16 نوفمبر، 2024 6:33 م
Search
Close this search box.

“ستيفان زفايغ” .. قدس الحرية الفردية وأنهى حياته بعد فراغ صبره في إنتظارها !

“ستيفان زفايغ” .. قدس الحرية الفردية وأنهى حياته بعد فراغ صبره في إنتظارها !

خاص : كتبت – سماح عادل :

“ستيفان زفايغ” كاتب نمساوي.. ولد في “فيينا” عام 1881، وحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة بأطروحة عن الناقد الفرنسي الشهير “تين”، كما فاز بجائزة “بوير نفليد” للشعر، وهي إحدى الجوائز الرفيعة في النمسا وقت ذاك، كتب الشعر وترجم بعض الأعمال الأدبية وألف قصص وروايات ومسرحيات.. قال عنه الروائي الفرنسي “غول رومانس”: “أنه أحد المفكرين السبعة الأكثر عمقاً في أوروبا بأسرها”.

دائم الترحال..

ذهب عام 1904 إلى باريس، حيث أقام مدة طويلة، وارتبط بصداقة مع عدد كبير من الكتاب الفرنسيين، خاصة “غول رومانس”، ثم عاش فترة في بلجيكا، حيث زار الشاعر “فرهايرن”، وترجم حياته فيما بعد، وتنقل بعد ذلك في إيطاليا وإسبانيا وإفريقيا وإنكلترا وأميركا وكندا والمكسيك وكوبا؛ وقضى في الهند عاماً كاملاً، فقد كان شغوفاً بالتعامل مع الشعوب الأخرى، والتعرف على ثقافاتهم وآدابهم.

كان “ستيفان زفايغ” نهماً في القراءة؛ كما كان غزيراً في إنتاجه الأدبي والفكري.. يقول عن ذلك: “إني لا أتذكر، بالرغم من سائر الجهود الطيبة التي بذلها، أني اشتغلت أثناء تلك المدة ولكن الوقائع تناقض ذلك، ما دمت قد ألفت كتباً عديدة، ووضعت مسرحيات مثلت جميعاً في كل مسارح ألمانيا تقريباً، وفي الخارج أيضاً حتى درجة بعيدة”.

كان ” زفايغ” يترجم أعمال “بودلير” و”فرلين” و”رامبو” و”فرهايرن” و”سوياريس” و”رومان رولان”، وقد تسببت الحرب العالمية الأولى في جرح عميقاً لديه، فقد كان محباً للسلام يؤمن بجماعية أوروبا الفكرية، وقد لجأ في 1919 إلى مدينة “سالزبورغ” الصغيرة في النمسا وقضى فيها 20 عاماً تتخللها أسفاره إلى بلدان أخرى، وفي أقل من عشر سنوات نشر “زفايغ” عشرات من القصص والروايات، وعدد كبير من الدراسات عن “ديستوفسكي” و”تولستوي” و”نيتشه” و”فرويد” و”ستندال” والشاعرة الفرنسية “مارسولن ديبورد فالمور” و”فرهايرن” و”بلزاك”، وقام بعمل سلسلة كتابات تاريخية عن “فوشيه” و”ماري إنطوانيت” و”ماغلان”.. كان “زفايغ” يعتبر أن الأدب وسيلة لتمجيد الحياة، وسيلة للقبض على بعدها المأساوي بشكل أكثر وضوحاً.

شهرته في فرنسا..

يقول عنه الأديب الفرنسي “رومان رولان” في عام 1926 حين أخذ الناس في فرنسا يقبلون على مؤلفات “زفايغ” بصورة تفوق الوصف: “ليس استيفان زفايغ واحداً من أولئك الكتاب الذين لم يرفعوا فوق المستوى العادي إلا بأمواج الحرب، وبالجهد البائس المبذول لمقاومتها، بل هو بالأحرى ذلك الفنان الذي ولد فناناً، والذي تستقل عنده الطاقة الخلاقة عن الحرب وعن السلم وعن سائر الشروط الخارجية الأخرى، فهو وجد كي يبدع، وهو شاعر حسب المفهوم الجوني، حيث الحياة مادة الفن بالنسبة إليه، والفن لديه هو تلك النظرة التي يرسلها في صميم الحياة، إنه ليس بتابع لأي شيء كان، وليس بغريب عنه، لا شكل من أشكال الفن ولا شكل من أشكال الحياة، يقولون أن الود هو مفتاح المعرفة وهذا صحيح بالنسبة لزفايغ، ولكن العكس صحيح أيضاً إن المعرفة هي مفتاح الود، إنه يحب بالعقل ويفهم بالقلب، فإذا بالعقل والقلب اللذان يختلطان معاً يضيفان على الفضول الإنساني اللاهب مميزات الهوى الجسدي كما نعرفه عن بطل (أموك) مثلاً”.

و(أموك) هي رواية شهيرة لـ”زفايغ”.

صعود النازية في أوروبا..

حين استولى “هتلر” على الحكم في ألمانيا وراحت أعمال العنف ضد المتمردين تتكرر دون إنقطاع، وما لبثت أن اجتاحت النازية النمسا، فاضطر “زفايع” إلى مغادرة بلاده إلى إنكلترا، ثمه تنقل بين أميركا الشمالية والبرازيل وإنكلترا والنمسا، حيث عذب النازيون أمه حتى الموت، وذهب إلى فرنسا ساعياً وراء الاستقرار والطمأنينة، ثم أشتعلت الحرب وهزمت فرنسا، وكان هذا ما يخشاه “زفايغ”، ثم أصبحت أوروبا نفسها جحيماً، يقول “زفايغ” عن تلك الفترة: “إن الزلالزل قد قلبت بيتي ووجودي ثلاث مرات متواليات، وانتزعتني بكل عنفها المفجع من ماضي وألقت بي في هاوية الفراغ، في هذا البعد اللا متناهي التي سبقت معرفتي له حيث الاضطراب يدفع المرء إلى الهتاف في رأسي: إني لا أعرف أين أذهب، وإن يكن في العالم إنسان انتزع من سائر جذوره بله من ذات الأرض التي غذت تلك الجذور؛ فذلك الشخص هو أنا بالضبط، لقد ولدت في عام 1881 في إمبراطورية عظيمة جبارة، إمبراطورية آل هابسبورغ، ولكن يجب ألا تفتش عنها في الخارطة اليوم، لأنها قد أمحت منذ زمن بعيد، دون أن تترك وراءها أدنى أثر على الإطلاق، وتربيت في فيينا العاصمة، التي يرجع تاريخها إلى ألفين من السنوات، والتي كانت تسود على أمم عديدة، والتي اضطرت إلى مغادرتها كمجرم قبل أن تذل وتهان حتى لا تعود أكثر من مدينة في مقاطعة ألمانية لا غير، أما آثاري الأدبية فقد أحيلت كومة من الرماد في لغتها الأصلية وفي ذات البلاد التي اكتسبت كتبي فيها ملايين من القراء والأصدقاء، وهكذا لم تعد لي صلة في بقعة من هذا العالم بل أصبحت غريباً في كل مكان، ضيفاً على الأكثر في البلد الذي يضمر لي العداوة الأقل، لا بل أن الوطن الحقيقي الذي اختاره قلبي، أوروبا، قد ضاع بالنسبة إلي منذ أن راح يمزق نفسه للمرة الثانية وقد تملكته حمى الإنتحار في قتال يتذابح الأخوة فيه، ولقد كنت شاهداً بالرغم من إرادتي على أرهب هزيمة منى العقل بها وعلى أوحش انتصار ظفرت القسوة به، انتصار لم يعرف الزمان أكثر وحشية منه على الإطلاق، ليس جيل قد سقط فقط وأنا لا أذكر ذلك في غرور، بل في شعور العار بالأحرى، مثلما تردى جيلنا من العظمة الفكرية في مثل هذا الانحلال الأخلاقي”.

