12 أبريل، 2024 4:07 م
Search
Close this search box.

سعر الجسد .. في سوق الشذوذ !*

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : كتب – محمد البسفي :

الأسابيع الماضية اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بقصية الشذوذ الجنسي، أو كما درج على تسميتها إعلاميًا بالمثلية الجنسية (وهي تسمية غير دقيقة علميًا)**، إثر واقعة انتحار إحدى ناشطات ما يسمى بمجتمع الميم المصريات في كندا.. وطبقًا للقوانين الفيزيائية فإنه لا حياة لشيء إلا بنشاط نقيضه؛ فقد التهبت واقعة انتحار الناشطة بفعل عناصر الإسلام السياسي وأنصاره بالهجوم عليها ولعنها لعدة أسباب؛ وقفز “الإلحاد” بالطبع ليكون الاتهام الرئيس لها ليطغى على أي أبعاد أخرى للحادث لزوم تسخينه وتنشيط فعالياته، عهد مرتادي صفحات وسائل التواصل الافتراضية، وبالفعل حمي إوار الجدل عليها خاصة بعد دخول النخب الليبرالية ويسار النيوليبرالية على الخط مدافعين عن الناشطة وقضاياها الإنسانية.

وبعيدًا عن شخصية الناشطة وواقعة انتحارها، وذلك المنطق الصوري الذي يُشعله طرفي الجدال العبثي بغية تسطيحه على أرضية دينية سواء على مستوى: مدى جواز الترحم على الملحد من عدمه؛ أو مدى اعتبار الشذوذ الجنسي من الحقوق الشخصية التي يجب أن تُقرها الحريات العامة، يتجلى لكل راصد بعمق مدى الهوة السحيقة التي تسوقنا إليها الإمبريالية الثقافية لقاع الحضيض..

ثقافة فقاعات الهامش

فبرغم تأزم سياسات النيوليبرالية الملازم لها منذ انطلاقها المتوحش في أواخر سبعينيات القرن الماضي؛ وانكسارها الحاد والمؤلم في انهيارات نيويورك المالية العام 2008، حتى طامة جائحة (كوفيد-19) التي مازالت حتى الآن تترى التحليلات والتنبؤات الاقتصادية عن تأثيراتها القاتلة عليها وبأنها شهادة لدفن جسد الليبرالية الجديدة المحتضر، إلا وأنها مازالت تنبض بنشاط وحرارة عبر عولمتها الثقافية/الاجتماعية بآلياتها وإمكانياتها الضخمة المتسربة إلى مجتمعات العالم الثالث – خاصة – بواسطة الفلسفات العدمية والفوضوية والتفكيكية نافخة بها الروح بتحديثها وترسيخها مرجعيًا وإيديولوجيًا، لتنشط بالتالي، على الجانب المقابل، صراعات آثنية وعرقية وعنصرية وجهوية تُغرق مجتمعات المنطقة تحت رايات دينية أو قومية انفصالية، ليتغذى الجميع على كلا الشاطئين من مصدر واحد وهو ثقافات ما بعد الحداثة المعولمة.

ولكن .. لنجاح تلك الثقافات المعولمة في حصارنا كـ”قميص من الجبس”؛ فقد استطاعت أن تُزيح قضايا العمق من المتن إلى الهامش لكي تهيمن مسائل الهامش بسطحيتها على متن أفقنا الثقافي والاجتماعي – كما يقول بذلك الدكتور “محمد دوير” -، ولأي راصد لمسألة الشذوذ الجنسي والجدل المستمر حول دعاوى إباحته ومدى كونه من الحقوق الإنسانية الطبيعية كلما أثيرت على أفقنا الآني – حتى ولو كان على مستوى مسطح رواد المواقع الاجتماعية الافتراضية – يلحظ عدة نقاط يمكنها أن تتبلور في أسئلة محددة مثل: لماذا تُطرح مثل هذه المسألة – ومسائل أخرى من مستواها – علينا كمجتمعات عالم ثالث نامي بكل هذا الإلحاح وباستمرار ؟.. ولِما يتصدى لها جمهرة كبيرة من المدافعين عنها يتزعمهم اليساريون وتحديدًا الماركسيون أو لو تحرينا الدقة الماركسيون المتلبرلون ؟.. وسؤال أخير يرتبط بسابقه: لماذا يدافع ذاك الماركسي المتلبرل بكل تلك الحرارة عن قضية ثانوية لمقتضى قضايا واحتياجات مجتمعه الحقيقية وهي، فضلاً عن ذلك، في الأساس لا تخدم إلا منظومة الرأسمالية العالمية وآلياتها ؟!

