت باسم “جالا، وقد أتت إلى فرنسا وحدها في 1913 وكانت في عمر التاسعة عشرة. وفي 1929 التقى بها “دالي” وكان أصغر منها بعشر سنوات. وقد أثرت”جالا” بشكل جلي عليه وعلى فنه، وكانت تحاول منع خيالاته الجامحة في الفن والحياة من أن تتحول إلى حالة مرضية، وكان اهتمامها الشديد به سر الجاذبية الممتدة بينهما حتى أن “دالي” في بعض الأحيان كان يوّقع على بعض لوحاته باسمه واسم “جالا” معاً.
وكان يؤكد دوما على عبقرية زوجته، معترفا بفضلها ومساعدتها له فهو يقول: “إن كل رسام يريد أن يكون مبدعاً وينجز لوحات رائعة، عليه أولا أن يتزوج زوجتي”. ومع مرور الوقت أصبحت “جالا” مديرة العلاقات العامة له وأيضا المسئولة عن تسويق أعماله الفنية، وكان “دالي” قد عرف كيف يستغل جموحه وجنونه واستفزازاته في مشاريع تجارية مربحة.
فنه..
عرف “دالي” الشاعر والطبيب النفسي “أندريه بريتون” في باريس، وكان قد أصدر في 1924 “البيان الأول” والذي يعد الرسالة التأسيسية للمدرسة السريالية. والجدير بالذكر أن مصطلح “السريالية” وفق ما عرفه الشاعر “غيوم أبولينير” في 1917 هو “ما فوق الواقعية”. والسريالية هي عبارة عن مذهب أدبي وفكري وفني سعى إلى أن يتخلص من واقع الحياة الواعية، وادعى أنه فوق هذا الواقع هناك واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو عبارة عن واقع مكبوت داخل النفس البشرية، ويجب تحريره وإطلاقه وتسجيله في الأدب والفن.
وسعت المدرسة السريالية إلى جلب مضامين غير مُستقاة من الواقع التقليدي في الأعمال الأدبية، وتؤخذ هذه المضامين من الأحلام سواء في فترة اليقظة أو النوم، ومن تداعي الأفكار الذي لا يخضع لمنطق السبب والنتيجة، وبذلك تعد المدرسة السريالية توجها يستهدف كشف التناقض في الحياة. وتعتبر لوحة “إصرار الذاكرة” التي صدرت في 1931 أشهر لوحات “سلفادور دالي” جميعا، وهي تصور عددا من الساعات المتعرجة الذائبة والتي تستقر في منظر طبيعي هادئ بشكل مخيف.
ذهب “دالي” في أواخر الثلاثينات إلى نيويورك، وتأثر أسلوبه الفني بفنان عصر النهضة “رافاييل”، وفي ذلك الوقت كانت شهرته قد كبرت وازداد عدد المحبين لفنه، وبدأ ينضم إلى عالم الأغنياء في المدينة، ويقول “دالي” عن تلك الفترة: “لقد كانت الشيكات تنهمر كالإسهال”.
سعى “دالي” إلى اتخاذ أساليب ملتوية لتحقيق الشهرة العالمية، مثل تأييده لحكم “فرانكو” في إسبانيا، ورسم “دالي” العديد من اللوحات التي تصور “هتلر” في أوضاع عجيبة، بعضها أنثوي، خلال فترة صعود الحزب النازي إلى الحكم في ألمانيا مما أدى ب”أندريه بريتون” والفنانين السرياليين إلى اتخاذ قرار جماعي بفصله من الحركة السريالية بسبب ذلك، بإضافة إلى اتهامه بالحب الشديد للمال، حتى أن “بريتون” أطلق عليه اسم “جشِع الدولارات”، وكان رد “دالي”: “ليس بإمكانك طردي، فالسريالية هي أنا”.
الفن الكلاسيكي الديني..
رجع “دالي” إلى “كتالونيا” في 1948، وكان رجوعه هذه المرة رجوع الابن البار، فقد تصالح مع والده بعد فترة قطيعة طويلة. وانطلاقاً من إعجابه المعلن بالرسامين الكلاسيكيين مثل “فيلاثكيث ورافائيل وفيرمير”، سعى نحو ما أسماه “الفن الكلاسيكي الديني” ورسم بعد ذلك عدد من اللوحات الدينية مثل لوحة “مادونا بورت ليجات” وهي عبارة عن عذراء بوجه زوجته “جالا”.
وفي الفترة ما بين 1937 و 1939 ذهب “دالي” في ثلاث رحلات إلى إيطاليا، وقد شاهد روما الكاثوليكية وقد دمرتها التجديدات الحديثة التي أمر “موسوليني” بها. واحتاج ميله الجديد للكلاسيكية موضوعية أكثر ودراسة لفنون الرسم في عصر النهضة، فاهتم بقوة بالهندسة والرياضيات وعلم التشريح والمنظور قدر اهتمامه القديم بالإيحاء من اللاوعي.
الأفلام..
في 1928 كتب “دالي” سيناريو فيلم “كلب أندلسي” في باريس وقد أخرجه المخرج الإسباني “لويس بونويل”، وبلغ طول الفيلم 17 دقيقة، وعبارة عن مزيج حُلمي غريب، والمشاهد والأفكار لا يمكنها أن تثير تفسيراً عقلانياً من أي نوع: شفرة موسى تفقأ عين فتاة، رجل ينزع فمه من وجهه، بيانو تزينه جثث حمير، نمل يزحف على يد رجل، رجل في الشارع يحمل مكنسة تنتهي إلى يد آدمية يدفع بها الفضلات، ومن الطريف أنه لا يوجد في الفيلم أي كلب أو أندلس. وفي عام 1930 كان الفيلم الثاني ل”دالي” وهو باسم “العصر الذهبي” وتميز أيضاً بعدم إمكانية تفسيره تفسيراً عقلانياً، وهو من إخراج “بولونيل” أيضاً.
الكتب..
أصدر “سلفادور دالي” في 1964 كتاباً بعنوان “يوميات عبقري في باريس”، ومأخوذ من دفتر يومياته الذي كتبه عن المرحلة الممتدة من عام 1953 إلى 1963 من حياته. ويعتبر الكتاب تتمة لسيرته الذاتية التي صدرت بعنوان “الحياة السرية لسلفادور دالي” والذي يُعتبر من أكثر كتب “دالي” إثارة.
خصص “دالي” الكثير من وقته بين عامي 1960 و1974 لإنشاء متحف دالي الذي أقيم على أنقاض المسرح البلدي في فيغيرس وافتتح المسرح رسميًا عام 1974 ليكشف عن بناء يعتمد على تصاميم دالي، ووصف أنه أضخم هيكل سريالي في العالم.
وفاته..
أجبر “دالي” في 1980 على التخلي عن الرسم بسبب اضطراب حركي تسبب بارتجاف دائم وضعف في يديه، لم يعد قادرا على التحكم بالفرشاة. وقال أنه فقد القدرة على التعبير عن نفسه بالطريقة التي يعرفها. ووقعت مأساة أكبر في 1982، عندما توفيت زوجته. أدى ذلك إلى دخوله في اكتئاب عميق. انتقل إلى “بوبول”، في القلعة كان التي كانت زوجته قد اشترتها ورممتها.
تعرض “دالي” لحرق شديد في 1984 وبسبب إصاباته جلس على كرسي متحرك إلا أن أصدقائه أعادوه إلى فيغيرس، مما يجعله مرتاحًا. دخل “سلفادور دالي” المستشفى في فيغيرس في نوفمبر 1988 بسبب فشل بالقلب وبعد فترة قصيرة من عودته، توفي في 23 يناير 1989 بسبب فشل في القلب عن عمر ناهز ال 84. في مسقط رأسه فيغيرس، حيث دفن في سرداب ضمن المسرح.