عرض/ قاسم محمد مجيد
من المؤكّد ان القارىء يقدّر مدى صعوبة الالمام بمقالة محدودة عن كتاب نقدي مهم يرصد شاعرا تمثل تجربته الادبية مساحة ابداعية وزمنية كبيرة، كونه واحدا من شعراء الجيل الصاخب المتعدد الاصوات والتجارب يقع في قلب الشعرية العراقية والعربية، الجيل السبعيني، على الرغم من النقّاد جميعا قد اتفقوا على انه هذا الشاعر “عصيّ على التجييل”.
1-
اصدار جديد للناقد المبدع الدكتور حسين سرمك عن الشاعر الكبير جواد الحطاب، عن “دار نينوى” اختار له الناقد عنوانا لافتا ” أفعى جلجامش، وعشبة الحطاب الجديدة” وقد استمد هذا العنوان من قصيدة مهمة للشاعر الحطاب منشورة في ديوانه الثاني “يوم لايواء الوقت” الا وهي ” الرحلة الثانية لجلجامش” حيث يقود الحطاب فيها البطل الرافديني “جلجامش” في رحلة جديدة لم يكن الغرض منها البحث عن الخلود عن طريق الـ”عشبة السحرية” لكنه الخلود المتحقق عن طريق الالتحام بالفقراء هذه المرّة، والحطاب والفقراء –كما يعرف المتابعون لشعره- توأمان لا يمكن الفصل بينهما منذ ديوانه الأول “سلاما ايها الفقراء” وحتى آخر ما ينشره من قصائد منتمية للأرض والانسان.
في مقدمة الكتاب أختار الدكتور سرمك, مقتطفات من اسئلة وجهها للحطاب عن موضوع مازال يشغل بال المهتمين بالنقد وكتابة التاريخ الشعري الا وهو قضية التجييل التي تثير بين الحين والاخر ملاحظات واراء متباينة مثيرة للجدل.
يقول الحطاب في بعض جوابه عن هذه الاشكالية “الجيلية” :
( أن الشعراء الفاشلين وحدهم من يبحثون عن “جيل” يؤرشفهم ويدوّن اسماءهم في اضابيره، اما الشعراء الحقيقيون فكل الاجيال هي جيلهم الذي ينتمون اليه ويرفدونه بنعمة انتسابهم له- الفصل الخامس).
2-
يمكنني القول ان الكتاب “السرمكي” يشكّل اطلالة واعية على منجز الحطاب في الشعر والنثر، وان كان الناقد قد أكّد فيه انه هو “جزء أول” من رصده لتجربة الشاعر جواد الحطاب وان هناك جزءا ثانيا في الطريق، لكن ذلك لم يمنع الناقد من صحبة القارئ في رحلة نقدية للتمتع بين ثنايا تاريخ ابداعي يمتد لاربعة عقود، ويبدا منهجيا في تاشيرها في عام 1978 كأول اطلالة شعرية شكلت اهتماما نقديا وبداية شعرية واثقة حين نشر ديوانه الأول ( سلاما ايها الفقراء) والذي منحه صفة مشرفة كشاعر للفقراء ( هؤلاء هم من سكن اصابعي , من تسلقوها كما يتسلق السحرة المكانس في الحكايات الخرافية ) كما يقول الحطاب عن فقرائه في ص164.
ولم يتاخر طويلا بعدها في النشر اذ أنجزمجموعة شعرية للاطفال عام 1982( ياقمرا في البصرة ) ليتبعها في نشر مجموعة قصصية أسماها ( تلال يغسلها الصباح ) وبودي أن أشير هنا الى انتباهة الناقد حسين سرمك الى ان احدى قصائد الحطاب المكتوبة للأطفال والتي أسمها “الفيل يستحم” قد أقرتها وزارة التربية السورية لتكون ضمن المنهج الدراسي الابتدائي، وتصبح احدى محفوظات الطفولة كايقونة جمالية تعلّم التلاميذ وهم في بدايات سني دراستهم الأولية الخيال والكلمة المموسقة، وهو ما لم تنتبه اليه وزارة تربيتنا العراقية.
3-
تضمن الكتاب الذي استعرضه هنا، خمسة فصول مبتدءا -عشبة جلجامش وافعى الحطاب- والفصل الثاني -فندق الموت والخلود تاملات تحليلية في رواية يوميات فندق ابن الهيثم- أما الفصل الثالث فكان عن -نرسيس الحطاب- وهي تحليل لقصيدة زهرة نرسيس من مجموعة شتاء عاطل عام1997، والفصل الرابع -دماء على القباب المذهبة- تحليل لقصيدة “استغاثة الاعزل” في رثاء الشهيدة اطوار بهجت، والفصل الخامس والاخير – سرمك يحاور الحطاب- ولعله أخطر فصول الكتاب،حيث تمكن الناقد وبما يملكه من براعة نقدية- نفسية،باعتباره طبيبا نفسيا بارعا، من الغور الى اعماق الشاعر واستجواب مكامنه في حوارية بامكاني القول عنها انها “وثيقة” تاريخية لكونها شملت محطات عديدة في تجربة جواد الحطاب الشعرية والحياتية، لاسيما ونحن جميعا نعرف ان الشاعر الحطاب ضنين بالمقابلات وغالبا ما يتهرب منها، وهذا الفصل يحسب لحسين سرمك حقا.
4-
في الفصل الاول يفتتح الناقد كتابه باقتباس من الحطاب ( في نيتي أن امتطي البحر – واضع اللجام في فكيه ) وهو تغليف ماهر كما يقول سرمك عندما أقتطع الحطاب في البداية جزءا من الملحمة، ويذكر هنا حديث ننسون ام جلجامش الى الاله شمش
( علام اعطيت ولدي جلجامش
قلبا مضطربا لايستقر
وحثثته
فاعتزم سفرا بعيدا )
وقد انطلق سرمك في محاولة جادة لاعطاء دور مهم للتحليل النفسي على اعتبار ان بعض الاختيارات لاتتم اعتباطا او دون توافق نفسي، ليختم الفصل بتلك الرؤيا التي تنظر للخلود من زاوية خلود الكلمة وبقاءها وتتضح رؤية الشاعر ومعتقداته عن الحياة والموت والمصير الانساني الهش والمرتبك المسكون بالرغبة في الحياة الابدية، الحطاب الذي يدفعه خياله بقوة المهماز ليتنفس رائحة اللوحات الحجرية:
( المهماز بخاصرتي
اتنفس رائحة اللوحات الحجرية
أسال هذا النهر الواقف عن حكمته
واصادق وحش البر
ياصاحبة الحانة
ابحث عن نار
انضج فيها الحلم
وماء
اغسل فيه الليل – قصيدة الرحلة الثانية لجلجامش)
5-
و حسنا” فعل حسين سرمك، وكان موفقا في استقرائه لـ”يوميات ابن الهيثم” والذي تابع هذا الجانب من تجربة الحطّاب النثرية، او الروائية المهمة والتي سجّل فيها الشاعر “يوميات فندق الموت”، والتي لم يتوان في مقدمتها عن اثارة قضية انحيازه للفقراء، وبالتأكيد ان “سرمك” لم يخترها اعتباطا، وانما اراد من خلالها ان يوثّق كيف ان الحطاب منح الفقراء جل مايكتب سواء في الشعر أو النثر: (لااحد يعرف الوطن مثلما نعرفه نحن الفقراء, فقد بنيناه طابوقة طابوقة , وعبدناه , شارعا شارعا).
وفي مكان أخر ينقل الناقد الدكتور حسين سرمك عن الحطاب في يومياته تلك، وكأنّه ينقل قصيدة سردية ( أعزي النفس , يانفسي , كم يدفع الاخرون كي يصلوا الى ما وصلت اليه، كم حياة يدفعون بدلا لحياتك في الحرب ؟ ثم انهض ضاربا ركبتي بقبضتي.. ياللبهاء.. ان تمسك موتك من أبطيه وترفعه بمؤازرة عينيك تتمعن في وجهه!!)
اليوميات التي أفرد لها الكتاب فصلا كاملا، هي عبارة عن مذكرات يومية لمحارب قضى سنوات الحرب، وكتب عنها بكل صدق وأمانة مقدما لنا الجندي بكل حالاته الانسانية من شجاعة وخوف وحب، ليتنقل بنا في صفحات الرواية عبر عشرات المواقف التي تؤكد وطنيته التي لم يزل امينا لها حتى اليوم، بالرغم من ان البلاد قد اكلت الحرب خيرة شبابها وجعلت ايامها، وأيام الحطاب، مجللة بالسواد والفجيعة، لكن قدر الشعراء وكبار المبدعين ان يكونوا محكومين بالأمل لحين انبعاث أوطانهم.
ولا مجال هنا في تلك القراءة لبحث اليوميات التي ختمها سرمك حين أشار الى أن الحطاب كان متشائلا في يومياته، حين أكّد في احدى اجاباته لسرمك من ان انواط الشجاعة تباع اليوم في الارصفة مع الاحذية العسكرية، لكنها مرحلة تاريخية كتب عنها الحطاب بمصداقية ووعي عميق.
6-
اما القصيدة التي يطالب الحطاب بقراءتها في غالبية المهرجانات التي يدعى للاشتراك فيها سواء من قبل الجمهور او الهيآت التنظيمية وباصرار، وأعني هنا قصيدة ” زهرة نرسيس” والتي ضمنها الناقد في فصله الثالث، واشبعها بحثا من الجانب النفسي والعاطفي، ولعلّ من المتعة ان أذكر النص هنا :
(..كل من عاشر امرأة
دون اذني
عدوي !!
كل من عاشرت رجلا
ليس يشبهني
خائنة !!
انا ودّ الاله على الارض
معجزتي
انني بالمحبة اغوي الحياة
لي : كل النساء – فقط
وللاخرين
الذي
قد تبقى من الكائنات )!!.
ويستحضرني قول للدكتورة الناقدة “دجلة السماوي” استقطعه من دراستها الطويلة عن القصيدة النرسيسية، حيث تصف السماوي الشاعر الحطاب بانّه في هذه القصيدة قد (نصّب نفسه حاكما عسكريا لقضية المرأة) مضيفة ان “جواد الحطاب قد صاغ بأقتدار مشهود له قصيدة غرائبية فشكل ذلك رصيدا جديدا من الابتكار يضعه ضمن طليعة المبدعين المبتكرين في لعبه بالكلمات” وهو ما توصّل اليه الناقد حسين سرمك كذلك.
7-
الفصل ما قبل الاخير( دماء على قباب مذهبة ) هو تحليل لقصيدة ( استغاثة الآعزل ) قصيدة الرثاء الكبيرة للشهيدة أطوار بهجت، وقد كان د حسين سرمك منصفا حين وصف تلك المرثية بالمرعبة، وهو يشير الى حجم الآلم الذي سكبه الحطاب في نص مائز، في يوم غريب على تقاويم ايامنا ليظهر بجلاء عري القيم الجديدة في زمن ما بعد السقوط وارتفاع اسهم القتل في بورصة الارهاب، والسقوط المدوي لها (ما أنتن الرجولة حين تنفرد بامراة عزلاء) في مكان يحمل قدسية ومهابة من المفروض ان تراعى فيه حرمة الدم، وخصوصا دم النساء البريئات.
قصيدة الشهيدة مؤشر على ذلك المنحى التصاعدي لفجائعنا فاختيار العنوان ( استغاثة الأعزل ) له دلالاته الرمزية في وطن يفخخ نفسه كل يوم ( القادمون من العتمة – الهواة بسمكرة الأجساد – نصبوا الكمائن للغزالة— وتراهنوا : خارطة العراق على صدرها –ذهب –أم شبه –السمكريون الهواة –اشتغلوا بغطرسة – على جسد الغزالة – واكتشفوا— ان الخرائط – من – بهجة وأطوار ) هذه القصيدة من المراثي الخالدة التي توقف عندها النقاد ومتابعو شعر جواد الحطّاب، لأنه حمل فيها عروش العصافير ومشى فوق شرايين المدينة المستباحة في فضاء محتقن ولا يبدو عبثيا السؤال المرعب الذي أطلقته القصيدة :من اين جاء طوفان الحقد والهمجية والقتل على الهوية في عراق الانبياء والرسل والأديان السماوية؟!!
ومثلما يوزن الحطاب مفردات قصائده بعناية ودقه دون إسراف او مغالاة، منحنا الحوار بينه وبين سرمك افاقا جديدة عن رؤية الشاعر لكثير من قضايا الشعر، والنثر، والموت، والحرب، الحرب التي أجاب صراحة انه لم ينتم اليها, بقدر ما انتمى للفقراء الذين تقاسم معهم على السواتر الرغيف، والشظايا، لأنهم معين قصائده الذي لم يزل ينهل منه.
….
ختاما..
تحية اعجاب كبيرة للناقد الكبير حسين سرمك وهو يضيف لمكتباتنا سفرا نقديا عن الحطاب الذي بات محط الدراسات الاكاديمية داخل العراق وخارجه.