كيفية إعداد الزبون !

في كتابه القيم والهام، (ماركس ضد نيتشه: الطريق إلى ما بعد الحداثة)؛ يؤكد أستاذ الفلسفة “د. محمد دوير”، على أن “نمط الإنتاج هو الذي يكشف عن مسارات الفكر الإنساني في كل مرحلة تاريخية، حتى حينما تتداخل أساليب الإنتاج في مرحلة ما أو مجتمع معين؛ فإنه من الضروري أن يسود أي منها بحيث يلعب دورًا أكبر في تشكيل الوعي الاجتماعي، وما يؤكد هذا أننا نرى في المجتمعات أيضًا أساليب تفكير مختلفة وليس أسلوبًا واحدًا، بيد أن أسلوب تفكير ما قد يسود على غيره من الأساليب، فيُصبح هو السمة العامة التي تُميز هذا العصر أو تلك المرحلة عن غيرها”.

موضحًا: في النصف الثاني من القرن العشرين بدأت الرأسمالية في إحداث تحولات فارقة ومتلاحقة تركت آثارها الواضحة على أنماط التفكير في العالم أجمع، وهو ما أدى إلى تذبذب معرفي في الذات العارفة جراء سرعة التحولات في استخدام التكنولوجيا فائقة السرعة، وأحدث متغيرين مهمين على الصعيد الفلسفي والثقافي بشكل عام، المتغير الأول: استدعاء فلسفة نيتشه وتفسيرها باعتبارها القيمة الثقافية الأنسب لخلق حالة “يقين ترددي أو النسبية المطلقة”، تجعل الحقائق ألعوبة في يد النسبية المعرفية، والثاني: نقد فكرة الإنعكاس الآلي التي أحدثت إرتباكًا مفهوميًا لدى بعض شراح الماركسية، وخلافًا نظريًا واسع النطاق بينهم، ولاسيما بعدما أسهم “ألتوسير” في طرح تلك القضية.

مؤكدًا “دوير” على حقيقة التحولات والإنعطافات التي مرت بها الرأسمالية العالمية في “سعيها الدائم لعولمة كل مظاهر النشاط الإنساني، سواء كان نشاطًا بدنيًا أو ذهنيًا، في الاقتصاد والثقافة والفكر، فكان الفلاسفة الغربيون يناقشون موضوعاتهم باعتبارها موضوعات إنسانية وعالمية، فالديمقراطية قيمة إنسانية، ومفهوم الإنسان هو ذلك الذي يحمل سمات الفرد الغربي، ومعنى الحرية ينطلق من حماية حقه في التعبير والتملك.. إلخ”. ومن هنا تم “تجذير” أفكار ومقولات العولمة الثقافية، أو بالتعبير الأدق الذي اختاره “دوير”، “الإمبريالية الثقافية”، لتُصبغ المجتمعات العالمية بها في شمولية متغطرسة واثقة، خاصة بعد طمس الشخصية الوطنية ممثلة في مشاريع التحرر الوطني واستلهام التجارب الحداثية التقدمية للحضارة الغربية؛ فسرعان ما وجدت شعوب المستعمرات القديمة، من مجتمعات العالم الثالث، من ينتقد الحداثة ويدعو لهجرها مروجين لحزم من الفلسفات الفوضوية والتفكيكية والتنظيرات العدمية الما بعد حداثية والتي تبناها بعضًا من نخب العالم الثالث في حالة من الإغتراب الطوعي – كما يرى “محمد دوير” -، وينكفأ البعض الآخر من تلك النخب نحو الأصالة في تراثهم الفكري والثقافي خوفًا من ضياع الهوية، مما ساعد على تضخم حالة الجمود.

ولكن – كما أعتقد – أن تلك الحالة من الإنكفاء على الأصالة التي مارسها النصف الثاني من نخب العالم الثالث؛ لم تكن إلا درجة من درجات الحمق – حسن النية أو سيئه – لاتخاذها موقف الدفاع الميتافيزيقي عن كل ما هو هامشي وقشري وغير موضوعي أو عملي لمفاهيم واحتياجات العصر الآني لمجتمعاتها وذلك بإغراق تلك المجتمعات في صراعات هوية حضارية قومية وآثنية أو حروب دينية وعنصرية؛ مما زاد من إوار الصراع أمام فلسفات ما بعد حداثية منحها الدفعة وأصقلها القوة التي كانت تتمناها؛ بحسب مبدأ إبراز الشيء بتقوية نقيضه، لما تحمله وتدعيه بالتبشير لمستويات فكرية متقدمة أرقى للإنسانية.