ويواصل “زفايغ”: “لقد حدث خلال هذه السنوات القليلة التي انقضت بين نمو لحيتي واجتياح المشيب لها، خلال نصف القرن الأخير حدث من التبدلات الجذرية أكثر مما يحدث في أزمان أخرى، طوال عشرة من الأجيال البشرية الأمر الذي يحسه كل منا بوضوح، إن أموراً كثيرة قد وقعت، إن يومي ليختلف كثيراً عن كل من أيامي الماضية في صعودي وسقطاتي المتعاقبة حتى لأخال أحياناً أني لم أعش وجوداً واحداً بل عدة حيوات مختلفة جداً عن بعضها البعض، ذلك أنه يحدث لي أحياناً حين أقول دون إنتباه (حياتي) أن أروح أتساءل بالرغم مني، أية حياة من حيواتي، أهي حياتي قبل الحرب العالمية ؟، أهي حياتي قبل الحرب الأولى أم الثانية ؟، أم هي حياتي في الوقت الراهن، ثم أفاجئ نفسي وأنا أقول (بيتي) فلا استطيع أن أجزم مباشرة أياً من بيوتي السابقة قد عنيت، أهو بيت (باث) أم بيت (سالزبورغ) أو أنه البيت الأمومي في (فيينا)، أو أني أتذكر مرتعشاً عندما أقول أحياناً (عندنا) أني لم أعد من صلب أناس وطني أكثر مني من صلب الإنكليز والأميركيين، وأني لم أعد متصلاً عضوياً بأولئك وأني لن أستطيع أن أجد ههنا مركزي ومكاني الوطيدين، إن العالم الذي تربيت في وسطه وعالم اليوم والعوالم التي تندس بين هذين الطرفين لتفترق عن بعضها البعض أكثر فأكثر في شعوري، كي تصير عوالم متميزة عن بعضها كل التميز بشيء لم تره وتعشه وتتحمل وطأته، نحن الذين بلغنا اليوم الستين من عمرنا، والذين ما برح لنا الحق في سنوات أخرى من الحياة، لقد حرثنا حقل سائر الكوارث التي يمكن للخيال أن يتصورها من أقصاه إلى أقصاه ولم نقلب الصفحة الأخيرة حتى الآن”.

وحشية الحرب..

عن الحرب يقول “زفايغ”: “وأنا وحدي قد كنت شاهداً على أكبر حربين حطمتا الإنسانية، وعشتهما في جبهتين مختلفتين، الأولى في الجبهة الألمانية والثانية في الجبهة المقابلة، ولقد عرفت ما قبل الحرب أرفع شكل للحرية الفردية أسمى درجة لها، ومن ذلك الحين عرفت أسوأ إنحطاط شاهدته البشرية منذ قرون عديدة، لقد مجدت وأصبحت طريد القانون، لقد كنت حراً ومستعبداً غنياً وفقيراً، إن سائر جياد سفر الرؤيا الشاحبة قد انطلقت عدواً عبر وجود الثورة والمجاعة، تدهور العملة والإرهاب، جائحات الأمراض والهجرة، لقد شاهدت أساليب التفكير الكبرى تنمو تحت أعيننا وتنتشر بين الجماهير، الفاشية في إيطاليا والقومية الإشتراكية في ألمانيا والبلشفية في روسيا، وقبل كل شيء القومية طاعون الطواعين هذا، التي سممت زهرة ثقافتنا الأوروبية، لقد كنت مجبراً على أن أكون الشاهد العاجز المجرد عن كل دفاع على هذه العودة التي لا يتصورها عقل والتي رجعت بالإنسانية إلى حال من البربرية، كنا نظن أنها قد أصبحت في حكم النسيان منذ زمن طويل جداً، وذلك بعقائد وبرامج مضادة للإنسانية وموضوعة في وعي تام من أصحابها، لقد كان مقدراً لنا أن نرى من جديد بعد قرون من الحروب المشتعلة، دون إعلان للحرب، معسكرات للاعتقال وأساليب جهنمية للتعذيب واغتصاب الجماهير، وتدميراً وحشياً للمدن المجردة من كل وسيلة للدفاع وكل هذه الأفعال من الحيوانية التي لم تعرفها الأجيال الخمسون الأخيرة، والتي لن تتحمل وطأتها فلنترج ذلك الأجيال المقبلة أيضاً، إن الإنسانية لم تبد أبداً حتى عصرنا هذا أكثر شيطانية منها اليوم، كما أنها لم تحقق قط هذا المقدار من المعجزات التي يرفعها إلى مرتبة الإلوهية”.

