بقلم: ادريس جبور
تمهيد
تعتبر الرواية نوعا أدبيا مهما في مجال الإبداع الأدبي، فهي النوع الأدبي الذي يظل حيا وحيويا وقابلا للتطور والتحول والتغيير. كما أن الرواية تنفتح على معظم المجالات المعرفية المتعددة بما فيها التاريخ.
وإذ نعتبر رواية ” تراتيل أمازيغية ” للروائي المغربي مصطفى لغتيري نموذجا لاستلهام التاريخ الأمازيغي، فإننا سنركز في دراستنا هاته على الدواعي التي تسوغ صياغة التاريخي تخييلا، ومحاولة تأويل هذا الحضور التاريخي في الرواية، فما تجليات التاريخ في الرواية؟ وكيف حول الكاتب المعرفة التاريخية إلى الصياغة السردية الروائية؟ وما أنواع التراث المستلهمة من التاريخ الأمازيغي في الرواية؟
1ـ حول الرواية والتاريخ
شكل التاريخ والتاريخ الأمازيغي خاصة في الآونة الأخيرة في المشهد الأدبي المغربي قضية أساس انبرى لها جملة من النقاد والباحثين تناولها معظمهم وربطوها بجنس الرواية التي تعتبر التاريخ مرجعها الأساس، فمنه يتأسس موضوع السرد، وبالتخييل تصاغ المعرفة التاريخية من قبل الروائيين.
في سياق الحديث عن التاريخ والرواية يقترح الناقد العراقي عبد الله إبراهيم في مقدمة كتابه الموسوم ب” التخيل التاريخي، السرد والإمبراطوية والتجربة الاستعمارية”، مصطلح ” التخيل التاريخي، واعتبره اقتراحا بديلا لمصطلح الرواية التاريخية، والذي من شأنه سيلغي الفوارق الشكلية بين الرواية والتاريخ، والدفع بالكتابة السردية التاريخية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية التي تؤكد على مبدأ تمايز كل نوع أدبي على حدة، وانفراده بخصائصه الفنية، وقد ساد في الماضي الاعتقاد بوجود الاختلاف والتباين بين الحقائق المستقرة في الماضي (التاريخ)، والرواية باعتبارها عملا تخييليا يقدم صورة وتمثيلا لما هو كائن في الوجود.
يعرف عبد الله إبراهيم التخيل التاريخي بالمادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، والتي انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية بل صارت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية، وهو بذلك لا ينقل الماضي بأحداثه ووقائعه حرفيا، بل يتم التعبير عنه بناء على العلاقة الوثيقة القائمة بين السرد التخييلي، والتاريخ المدعم بالوثائق، ومن هنا ينسجم الحقيقي بالخيالي في بناء معرفة عن الماضي. لذا فقد صرح أنه آن الأوان لكي يحل مصطلح ” التخيل التاريخي” محل مصطلح ” الرواية التاريخية “، فهذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية التاريخية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية، وحدودها، ووظائفها، ثم إنه يفكك الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة ” .
يبين عبد الله إبراهيم أن التاريخ والرواية يتقاطعان في الكثير من العلاقات، ووضح أن هذا التقاطع سيجهز على الثنائية القائلة باختلافهما الكلي، فقوتهما تكمن في إعادة تصوير الزمان.
يبرز أيضا أنه من الصعب الاستسلام لتك التصورات الأولى لوظيفية الرواية التاريخية التي تكتفي بجرد حرفي للأحداث والوقائع الماضية، وهذا هو الطرح الذي أسسه جورجي زيدان وأتباعه، وقد اعتبر عبد الله إبراهيم أن الرواية التاريخية استنزفت طاقتها الوصفية، بعد أن جرت مجموعة من التغيرات الجذرية على الكتابة التاريخية السردية، وتجاوزت بذلك النمطية والنقل في تصوير التاريخ.
يتضح مما سبق، إذن، أن عبد الله إبراهيم حاول خلق نمط جديد من الكتابة، باستخدامه لمصطلح التخيل التاريخي بدل الرواية التاريخية، فهو يرى بأن هناك مجموعة من الوشائج والصلات التفاعلية بين التاريخ والسرد، والطريقة الجديدة في الكتابة عنده هو الدمج بينهما، أي محاولة تصوير التاريخ بالتركيز على تخييله، لا إعادة نقله كما هو وارد لكتاب الرواية التاريخية.
في مقابل الرؤية النقدية التي دعا إليها عبد الله إبراهيم، يقدم سعيد يقين اقتراحا بديلا يقر فيه على تمايز التاريخ عن الرواية، ومصطلح التخيل التاريخي في نظره لا يقدم بديلا جديدا في هذا الإطار رغم أن صاحبه يزعم أنه يفك الفوارق الحاصلة التاريخ والرواية، مؤكدا ” أن التاريخ يقوم على “المطابقة مع الواقع”، بينما تذهب الرواية نحو ” التخييل ” وهو جوهر السرد الحكائي” .
2ـ استلهام التراث اللامادي في رواية “تراتيل أمازيغية”
2ـ1 التراث الأدبي والعلمي.
يعتبر التراث الأدبي والعلمي في الثقافة الأمازيغية دافعا رئيسا يدفعنا إلى البحث في تاريخ هذا المكون الذي، شكل مركز الهوية المغربية الغنية بأجناسها العديدة ولغاتها الكثيرة وثقافاتها المختلفة، والأدب كما جرى في تقاليد الشعوب العريقة فقد كان مصدر فخر واعتزاز لكل الحضارات الإنسانية. ففي ثقافتنا العربية تحدث عمر بن الخطاب عن أهمية ريادة العرب في القول الشعري و لمكانتهم المرموقة في فنون الكلام المنظوم الذي مجده العرب منذ عصور غابرة. ومما قاله الصحابي الجليل تمجيدا للشعر وتأكيدا على مركزيته لدى أهل لغة الضاد، الذي له صلة بكل ما يشكل أساس الحضارات والشعوب السالفة: ” كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه ” ، أما بخصوص أكبر شاعر عربي حظي باهتمام كبير عند النقاد فهو الآخر يفصح في شعره عن تميزه وتألقه في الكتابة الشعرية. هذا ما تجلى وبكيفية بارزة في أشهر منظومه الذي يقول فيه:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أسس الأمازيغ حضارتهم على خلفية علمية وأدبية كان لها أثر بالغ في قوة الهوية الأمازيغية في المغرب وفي شمال إفريقيا.
إن الرواية عبر استجلاء شخصياتها الرئيسة والوقوف عند خصوصياتها لمؤشر دال يجعلنا نقر باعتزاز الثقافة الأمازيغية بالأدب والعلم، واعتبارهما ملمحين جوهريين يؤكدان انتماء الأمازيغ إلى صنف الشعوب المقدسة للعلوم والفنون وكل ما له علاقة بالتراث اللامادي والمعنوي الذي يشكل كنه العمق الإنساني وجوهره، نقرأ في الرواية على لسان العالم الحكيم يفاو:
” … بل غدوت متمكنا من كتابة بعض ما يخطر في الذهن من هواجس وأفكار … كنت في فترات معينة أطلع عليها الحكيم، ” يفاو ” يقرأها، فيستقر في عينيه حزن، لا يكاد يعلن عن نفسه.
حين تكرر ذلك، سألته ذات يوم:
ـ لم كلما قرأت ما أكتبه يتملكك الحزن؟
ـ اسمع يا بني. إنك ستكون ملكا في المستقبل، وما تكتبه يشي بروح شاعر، يهيم في الطبيعة والتوق إلى العدل والمساواة بين الناس، إن هذا الأمر لا يستقيم .. مهنتك المستقبلية تتطلب منك حزما وصرامة، وقوة وصلابة … أن تكون شاعرا أيها ” الملك الصغير ” يعني أن تضيع ملكك وملك أجدادك ” .
واضح إذن من خلال المقطع السردي أعلاه أنه يفصح عن موهبة أدبية شعرية خلق بها الأمير الأمازيغي غيلاس، وهو على غير عادة الملوك والسلاطين الذين يعرفون بالقوة والسلطة والصرامة في تدبير شؤون الرعية والمجتمع.
لذا فإن الرواية في شخصية غيلاس فإنها تقدم صورة مغايرة لما عهدناه في السلاطين والقواد، وبالتالي فإن الكاتب أبرز المواهب الشعرية وعلو كعب الأمير في الشعر كتابة. ومن هنا يظهر لنا التاريخ الجديد الذي يكتبه الكاتب تخييلا في أحداث هذا المتن السردي الذي عمل على النبش والتنقيب في المنسي في صورة الزعيم الأمازيغي الذي خالف المعهود في من يتولى ويقود الرعية ويدبر شؤونها. بمعنى أن الرواية في هذا الصدد فإنها ” تجاوز هذا الفهم التراثي للتراث إلى فهم حداثي، وإلى رؤية عصرية له. فالحداثة، في نظرنا لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه ب ” المعاصرة ” .
اعتبر الكاتب الملك غيلاس شخصية رئيسة في الرواية ليعطيه الأهمية القصوى في الحديث عنه نظرا لخصاله الحميدة الإنسانية كالعدل والمساواة بين الناس من جهة، ونظرا لإبداعاته الشعرية التي تنم عن ميلاد شاعر فحل يكون له شأن عظيم في فن الإبداع الشعري مستقبلا. لذا فإن الكاتب وهو يعود إلى القضية الأمازيغية فإنه يخرجها ” من بعدها الإيديولوجي والسياسي ليركز على ثرائها الثقافي الذي يضيع في غياب التوثيق والتأليف الذي لم يبدأ إلا مؤخرا عبر مجموعة من الباحثين الذين حملوا على عاتقهم هذا الهم الثقافي” .
إن عودة الكاتب إلى التاريخ الأمازيغي لمحاولة لتلميع صورة الأمازيغ في بعدها الحضاري أي ما الذي يجعل من حضارة الأمازيغ حضارة قوية وبارزة، إنه التراث العلمي والأدبي خاصة، وقد وردت في الرواية أبيات شعرية من منظوم أحد الشعراء الذين مدحوا الأمير غيلاس في يوم عرسه وزواجه بتوسمان:
” غيلاس أيها الملك العظيم
غيلاس شبل عظيم
رضع حليب الشجاعة
من ثدي الأمازيغ الأبية تمغزا ”
إن رهان الكاتب في متنه الروائي هذا أن يدفع بغيلاس ليكون الصورة الأمثل للأمير الأمازيغي الشاعر والعادل والرافض للاستبداد والتسلط والقهر، فهو الذي عبر أنه يرفض أن يعتبر أوسمان عبيدا كما فعل الرومان، وهذا ما تقوله الرواية بلسانه:
” قلت له حاسما:
ـ لا أريد عبيدا.
أما عن مواهبه في الشعر فقد استطاع أن يخلو بنفسه في سبيل التألق في ميدان الخلق الشعري الجيد.
” تلك الحالات كل التي كانت تدفعني دفعا نحو الابتعاد عن الناس، وحمل القلم، الذي أصبحت قادرا عل صنعه من القصب، وأخذ قطعة من الجلد، ثم أشرع في كتابة ما يتداعى
في خاطري من أفكار وأحلام وتمنيات … ” .
كما أن شخصية الحكيم والعالم “يفاو” تثبت ارتباط الشخصية الأمازيغية الخبيرة في الحياة والتي راكمت تجارب عدة بالعلم والحكمة، فقد كان “يفاو” نموذجا للإنسان الزاهد والعالم بتقاليد الشعوب التي عايشت الأمازيغ قبل بزوغ الإسلام، وكان مطلعا على أخبار الثقافات والشعوب، فتعلم لغاتهم وتشرب من عوائدهم. وكان مرجعا أساسا لغيلاس وأوسمان حين يرتشفان من علمه الغزيز ومعينه الذي لا ينضب.
” لقد كان الحكيم ” يفاو” رجلا طاعنا في السن، غير أن له سمت رجل شاب .. عيناه متألقتان بوهج المعرفة، الذي لا يخفى على النظر، لا أمل من التطلع إلى تلك العينين النيرتين … كان الحكيم ” يفاو” يعلم عن الدنيا أكثر من أي شخص آخر عرفته” .
2ـ2 التراث الشعبي
وظف الكاتب الحكاية الشعبية في الرواية لتكسير رتابة السرد التقليدي الذي ينبني على سرد الوقائع والأحداث بحبكة يسير فيها الزمن بشكل منطقي و تصاعدي، إن الحكي الشعبي الذي يكون متداولا عند الشرائح الاجتماعية البسيطة شكل وسيلة مهمة في سبك وقائع هذا المتن الروائي الذي، اتخذ من التاريخ الأمازيغي مرجعه وخلفيته الرئيسة.
جاء في الرواية أن الملك غيلاس حين كان طفلا صغيرا استفسر جدته عن الحماية الذتي حظي بها أبناء الملوك والسلاطين، وعن الولاء والطاعة التي يكنها المجتمع برمته للملك ولأسرته الملكية. لم تجد الجدة سوى الحكاية الشعبية أمامها لتقديم جواب شاف وكاف يروي عطش الملك الصغير ويسد رمقه، نقرأ في الرواية ما جاء على لسانها، مجيبة عن سؤال غيلاس: ” تعرف أيها الملك الصغير أن مملكتنا تقع على مشارف الجبل، وتتمدد أراضيها حتى النهر الذي لا يعرف أحد من أين ينبع، ولا أين يصب، لكنني أنا أعرف أنه هدية لنا خصتنا به الآلهة دون غيرنا من المماليك، التي تعيش قحطا مستمرا …
في تلك الجبال الشامخة تنتشر كهوف بلا حصر، تعيش فيها الأرواح المقدسة، أرواح أجدادك منذ غابر الأزمان، ورغم قوتها التي لا يمكن أن تضاهى، فإنها ما إن تتحول إلى حيوان ما وتغادر الكهف، حتى تفقد قوتها السحرية وتصبح معرضة للأخطار من كل نوع ”
إن هاجس استحضار الحكاية الشعبية في المقطع السردي أعلاه، لم يكن وظيفة شكلية وفنية، بقدر ما كان اعتمادها مبنيا على مقاصد دلالية تخدم المضمر في دلالات الرواية، والتي، تبعث الضوء على مصدر الملك الذي منح به أجداد الملك غيلاس والذي قدم لهم هدية من الآلهة والقوى الخارقة والساحرة القوية التي لا تضاهى ولا تقارع قوتها وهيمنتها.
عوض أن يقدم الكاتب فقرة تاريخية تقريرية اختلق لها سياقا سرديا أدمجها بسلاسة في متن الرواية، وحولها من وثيقة تاريخية إلى نص سردي تخييلي، وبالتالي يكون قد حقق غايتين: سردية جمالية، ونفعية، بغض النظر عن حقيقة ما تم سرده من كذبه… وربما هذا هو الفرق بين التاريخ والتخييل؛ ذلك أن التاريخ يقرأ بمنطق الصدق والكذب بينما يتعالى التخييل عن هذا المنطق.
اتضح من سرود الرواية أن العائلة الملكية الضاربة في القدم لغيلاس تمتلك ملكا وتراثا طبيعيا عظيما قل نظيره عند المماليك الأخرى التي ذاقت مرارة البؤس والقحط والجفاف. وبالتالي فحكاية الجدة في هذا الصدد قدمت صورة عن مصادر التراث المادي الذي، يتمتع به الملك الأمازيغي، بمعنى أنها تقنية سردية أدت وظيفة دلالية عبر فيها الكاتب عن الهيمنة الشديدة للملوك على كل الامتيازات المادية. بمعنى أن حكاية الجدة في هذا المقام صورت لنا ثقافة أسلاف الملك غيلاس الذين يعرفون بالسلطة والاستبداد المفضيين إلى احتكار الثروات. علما أن مصدر أملاكهم وثرواتهم وهم وتضليل، نقرأ في الرواية: ” تسللت يوما روح تائهة إلى جسد خنزير بري، ومضت في طريقها تنتقل من مكان إلى مكان آخر…” .
من خلال هذا السرد المقتطف من الرواية يبدو جليا أن حكاية الجدة لا تكاد تخرج عن إطار الخرافة التي يصعب تكهن أحداثها في الواقع، رغم أن الذاكرة الشعبية تستبطن أحداثها، وأضحت تفسر قوة الملوك وعظامة ملكهم. من هذا المنطق يتضح أن الكاتب استحضر هذه الخرافة والحكاية الشعبية لينتقدها ويكذبها، محاولا في ذلك بيان مظاهر التسلط والقهر التي تمارس على الطبقات الاجتماعية في العهد القديم للملوك الأمازيغية. فإذا نظرنا إلى الملك غيلاس فإننا سنلاحظ الاختلاف البين والتباين الظاهر بينه وبين أجداده، فهو الذي لم يسلك طريق أجداده في أمور الحكم والقيادة السياسية، ليكون بذلك طفرة جديدة يتخذ فيها القيادة بالعدل والمساواة مبدأه الرئيس والكفيل في تدبير أمور القوم وخدمة مصالح العامة التي تعد أمانة ملقاة على عاتقه. وبالتالي فإننا نقترب من رهان الكاتب في الرواية الذي يتمثل تكسير نمطية القائد المستبد والسلطوي إلى القائد الحكيم والعادل والمتفهم الذي يراعي المصلحة العامة في المقام الأول.
2ـ 3 التراث الأسطوري
يعد التراث الأسطوري في الخطاب الروائي المعاصر والمغربي خاصة عنصرا مهما يتم الاستناد إليه في تدوين أحداث الرواية التي، تستقي من التاريخ ويكون سندها الأول والرئيس. كما أن الأساطير أيضا تشكل ملمحا نتعرف من خلالها على خصوصيات تلك الحقبة التاريخية التي أراد لها الروائي العودة عبر الرواية ولكن بوعي ونفس جديدين.
يتخذ تراث الأسطورة في الرواية شكلين اثنين عبر الكاتب خلالهما عن مميزات الحضارة الرومانية التي عسكرت في أرض الأمازيغ وسيطرت عليها، محاولة إلغاء الوجود الأمازيغي في الوجود الإفريقي الشمالي. لذا فإن الرواية استحضرت جملة من الأساطير الرومانية القديمة، كالإله باخوس باعتباره إله الخمر عند الرومان، الذي اقتفى الرومانيون أثره وقلدوه في فعله، كي يقدموا له البيعة والولاء والطاعة، وهذا ما يتبدى بشكل واضح في إدمان القوم على شرب الخمر. ” حضر في الذهن آنذاك باخوس إله الخمر عن الرومان، فلم أستغرب من إقبال القوم على الشرب بهذه الشهية وإسرافهم في تعاطيه، وكأنهم يمارسون طقسا دينيا للتقرب من أحد آلهتهم، إله الخمر…”
إن استحضار هذه الأسطورة لمؤشر دال بتعلق الرومان بإرثهم الأسطوري وتشبتهم به، محاولة منهم لإحيائه واعتباره عادة وطقسا يصعب التفريط فيه، لكن الأسطورة إذا أمعنا فيها النظر وتأملناها يمكن أن يفضي بنا الأمر إلى مساءلتها واستشكالها واستفهامها، وهذا ما نجده في قول الكاتب لغتيري: ” من يرى القائد وهو يفاعل مع الموسيقى والرقص والغناء ويقبل على الشرب بكل هذا الشوق، لا يصدق أبدا أنه نفس القائد، الذي كان إلى وقت قريب يفرض سطوته على القلعة” .
إن الكاتب في المقطع السردي، يمارس نوعا من النقد والمسألة والاستفسار النقديين، من أجل البحث والتنقيب في ناحية قد همشت في كتب التاريخ، وتأتي الرواية لتملأ البياضات، وتميط اللثام عن الأمور الغامضة غير الواضحة، والتي ربما تقطن في الأماكن الأكثر عتمة، ولم تلق سبيلها بعد نحو الظهور والبيان. وتتمثل هذه القضية بالذات في ما مدى مصداقية هذه الأساطير؟ وهل بالفعل احتسى القائد والقوم معه الخمر حد الثمالة؟ أم أن الأمر لا يكاد يخرج عما هو مستبطن في اللاوعي الشعبي؟ علما أن حدث الأسطورة يكون خاضعا للتحريف والأكاذيب والمغالطات.
3ـ حضور التراث المادي في الرواية
تحضر في الرواية جملة من مواد التراث المادي الملموس الذي تزخر به الثقافة الأمازيغية، والذي له صلة بخصوصيات فضاءات أرض الأمازيغ التي، تعرضت للنهب والاستلاب الشديدين من لدن الحضارة الرومانية التي استطاعت أن تقيم في موطن الأمازيغ المغاربة في زمن عصر ما قبل الإسلام. تفصح الرواية في أكثر من موضع أن أراضي الأمازيغ تتميز بطبيعة خلابة وخصبة، تشكل إرثا طبيعيا تتوارثه الأجيال الأمازيغية فيما بينها، للحفاظ على تقاليد أسلافها المولعين بالطبيعة والمهتمين بها.
” لقد كانوا دقيقين وأذكياء في اختيار المكان، الذي استقروا فيه على ضفة النهر، غير بعيد عن شاطئ البحر، في أرض خصبة وافرة العطاء … من بعيد لمحنا طابورا من الجنود يقومون بتمارينهم اليومية” .
إن خصوبة الأراضي الزراعية للأمازيغ وروعة مناظرها الخلابة التي تسلب العقول، وتجذب الأنظار وتسرهما؛ لخيراتها وثمارها اليانعة، شكلت هدف الرومان، لذا فإنهم فضلوا أن يعسكروا في المناطق الطبيعية الأكثر خصوبة دون غيرها. من هنا تتبدى لنا أهمية الكنز الطبيعي الذي حظي به الأمازيغ ورزقوا به، وما يثبت مركزيته هنا هو التهافت المبالغ فيه الذي يوحي بأطماع الحضارة الرومانية إيمانا منها بأن لا وطن من دون طبيعية خلابة ويانعة.
هذا بالإضافة إلى أن الرواية تحمل في طياتها مجموعة من الإشارات التي ترسم صورة عن بعض مواد التراث المادي وكل ما يشكل تقاليد الأمازيغ في الأفراح والمناسبات. حين يسرد الكاتب تفاصيل عرس الملك غيلاس الذي يقتضي المنطق أن يكون عرسا تاريخيا، يليق بمكانة الملوك وعلية القوم. ولذلك فقد أعد غيلاس العدة لهذا الزواج من ابنة الملك الإفريقي شيشنق كما يصرح بذلك في الرواية:
“بدأت الاستعدادات للعرس، أرسلت وفودا إلى جميع القبائل والمماليك الأمازيغية. فلم يمض زمن طويل حتى بدأت مملكتنا تستقبل وفودا من المماليك القريبة والبعيدة. لقد حرص الجميع على المشاركة في العرس، وكأن الأمر يتعلق بأكثر من مجرد عرس زواج…”.
4ـ كتابة التاريخ بالسرد السير ذاتي
سعى الكاتب لغتيري في روايته هاته إلى بيان المنسي والمهمش في التاريخ الأمازيغي، وما لم تقله كتب التاريخ التي اهتمت به دراسة وجمعا وتأريخا، لذا فإن المؤرخ يعنى بجمع المادة التاريخية في سجلات تشكل الذاكرة المرجعية للهوية الأمازيغية المغربية منذ مراحل تاريخية عتيقة، أي، قبل ظهور شمس الإسلام على يد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
لكن الأديب والروائي على وجه التحديد فإنه تجاوز هذه النظرة الضيقة للحدث التاريخي التي تختزله في الجمع والتأريخ، ليكون رهانه الرئيس في كتابة التاريخ روائيا هو مساءلته والتعامل معه بأسئلة حضارية جديدة وبوعي مغاير يتلاءم مع خصوصيات الفترة الزمنية التي أعيد فيها كتابة التاريخ الأمازيغي.
إن تحويل المادة التاريخية إلى عمل إبداعي سردي اقتضى من الكتاب الامتثال إلى الشروط والقواعد التي تحكم منطق الكتابة الروائية، لذا نجده كتب عن تاريخ الأمازيغ في مرحلة ما قبل الإسلام وعن حربهم الحارقة ضد الرومان، والتي صارت مهزومة في الحرب، بعدما تطاولت على أسرة الملك غيلاس، حين اختطفوا زوجته ذات الأصل الإفريقي. هكذا نستخلص أن الكاتب عمد إلى كتابة هذا التاريخ بالتركيز أساسا على شخصية الملك غيلاس وجعله من يتحدث ويتكلم في أغلب المحطات السردية في متن هذه الرواية.
اعتبر الكاتب الحكي بطريقة السير ذاتي أهم الوسائل الفنية السردية في عمليات نقل التاريخ الأمازيغي من وظيفته التوثيقية إلى غاية أخرى هي كتابته إبداعيا على شكل رواية كان التخييل (التخيل) مركزها ووجهتها المثلى.
من البديهي أن كل من قرأ بدايات الرواية يلاحظ أن وقائعها حكيت بضمير المتكلم الذي يكون مسلك السيرة الذاتية في السرد، مع العلم أن هذه الأخيرة يقصد بها ” سرد بضمير المتكلم لسارد حقيقي يحمل اسم العلم الذي عرف به، ويمارس، في الوقت ذاته، السرد والبطولة داخل النص” ، بمعنى أن الكاتب هو السارد نفسه في السيرة الذاتية، ويصرح بعلمه واسمه الحقيقي ليدرك القراء أن من يسرد هو الكاتب ذاته. منه تتجلى بوضوح تام أهمية الحكي بضمير المتكلم في حديث الكاتب عن حياته الشخصية. لكن ما جدوى حضور ضمير المتكلم في الرواية؟ وهل يحق لنا أن ندرج هذا المتن السردي ضمن النوع الأدبي للسيرة الذاتية؟ إذا كان الأمر مباحا، قد تفنده صورة الغلاف التي تحتوي على معطيات توثيقية للكتاب من العنوان والمؤلف والنوع الأدبي الذي هو الرواية في حقيقية الأمر وليس السيرة الذاتية.
تقتضي السيرة الذاتية من كاتبها التصريح والوضوح، أي أنها لم تعد مقتصرة على ” السيرة الحسنة “، بل أصبح كاتبها مطالبا بأن يكون صادقاـ وهذا من الأخلاق الحسنة أيضاـ في مخاطبته للقارئ، أثناء كتابته لسيرته أو ترجمته، علما أن الصدق يخضع لكوابح عديدة أخلاقية ونفسية ” . من هنا تجلى لنا أهمية التصريح في السيرة الذاتية حتى لو تعلق الأمر بالطابو أي المحرم و القضايا الأخلاقية ذات الصلة بكاتب السيرة الذاتية.
إن رواية “تراتيل أمازيغية” غنية بالتصريح عبر الحكي السير الذاتي، يؤشر على وجوده قول الكاتب:
” أسقطت الفتى أرضا، فتمكنت من التغلب عليه .. لقد كان بالقرب منا أحد جنود أبي، يتتبع عن كثب كل ما يحدث لي .. حين لاحظ ما يحدث لي، تسلل نحونا، فامتدت يده نحو الصبي، ضغط عليه بقوة، فارتخت قبضته، وبطريقة ما سقط أرضا .. وهكذا انتصرت انتصارا مغشوشا، لكنه انتصار أنقذ مكانتي لدى الأطفال من حولي، لقد فسر الجميع الأمر بأن” الملك الصغير” لا يقهر أبدا، وأن الآلهة تتدخل دوما لإنقاذه بطريقة من الطرق …”
فالمعتاد أن يفخر الابن الملك بإرث أجداده، ويكيل لهم المدح والتبجيل والإجلال والتعظيم. لكن الملك العادل صاحب القيم الحسنة والخصال النبيلة الإنسانية، يعترف بالتسلط والتجبر وكل مظاهر القهر والاستبداد، التي يمارسها أجداده الملوك على المحكومين ويتوارثونها عبر الأجيال. اعترف غيلاس أن فوزه على الأطفال في صغره كان انتصارا ظالما ومغشوشا، بسبب تدخل الجنود الذين صيروا الهزيمة المحققة له إلى فوز كان الطفل الشجاع الذي قارعه في نزال ندي، حتما سينتصر فيه ابن الملك حفاظا على كبرياء الملوك وقوتهم التي لا تضاهى.
إن الحكي بضمير المتكلم لتقنية استراتيجية في هذه الرواية للبوح والاعتراف الذي تنشده الكتابة الذاتية، بمعنى أن الكاتب عمد إلى توظيف الملك غيلاس وجعله محور السرد، ومنحه وظيفة البطولة والريادة؛ لأنه الشخصية تدور حولها جميع الأحداث، وأكثرها حضورها في معظم المراحل السردية لهاته الرواية التي، كشف المستور في كتب التاريخ فيما يتعلق بمظاهر التسلط والقوة التي يتبناها الملوك في فترة ما قبل الإسلام في تدبيرهم للشأن العام، في مقابل ذلك تتبدى صورة الملك العادل والمنشد للكرامة وكل القيم الإنسانية التي يسمو به الحكام وتعلو منزلتهم بوضوح في شخصية الملك غيلاس.
خاتمة..
ختاما، اتضح جليا في ـ هذه الدراسة ـ أن رواية ” تراتيل أمازيغية ” عرضت لحظات من تاريخ الأمازيغ قبل الإسلام عبر التخييل السردي الروائي، الذي نقل الحدث التاريخي التوثيقي إلى الحدث الروائي التخييلي عبر شخصيات تخييلية ورقية تجردت من طابعها التاريخي الواقعي.
تبين أن الكاتب وهو يكتب روايته يعود إلى التاريخ الأمازيغي الذي استلهمه وصبه في قوالب فنية وجمالية وفق ما تقتضيه الرواية المغربية المعاصرة، التي حملت على عاتقها سؤال التجديد والتغيير في بنية الإبداع الروائي.
إن الكاتب وهو يعود إلى التراث الأمازيغي يركز على طابعه الثقافي والعلمي الذي كان مهمشا ومغيبا في كتب التاريخ، وبالتالي فإن رهانه يكمن في تلميع صورة الشعب الأمازيغي الذي بينت الرواية معالمه المبنية على أسس علمية وثقافية كما هو الشأن في شخصيتي الملك “غيلاس” وعالمه “يفاو”.
في سبيل توضيح هذه الرؤية، استند الكاتب إلى جملة من المقومات السردية كالأساطير القديمة والحكايات الشعبية، كل هذه العناصر جردت الأحداث التاريخية من مرجعيتها التوثيقية لتحولها إلى عمل روائي يفصح عن المهمش في تاريخ الأم. تاريخ الأمازيغ.