و”إذا كانت التكنولوجيا إنتاجًا مركزيًا، فالثقافة أيضًا يجب أن تكون كذلك”، ومن هنا برزت هيمنة المركز الثقافي – سواء أكان أميركيًا أو أوروبيًا – على المجتمعات التابعة التي أصبح لزامًا عليها التفكير بعقله والتحدث بلغته والنطق بلكنته؛ وذلك عبر آليات تكنولوجية فائقة وقنوات ومنافذ مؤسسية وشركات عابرة للقوميات وتكتلات شبه حكومية، تعمل كلها على تذكية حالة من السيولة الثقافية والنظرية؛ والإغراق في فرعيات المشكلات والمسائل قرب سطحها الظاهر أو البديهي دون التعمق في أسبابها وجذورها، فأصبحت النتائج تقود الأسباب وليس العكس.. فالدعوة إلى الثورة الشعبية دائمة ولكن بدون “نظرية ثورية”.. والديمقراطية أصبحت قيمة إنسانية؛ ومفهوم الإنسان هو ذلك الذي يحمل سمات الفرد الغربي، ومعنى الحرية ينطلق من حماية حقه في التعبير والتملك (وهنا أصبحت مفاهيم الحرية والديمقراطية مفاهيم مطلقة تهيم في فضاء مبهم هلامي مطاطي بعيد عن أي جذور اجتماعية واقعية)؛ وبالتالي أضحت الفردانية إحدى أسس مجتمعات ما بعد الحداثية التي صار جسد الإنسان فيها ملكية فردية تخصه وحده بالمعايير الرأسمالية الصرفة.. فيتم طرح أزمة في حجم شيوع التحرشات الجنسية للنقاش المجتمعي في إطار ضيق مثل معاناة الأنثى الضعيفة داخل المجتمع الذكوري القوي الغاصب، دون الإلتفات أو في انسلاخ تام عن الأسباب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الحالية وفي ظل هوة طبقية سحيقة تشطر المجتمع لشذرات (1)، في نفس اللحظة التي يتم فيها طرح مسألة الشذوذ الجنسي كحق إنساني من منطلق رأسمالي بحت ينظر إلى الجسد كـ”قيمة مادية” له حق تملكه واستعماله واستغلاله كيفما شاء، وكل ذلك في جو ليبرالي وردي يطنطن بالتنظيرات التفكيكية والمقولات الفوضوية التي تتعمد تكسير كل قيمة وإسقاط كل سلطة عقلانية معلنة موت الإله والمنطق والإيديولوجيا والمؤلف والنص والقاريء… إلخ من سلطات العقل؛ ولا يظهر إلا فوران حالات التشظي والإغتراب الطوعي عن الذات وتنتشر المدارس والنظريات النفسية والسيكولوجية المقتفية آثار الفرويدية وتحديثاتها؛ وتنجح الرأسمالية في إحدى أهم أهدافها من تحويل حالات الإغتراب التي تعانيها المجتمعات – وخاصة في العالم الثالث – تحت ضغوط القهر الطبقي واستيلاب حقوقها واستنزاف مواردها ومقوماتها الذي يتم بصفة يومية بفعل الرأسمالية ذاتها؛ إلى حالة من الإغتراب الذاتي السيكولوجي الطوعي لإعداد “الزبون” لمستويات الاستهلاك المناسبة لفائض بضائعها في أسواقها المتسعة..

أكثر ما بعد الحداثيين لا يستوعبون تبعية السياسة للاقتصاد بل والثقافة أيضًا للاقتصاد؛ إذ يُقر كهنة الرأسمالية والنيوليبرالية أن الحرية الاقتصادية لن تمر دون أن تصحبها حريات سياسية، وأن فتح الأسواق للاستهلاك لن يمر ايضًا دون فتح العقول لاستقبال ثقافات بلد المنشأ.

كل وأي شيء من أجل الزبون !