إنهاء الحياة بقرار..

في بداية سنة 1942 أذاع راديو باريس أن “ستيفان زفايغ” قد انتحر في البرازيل، وقد كتب في رسالة الوداع: “قبل أن أغادر الحياة بملء إراداتي متمتعاً بسائر قواي العقلية أحس الحاجة إلى إنجاز واجب أخير، أن أوجه شكري الجزيل إلى البرازيل، هذا البلد الرائع الذي وفر لي كما وفر لعملي راحة صديقة للغاية ومضيافة حتى الدرجة القصوى، لقد تعلمت يوماً بعد يوم أن أحب هذا البلد أكثر فأكثر، حتى أني لم أكن لأفضل أن أبني لي في أي مكان آخر وجوداً جديداً بعد أن زال عالم لغتي، بالنسبة لي حالياً وبعد أن دمر وطني الفكري أوروبا نفسه بنفسه، ولكن المرء يحتاج بعد أن تجاوز الستين إلى قوى استثنائية كي يبدأ حياته مجدداً من أولها ولكن قواي قد نفدت بعد سنين طويلة من التشرد، بحيث أجد من الأفضل لي أن أضع حداً، مرفوع الرأس، لوجود كان العمل الفكري فيه هو الفرحة الأصفى دوماً، وكانت الحرية الفردية فيه هي الثورة المثلى لهذا العالم في كل حين، إني احيي سائر أصدقائي فليروا الفجر مرة أخرى بعد الليل الطويل، أما أنا فقد فرغ صبري ولذا فاني أسبقهم”.

رواية أربعة وعشرون ساعة في حياة امرأة..

هي من إحدى الروايات الشهيرة لـ”استيفان زفايغ” يرويها بطل عن امرأة مسنة يتصادف أن يقابلها في أحد أسفاره، ونتيجة لحدث عارض تمثل في هروب إحدى الزوجات في الفندق الذي ينزل فيه مع شاب، تاركة زوجها وأولادها، تسبب هذا الحدث في أن يدار جدلاً واسعاً حول الحب وطيشه وعلاقته بحياة المرأة، ويستنكر معظم نزلاء الفندق فعلة هذه المرأة ويجعل هذا السيدة العجوز تعترف للراوي بحكايتها، والتي كانت عبارة عن يوم واحد قضته في سن الأربعين، لكنها ظلت تذكره ما تبقى لها من الحياة، لأنها استسلمت فيه لنزوة حب مع أحد الشبان المقامرين. اندفعت إليه أولا بدافع الشفقة على حاله حيث خسر أمواله جميعا في القمار، وخافت أن يقدم على الانتحار وحاولت مساعدته، ثم تطور الأمر لعلاقة حميمية كانت مجرمة في ذلك الوقت وتعد خروجا عن القيم والأخلاق المجتمعية.
بعد ذلك تمنت أن يكون هذا الشاب قد وقع في غرامها لكنه لم يفعل وظلت تلك السيدة تحمل ذنب علاقة آثمة امتدت ليوم واحد لسنوات عديدة، وتشعر أن هذا عبء ثقيل تحمله في داخلها، خاصة حين لم يبدي هذا الشاب أي اهتمام بها أو شغف، ثم انتحر الفتى بعد ذلك وتظل تلك القصة داخل المرأة إلى أن ترتاح من عبئها عندما تحكيها للراوي.
تعكس الرواية بشكل ما نمط القيم والأخلاق التي كانت سائدة في أوروبا وقت كتابة الرواية، والتي كانت تميل للمحافظة في حين تغير ذلك في الوقت الحالي، ويبقى ل”ستيفان زفايج” تميزه في نقل مشاعر المرأة بعمق، يقول “مكسيم جوركي” عن هذه الرواية أنه لا يتذكر أنه قد قرأ شيئا أشد عمقا منها.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة