خاص: إعداد- سماح عادل
“زياد العناني” شاعر أردني، ولد في بلدة ناعور في عمان عام 1962 وعمل موظفاً حكومياً نحو 20 عاماً قدّم خلالها مجموعة قصائد حققت شهرة كبيرة في الوسط الثقافي لشاعر مختلف يجمع بين تلقائية التعبير وعمق التحليل والتفسير قبل انتقاله للعمل في أقسام الصحافة الثقافية ضمن يوميات أردنية.
أصدر “العناني” ست مجموعات شعرية رئيسية بين عامي 2000 و2009 وهي «خزانة الأسف» و«مرضى بطول الليل» التي وثّقت قصائد كان نشرها خلال تسعينات القرن الماضي و«كمائن طويلة الأجل» و«تسمية الدموع» و«شمس قليلة» و«زهو الفاعل»، وصدرت بعد مرضه مجموعة سابعة بعنوان «جهة لا بأس بغربها» تضمنت قصائد كان نشرها قبل إصابته الصحية، فيما اعتبر مجموعة «إرهاصات من ناعور» الصادرة عام 1988 محاولة أوّلية.
ظهر كأحد أبرز شعراء النثر الأردني والعربي بعدما بدأ بقصيدة التفعيلة وكان يؤكد شغفه ب«صمت الكتابة وهدوئها» ويعتبر ما يكتبه لذاته ولذات الكتابة دون تطلعه لأن يصبح شاعراً قائلاً: «كل ما في الأمر هو أن أحقق فرحي الخاص ولذلك وجدتني أكتب وأنشر وأتلهف للفضاء وأحتفي بنزعة التجريب».
كمائن..
في مقالة بعنوان (زياد العناني رحيل بعد مسيرة مليئة بـ”الكمائن” وحضور نديّ في مدونة الشعر العربي الحديث)ً كتب “نضال برقان”: “غيّب الموت، الشاعر الأردني زياد العناني، عضو رابطة الكتاب الأردنيين والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، بعد مسيرة إبداعية متميزة، استطاع من خلالها الوقوف على شجون الإنسان العربي في العصر الحديث.
وقد ذهبت قصيدة العناني إلى جوهر الشعر، بوصفه ترنيمة خاصة يناجي بها الوجود من خلال رسم مشاهد مستمدة من مناخاته البرية البكر التي تتمرد على سلطة السائد وتكون مليئة بالأغصان الرطبة اليانعة التي تنبه كل الحواس برقة. وقصيدة العناني لا تخلو من جدل وفلسفة تقوم على الهدم والبناء، وإعادة تشجير النص بغابات تعج بالصور الطازجة والتي لا تخلو من الشجن المحكوم به الوجود، والتي اختزلها الشاعر في عناوينه اللافتة، وتشي بمصير الإنسان المحكوم بالكمائن والمرض والدموع والأسف.
وكانت وزارة الثقافة كرمت العناني في الدورة الأولى من «ملتقى الأردن للشعر» مع صدور مجموعته «زهو الفاعل». وكان العناني أصيب صبيحة يوم 28 آب 2011 بجلطة دماغيّة، وكان آخر ما كتب مقطع من قصيدة ربما لم تكتمل، جاء فيها: «البيت مازال هو البيت/ والدرب ما زال هو الدرب/ ربما لم أره وهو يتغير بعد نومك/ ولكن/ لا عليك/ إن ضاعت منك أو ضاع عنك/ سيدلّك الحزن/ وتقودك يد البكاء إلى جنتي»”.
شمس قليلة..
في مقالة بعنوان (سيرة الفقد.. لا شيء نحبه ونحتفظ به) كتب “محمود منير”: “لم يغادر الشاعر زياد العناني في ديوانه “شمس قليلة” عوده الأبدي المتشكل حنيناً غامضاً إلى نقطة أقدم أكثر جمالاً في سيرة الفقد التي دوّنها في خمسة دواوين سابقة: “خزانة الأسف”، “في الماء دوماً وأرسم الصور”، “كمائن طويلة الأجل”، “مرضى بطول البال” و”تسمية الدموع”، حيث تنسل حروف قصائده خيوطاً من حنين وبياضها نشيجاً لا ينتهي.
يبحث العناني في نصه الجديد عن مضامين شعرية مبتعداً أحياناً قليلةً عن فقده، فتراه يهجو الحرب التي تأتي على الغاية رمز الطبيعة نقيض النظام الإنساني كلّها، أو الطاغية حين يسقط مغشياً على الدولة ويمضي، إلاّ أن هذه المضامين لا تعدو كوْنها هامشاً لمتن أكبر، وهو هامش يرتبط أيضاً بشكل خفي بوجود يسقط أصدقاءً وأشياء حميمة…الخ.
وقد احتملت لغة الديوان أفعالاً تكثف الخسارات الموصوفة كالأفعال التالية: ذهب، فقد، بكى، غاب، سقط، ولّى، رحل، حنّ، تذكر، اختفى، مات، قتل… الخ، وتتكرر هذه الأفعال وغيرها مرّات عديدة وبصيغة المفرد والجمع والغائب والمخاطب والمتكلم دالة بهذا التكرار على حضورها اللاواعي في بنية النص، إضافة إلى المجازات والتراكيب التي تندغم في ذات البناء اللغوي للقصيدة”.
ويضيف: “وتنفذ قصيدة العناني لرؤية نقدية عميقة وإن كانت تتخفى وراء مباشرتها وإستدخال أحداث ومراحل تنتمي للسياسة العربية والمعاصرة ورموزها داخل النص، فينتقد صورة الأب البطركية وسلطة الحقيقة المطلقة التي تلغي آخرها على الدوام في “شمس قليلة”:
يعتبر كأس الشراب والحانات دالات عميقة على الرغبة بالبوح والمكاشفة، وصولاً إلى لحظة صفاء نادرة مع نديم أو فكرة ما يبكي عندها العناني على قابيله وهابيله معاً. فجلسات الشراب تبعث على تذكر سيرة الفقد كاملةً ومن ثم تبدو مفتتحاً مناسباً لكتابتها.
يستدعي العناني ماضيه عن طريق الذاكرة أو الحلم أو جلسات الشراب أو الحنين ومخاطبة الغيّاب وصورة الأب والمرأة الغائبة المنشودة، كل ذلك ليعلن أنه يفتقد الزمان والمكان الذي تعيش فيه الآن قصيدته”.
صمت الكتابة..
في حوار معه أجراه “خليل قنديل” يقول “زياد العناني” عن بداية الكتابة: ” لا أذكر حادثة بعينها، ولكني بدأت الكتابة بعد أن أدركت بأنها لذتي التي أسعد بها ولساني الذي يترفع عن المنطوق. لقد كنت شغوفاً بصمت الكتابة وهدوئها ورحت أكتب لذاتي وذاتها، ولم يدر بخلدي أنني سأصبح شاعراً، كل ما في الأمر هو أن أحقق فرحي الخاص وأحس بوطأة المختلف إلى أن قيل لي بأنك تسبح في كيمياء الشعر، كنت أعرف ذلك في حينها، ولكني كنت محتاجاً إلى هذا الصوت «التوكيدي» وبعدها وجدتني أكتب وأنشر وكانت قصائدي في حينها تنتمي لقصيدة التفعيلة.
في بداية التسعينيات بدأت أنزاح إلى قصيدة النثر.. إلى المعنى، وصرت أمقت الصوت التطريبي البحت والغنائية الباهتة، ولم يكن ذلك بسبب صعوبة أو سهولة الوحدات الصوتية التي تشكل التفعيلة، لقد كنت متلهفا جداً للفضاء واحتفي بنزعة التجريب، ولم أخف من فكرة الرواسب العالقة بين الأجناس الأدبية، وكنت أفرح بالقدرات التجريدية المتوزعة في ثنايا النص وأسخر من الشتائم التي لم تفهم أو تتفهم كونية الإيقاع.
ثمة إيقاع في قصيدة النثر يعتمد على المنشأ الواحد للوحدات الصوتية المعروفة والموجودة في قصيدة التفعيلة من حيث «الحركة والسكون» وكنت أذكر بطرقات الطبال الزنجي التي كانت تتنوع وتتابع ولا تقف عند ضربة واحدة ذات طول واحد يتكرر دون أن ينتج الإيقاع.
لقد دافعت ونافحت عن قصيدة النثر من خلال عدة دراسات ومقالات منشورة، ذلك أنها قصيدة مكثفة ويجري في كيانها نسق معرفي وخبرات قديمة وجديدة تقدم «المعنى» على «لعبة» تراقيص «الحواجب» التي تمارسها بعض القصائد التي تريد أن تضم الموسيقى إلى الحقل الشعري بقوة السلاح رغم أنها حقل آخر منفصل يمكن إدخاله إلى القصيدة واستبداله بالإيقاع لا يمسك بمجامع الكل وليس شرطا أن يمسك به”.
المرأة..
وعن إشكالية المرأة في شعره يقول: “للمرأة عندي متحف مفقودات دائم، كلما ربحت امرأة أخسرها هكذا هو الأمر، في حلمي ثمة امرأة كونية أشمها وأضمها في كل الأوقات وأغوص في فوضاها الداخلية وفي كيانها الراعش والساحر والمسحور الذي يشكل الشعر كله، ويشكل رغباتنا المشتركة والمحرومة في أغلب الأحيان من معرفة تلك الدواخل والغرائز التي تستثمر نداءات الطبيعة التي نحتفي بها وتحتفي بنا.
ها أني أنظر إلى المرأة بعيني، ويدي وأعماقي وفتحة مخيالي، لم تبق منطقة لم نلعب بها، لم تبق غرفة نوم لم أتخيل قلة الإضاءة فيها أو كثرتها، لم تبق مسامة لم استنطقها عن روائح العرق، لم يبق غسيل لم أسرق ألوانه بأصابع عيني.
كل هذه الحيوانات تجتمع في سلة رأسي وفي شرفة المرأة التي أحبها وأكرهها وأكرهني في وقت واحد”.
الشعر..
ويقول عن الشعر: “على الصعيد السياسي لم تعد القصيدة خطاباً أو بياناً حزبيا يلتحق أو يلحق بالعربات السياسية حتى اللهاث، كما لم تعد أغراض الشعر القديم قائمة لأنها فقدت مسوغها الحضاري.
أما التطهير الذي نتحدث عنه فهو نسق متوغل في الغرضية أيضا، ولا مجال له إلا في حاضر الغيب. إن القصيدة التي نكتبها الآن هي قصيدة الطاقات المؤتلفة والمختلفة التي يتشكل منها الإنسان لجوانبه الوجودية والساعية إلى التحرر من أدوات المنع ومن المكبوتات والاستنطاقات اللغوية التي تفتقر إلى المعنى الذي يقف مع الإنسان الذي أرعبته الشمس مثلما أرعبته النجوم وأرعبته النار كما أرعبته وحوش الغابة والزلزال، وتكونت معظم معارفه على خلفية هذا الرعب الذي رافق البدايات الأولى إلى أن سقط في فخ الخطيئة التي علم بها متأخراً، وكذلك الذنب الذي ترفض تكريسه القصيدة الحديثة المعنية بالشعر الخالص الذي يحتفي بأنسنة الكيان الكلي للإنسان الذي يمثل كامل المركز. وعليه أقول: التطهير من ماذا ولماذا؟
إلى الآن لم التفت إلى أخطائي بعين عسكرية، إلى الآن لم أجد أي ضرورة للتعامل مع أعماقي وكأنها حقل ألغام. لقد عشت في ظل أخطائي التي لم تأت مفردة بل جاءت مع الفرح”.
وفاته..
توفي “زياد العناني” يوم 25/5/2024 بعد معاناة طويلة مع المرض عن 62 عاما.