وانطلاقًا من نظريات “رسملة” الجسد البشري وإدخاله ضمن ساحات السوق الرأسمالية العالمية؛ يجب تهيئة الأجواء الثقافية والاجتماعية ليُصبح أداة سلعية مناسبة في ألعاب الجنس المبتكرة: “لواط، سحاق، تبادل الزوجات، الممارسة مع الحيوانات، زنى المحارم… إلخ”، تحت ظلال فلسفات تفكيك الأسرة كرابطة نووية للمجتمع وإسقاط سلطتها كمفهوم قيمي يجب التحرر منه؛ ومن هنا تتجلى القيم المضافة اجتماعيًا لفلسفات ومقولات ما بعد الحداثية الفردانية في الخلط والترقيع ونسف قيمة التحرر بـ”التحلل” لتنتج مجتمعات قد عادت إلى سيرته الأولى في علاقاتها الاجتماعية والترابطية مُعلية القيم البوهمية والحيوانية والفوضوية ولا كأنها مرت بمراحل رُقي تاريخي من حضارات أو أديان أو فلسفات تقدمية.. وكل ذلك لتغذية وتنشيط أسواق الجنس العالمية وألعابه التي اصبحت من أقوى الاقتصادات الدولية رسوخًا وأرباحًا تُقدر سنويًا بالتريليونات من الدولارات واليوروهات – الغير منظورة نظرًا لعدم وجود أرقام ثابتة أو رسمية لنشاط تلك الأسواق سنويًا – لدرجة أن عديد من الدراسات الرصدية والاقتصادية أكدت على أن أسواق الدعارة والجنس هي القاطرة لاقتصادات التكنولوجيا والتقدم التقني ممثلة في الشركات والمؤسسات الكبرى متعددة الجنسيات التي طالما تقدم من الآليات والتقنيات فائقة التطور لتقدم وتفعيل اقتصادات الجنس عالميًا ربما بما يوازي تفعيل وتنشيط اقتصادات تصنيع السلاح والأمن.. “تطور وسائل الاتصال والتفاعل الافتراضية، تطور تقنيات المواقع الإلكترونية مدفوعة الخدمة، التطور المستمر لصناعة الأجهزة التعويضية والألعاب الجنسية، تقدم صناعة الأدوية والمنشاطات الجنسية، تكثيف الألعاب الإلكترونية الجنسية وتطويرها من الدعائية إلى التفاعلية…”؛ إلى ما لا نهاية من إبتكارات وألعاب صناعة وتسويق الجنس التي اعتمدت على التطور المذهل والمستمر في تقنيات الصورة وسهولة التواصل الاجتماعي.

فرغم تضارب الأرقام وغياب إحصائية حقيقية يمكن الاعتماد عليها في كشف حجم سوق الجنس عالميًا، إلا وتكشف بيانات دولية أن حوالى 500 ألف امرأة وفتاة يعملن في سوق الدعارة في أوروبا، غالبيتهن من دول البلطيق والبلقان وأوروبا الشرقية وروسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء. وتُشير تقارير لهيئات أوروبية إلى أنه في ظل الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة في هذه الدول، من السهل اصطياد النساء الراغبات بتحقيق مستقبل أفضل، من دون أن يملكن معرفة وتجربة في تفاصيل الأوضاع الحقيقية في أوروبا، وشبكات الجريمة المنظمة وتهريب البشر ومافيا تجارة الجنس. وبالتالي يسهل استدراجهن والإيقاع بهن وإرغامهن على بيع أجسادهن في ظروف من العبودية الوحشية.

وتُشير تقديرات بيانات منظمات ألمانية متخصصة إلى وجود أكثر من 200 ألف مومس في ألمانيا، وأن 65 إلى 85 في المئة منهن أجنبيات وغالبيتهن من رومانيا وبلغاريا. وذكرت منظمة (Walk Free Foundation)، أن 40 مليون شخص في العالم يعيشون العبودية، 167 ألفًا منهم في ألمانيا، أي 0.2 في المئة من عدد السكان المحلي. ووفقًا للمدير التنفيذي للفرع الألماني لمنظمة (International Justice Misson)، “ديتمار رولر”؛ فإن: “العبودية في الماضي قامت على أسس يحددها القانون، تعترف بملكية شخص شخصًا آخر، أما الآن فهي محرمة وممنوعة، ولكنها مثل الحرباء تتلون بأشكال متعددة لكي تحافظ على حضورها، وحتى افتراضيًا من خلال الإنترنت”.

حددت مؤسسة (Walk Free Foundation)، الأشكال الأساسية للعبودية المعاصرة أو الراهنة في الآتي: “إن البشر ليسوا بوضع يمكنهم فيه تجنب الاستغلال في ظل التهديد متعدد الأشكال، أو العنف الجسدي، واستخدام السلطة لأغراض شخصية”. وكان مصطلح “العبودية الحديثة” قد ظهر في التداول خلال السنوات الأخيرة، وهو يُستخدم عند الحديث عن الأشكال المختلفة للخنوع والخضوع والاستغلال كما في حالات الإتجار بالبشر، أو العمل الإجباري أو الزواج بالإرغام والقوة”.

ويعلق الصحافي العراقي، “محمد خلف”؛ مؤكدًا على أنه لم يُعد مصطلح “العبودية الحديثة” يقتصر على دول مثل قطر أو ليبيا أو الكونغو، إذ نبه تقرير صادر عن المجلس الأوروبي إلى أن: “الإتجار بالبشر والعمل الإستعبادي أخذا يغزوان دول أوروبا، وخصوصًا تهريب البشر لاستخدام اليد العاملة والإتجار بالجنس وبأشكال متعددة”. وبحسب بيانات شرطة الجنايات الألمانية فإن: “استغلال اللاجئين كعبيد يحصل خصوصًا في قطاعات الزراعة وتربية الحيوان وأعمال البناء والمقاولات والمواصلات والنقل”. ووثقت الأجهزة المعنية في العام (2018)؛ 180 حالة لضحايا الاستغلال العبودي، غالبيتهم من مواطني دول أوروبا الشرقية.

وإحدى الحقائق التي لا يمكن تجاوزها هي أن القوانين والتشريعات في ألمانيا – كمثال – تعتبر أصحاب المواخير تجارًا وأصحاب مشاريع، لا تختلف عن غيرها من الاستثمارات سوى بنوع بضاعتها، وهؤلاء يتمتعون مثل غيرهم من رجال الأعمال بحماية الدولة كون تجارتهم قانونية.

تنشط جمعيات مثل (Hydra) و(BUFAS) على مساواة الدعارة بأشكال العمل الأخرى، وهي ترفض حظر شراء الجنس بشكل صارم. وقالت “سيمونا فيقراتس”، من (Hydra)، إنه: “لم يُعد بإمكان النساء الدفاع عن أنفسهن بشكل صحيح، لأنهن يعملن ضمن نطاق غير قانوني ومنبوذ اجتماعيًا”. وأضافت: “إذا أقحم المرء في زاوية قذرة ولم يستطع التحدث، فهو غير محمي، لهذا تجد النساء أنفسهن في ظروف أكثر صعوبة”.

لم يُعد سرًا أن العالم (المتحضر) يغمض عينيه ليس فقط أمام جرائم المنظومة الحاكمة وقتلها شعوبها، وتغطّي على الميليشيات المسلحة العابرة للدول التي تمولها حكومات وأنظمة لديها تمثيل ديبلوماسي دولي، إنما أيضًا تغض الطرف عن ظاهرة زج الفتيات والفتيان، إضافة إلى القاصرين، في تجارة الجنس المعولمة من بيْت دعارة إلى آخر، وإرغامهم على ممارسة البغاء تحت التهديد والإكراه. وقضية “بولينبيرغ-Bolenberg”، التي أحيلَت إلى القضاء السويسري، سلّطت الضوء على الرابط القاتم بين الدعارة والإتجار بالبشر – الأمر الذي يُثير قلقًا متزايدًا، باعتبارها واحدة من أكبر قضايا الإتجار بالبشر ليس في سويسرا وحدها، بل في العالم، وأحيلَت هذه القضية أمام المحكمة المختصّة في مطلع شهر نيسان/أبريل 2014.

“خوسيه منديس بوتا”، رئيس لجنة تكافُؤ الفرص بين الرجال والنساء في الجمعية البرلمانية التابعة لمجلس أوروبا ومقرر المجلس، قال في تقريره: “إن جميع المعلومات تُـشير إلى حقيقة تتمثل في أن غالبية المُومسات في الوقت الحاضر، مُرغَـمة على مزاولة هذا العمل، لافِتًا النظر إلى أن معظمهن من خلفيات فقيرة”، وأضاف: “الإعتقاد بأن معظم الدعارة طوعية، هو خرافة برأيي. فالذين يختارون “هذه المهنة” بمحْض إرادتهم، يُـشكِّلون أقلية صغيرة”.

ووفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، يفوق العدد الكلي للمومسات في العالم خمسين مليون امرأة، ثلاث من أربع منهن تتراوح أعمارهن بين 13 و25 سنة. وتخضع نسبة 95 في المئة منهن لنظام الوساطة المأجورة والمستغلة “القوادة”، كما تُشير الدراسات إلى أن أكثر من 75 في المئة من سلسلة البغاء ترتبط عضويًا بعالم الجريمة المنظمة وتخضع له.

منذ خمس سنوات، ودائمًا حسب الإحصائيات نفسها، اعتبرت سياحة الجنس، (وهي إحدى أهم مظاهر تجارة الجنس)، ثالث تجارة غير قانونية بعد الأسلحة والمخدرات، واختار 10% من أصل 842 مليون سائح وجهات زياراتهم لأسباب تتعلق بتوفر عرض وطلب بضاعة الجنس.

وحسب دراسة سابقة لمنظمة (أطاك)، كانت قد أثارت الكثير من الجدل تحت عنوان: “عولمة البغاء.. انتهاك عالمي للكرامة الإنسانية”، فإن كل البلدان المستفيدة من اقتصاد الدعارة، ما عدا الولايات المتحدة، مصادقة على اتفاقية حقوق الطفل، التي تُحرم في المادتين (34) و(35) كل شكل من أشكال الاستغلال والعنف الجنسي.. وجاء في الدراسة: “وتتحرك سوق الجنس مستفيدة من التسهيلات العنكبوتية والتقنو-حداثية كتجارة بؤس تزدهر بالإفقار السريع المنتج للراغبين في الهجرة أو الفرار من وضع غير إنساني. وهي تعمل كسوق البورصة، أحيانًا بالإشاعة وأحيانًا بالمغامرة، حيث نشهد حركة جديدة لنساء شرق أوروبا نحو جنوب إفريقيا واليابان”.

كذلك تنشط الشبكة الإفريقية في نيجيريا والسنغال ومالي نحو أوروبا، بوصفها “صناعة ناجحة”. ومن جهة أخرى، تزدهر عمليتا استيراد المومسات والتجارة السياحية في دول مجلس التعاون الخليجي.

وإن كانت تلك بعض الملامح – البعيدة نوعًا ما – عن إحصاءات ومؤشرات سوق البغاء الدولي، إلا وتظل الأرقام الحقيقية لحجم سوق خدمات وصناعة الجنس العالمية محجوبة هاربة أو طائرة في حسابات دوارة حول العالم.. ومع ذلك تظل كثير من الدراسات والكتابات مازالت تؤكد على قوة هذه التجارة بأرباحها الخيالية وكيفية تغلغلها في الدورة الاقتصادية؛ مثل الكاتب الأميركي “شلوسر”؛ الذب أكد في مقدمة كتابه (الاقتصاد السفلي): على “إن الجنس، وغيره من مصادر الاقتصاد السري، يمثل جزءًا حيويًا من أميركا… دوره لا يقل أهمية عن الدور الذي تلعبه شركات أميركية عملاقة أخرى، مثل مايكروسوفت وجنرال موتورز، للتحكم في اقتصاديات العالم، فقد صار البورنو أكثر نفوذًا منها مجتمعة”.

…………………………………………………

*اعتمد هذا المقال في أغلبه على كتاب (ماركس ضد نيتشه .. الطريق إلى ما بعد الحداثة) – د. محمد دوير – روافد للنشر والتوزيع – القاهرة 2020.

**يتعمد منظرو الحرية الإنسانية في حق تملك الجسد البشري؛ الخلط العلمي بين مفهومي الشذوذ الجنسي والمثلية الجنسية.. حيث يطلق المسمى الثاني على “الجنس الثالث”؛ ويعني علميًا بالإنسان مضطرب الهيرومونات الذكورية والأنثوية بما يؤثر على أعضاؤه التناسلية تأثيرًا ملحوظًا بما يصاحبه ذلك من اضطرابات نفسية ومزاجية متباينة الحدة. ولكن كثيرًا ما يستشهد اصحاب التنظيرات الجندرية من معتنقي المذاهب ما بعد الحداثية بالخلط بين النظريات السيكولوجية والفسيولوجية وغيرها لتخريج تنظيرات نسبية الهوية الجنسية أو خضوعها للإرادة الذاتية.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب