خاص: إعداد- سماح عادل
“زياد الرحباني” فنان وملحن ومسرحي وكاتب لبناني، اشتهر بموسيقاه الحديثة وتمثيلياته السياسية الناقدة التي تصف الواقع اللبناني الحزين بفكاهة عالية الدقة. تميز أسلوبه بالسخرية والعمق في معالجة الموضوع، كما أنه يعتبر طليعيا وصاحب مدرسة في الموسيقى العربية والمسرح العربي المعاصر.
حياته..
وُلد “زياد عاصي الرحباني” في 1 يناير 1956 في بلدة أنطلياس، قضاء المتن، في محافظة جبل لبنان. هو الابن البكر للموسيقار “عاصي الرحباني” (1923–1986) والمطربة “نهاد حداد” (فيروز، مواليد 1935). كان والده جزءا من ثنائي “الأخوين رحباني” (عاصي ومنصور الرحباني) الذين شكّلوا ظاهرة في المسرح الغنائي اللبناني منذ خمسينيات القرن العشرين، بالتعاون مع إذاعة “صوت لبنان” ثم “الإذاعة اللبنانية الرسمية”، وبرزوا في المهرجانات الكبرى كـ”بعلبك” و”بيت الدين”.
نشأ “زياد” في منزل عرف بكثافة الإنتاج الفني والعمل الإذاعي والمسرحي اليومي، وكان محاطا بكتاب وموسيقيين وممثلين منذ سنواته الأولى. تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة “جبل أنطلياس” الكاثوليكية، ثم انتقل إلى مدرسة “اليسوعية” في بيروت. لاحقا، درس الموسيقى الكلاسيكية والجاز على البيانو بشكل غير أكاديمي، وتعلم التأليف الموسيقي بمجهود ذاتي معتمدا على ما شاهده من عمل والده وعمه، فضلا عن تأثره بموسيقى الجاز الأميركية.
لدى زياد شقيقان: “هالي” الذي يعاني من إعاقة ذهنية منذ الطفولة، و”ليال” (توفيت عام 1988) لم تتجه إلى الفن، وأُضيف على كاهله، بصفته الابن الأكبر، مسؤوليات خاصة داخل العائلة بعد مرض والده في أواخر السبعينيات.
الأدب..
جاءت بداية “زياد الرحباني” في الأدب كتب في سن مبكرة نصوصا شعرية بعنوان “صديقي الله”، أنجزها بين عامي 1967 و1968، وقد لفتت هذه النصوص الانتباه إلى موهبة أدبية واعدة، كانت تبشر بولادة شاعر متمكن، لولا أن اختار لاحقا تكريس طاقته بالكامل للموسيقى والتأليف المسرحي.
في عام 1971، وضع أول ألحانه الغنائية بعنوان “ضلك حبيني يا لوزية”، والتي شكلت مدخله الفعلي إلى عالم التلحين. ثم جاءت اللحظة المفصلية في عام 1973، حين كان لا يزال في السابعة عشرة من عمره، حين لحن أغنية لوالدته فيروز، وذلك في ظل دخول والده عاصي الرحباني إلى المستشفى وتغيبه عن العمل الفني.
كانت فيروز حينها تستعد لبطولة مسرحية “المحطة” من تأليف الأخوين رحباني، فكتب منصور الرحباني كلمات أغنية تعكس الغياب المفاجئ لعاصي، وأسند مهمة التلحين إلى زياد.
جاءت النتيجة على شكل الأغنية الشهيرة “سألوني الناس”، التي أدتها فيروز ضمن المسرحية، وأحدثت صدى واسعا فور صدورها، إذ مثّلت أول ظهور حقيقي لزياد كملحن ضمن أعمال العائلة الرحبانية. وقد شكلت هذه الأغنية بداية مرحلة جديدة في مسيرته، وأظهرت ملامح أسلوبه الخاص، المختلف عن نهج والده وعمه، وفتحت أمامه باب التعاون الموسيقي مع فيروز الذي امتد لعقود لاحقة.
لاقت تلك الأغنية نجاحا كبيرا، ودهش الجمهور للرصانة الموسيقية لابن السابعة عشرة ذاك، وقدرته على إخراج لحن يضاهي ألحان والده، ولو أنه قريب من المدرسة الرحبانية في التأليف الموسيقي.
مسرح..
شارك “زياد الرحباني” في أول ظهور له على خشبة المسرح في مسرحية “المحطة”، مجسدا دور الشرطي، وهو الدور ذاته الذي كرره لاحقا في مسرحية “ميس الريم”، حيث قدم مشهدا حواريا موسيقيا مع فيروز، سائلا إياها عن اسمها وبلدتها في قالب ملحن. إلا أن مشاركته لم تقتصر على التمثيل، فقد قام أيضا بتأليف موسيقى مقدمة “ميس الريم”، والتي أثارت إعجاب الجمهور لما حملته من تجديد في الإيقاع والأسلوب، كاشفة عن لمساته الشابة المختلفة عن أعمال والده وعمه.
لاحقا، طلبت منه فرقة مسرحية لبنانية كانت تعيد تقديم مسرحيات الأخوين رحباني، وتضم المغنية مادونا التي كانت تؤدي دور فيروز– أن يكتب مسرحية أصلية جديدة من تأليفه وتلحينه، فاستجاب لذلك وكتب أول أعماله المسرحية: “سهرية”. وقد احتفظت هذه المسرحية بشكل المسرح الرحباني الكلاسيكي، إلا أنها كانت أقرب إلى ما وصفه زياد بـ”حفلة غنائية”، حيث كانت الأغاني هي العنصر الأبرز، وتدور الأحداث فقط لتخدم تقديم المقطوعات الموسيقية، في تقليد واع للمسرح الرحباني.
مع مرور الوقت، أحدث زياد تحولا كبيرا في شكل المسرح اللبناني؛ إذ ابتعد عن النمط المثالي والخيالي الذي تميز به مسرح الأخوين رحباني، واتجه إلى مسرح سياسي واقعي يعكس حياة الناس اليومية، خصوصا في ظل أجواء الحرب الأهلية اللبنانية. فكانت أعماله تعبيرا مباشرا عن هموم المجتمع اللبناني، بلغة نقدية لاذعة وسخرية ذكية.
وفي دراسة بعنوان “حصاد الشوك: المسرح السياسي الكوميدي في سورية ولبنان”، أشار الباحث أكثم اليوسف إلى أن زياد فرض نفسه خلال تلك الفترة كـكاتب ومخرج ومؤلف موسيقي وممثل بارز، معتبرًا أن مسرحه أصبح منبرا يعبر عن جيل ضائع تتقاذفه أهوال الحرب والضياع، ويشكل صوتا نقديا بارزا في المشهد الثقافي اللبناني.
الزواج..
تزوج من “دلال كرم”، ورزق منها بولد أُطلق عليه اسم “عاصي”، إلا أنه تبين لاحقا أنه ليس ابنه البيولوجي. انتهت علاقتهما بالطلاق، مما دفع كرم إلى كتابة سلسلة من المقالات في مجلة “الشبكة” تناولت تفاصيل علاقتهما الزوجية. وقد ألّف الرحباني عددا من الأغاني التي تعكس تجربته في هذه العلاقة، من أبرزها: “مربى دلال” و”بصراحة”.
بعد انفصاله عن زوجته “دلال كرم” خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حرم زياد الرحباني من رؤية ابنه حتى بلغ التاسعة، بسبب سكنه في بيروت الغربية وسكن والدته في الشرقية. لاحقا، دخل في علاقة استمرت 15 عاما مع الممثلة اللبنانية “كارمن لبّس”، وانتهت بسبب عدم قدرة زياد على توفير الاستقرار الذي كانت تطمح إليه. وصرحت كارمن لاحقا: «كان زياد الشخص الوحيد الذي أحببته»، بينما اعترف زياد أن كارمن كانت محقّة في قرارها، مضيفا أنه لم يتمكن من إصلاح الفوضى التي كانت تحيط بحياتهما. انعكست تجربته العاطفية مع كارمن في عدد من أعماله الفنية، أبرزها أغنية “ولعت كتير” من ألبوم “مونودوز”، التي تناولت قصة حب طويلة.
في عام 2008، أثارت الصحف اللبنانية جدلا واسعا بعد كشف دعوى قضائية قدمها زياد لإنكار أبوته لابنه “عاصي”، المسجلة تحت الرقم 910/2008. وأكدت الوثائق أن فحص الحمض النووي عام 2004 أظهر عدم النسب. وصرح زياد لجريدة الأخبار أن موقفه القانوني جاء اضطراريا بعدما فشلت والدة عاصي في تسوية القضية بشكل خاص. وأكد أن كلا الطرفين، عائلته وعاصي نفسه، تضررا من هذا الواقع، وأنه لا يتحمل مسؤولية ما حدث.
الانتماء الأيديولوجي..
عرف زياد الرحباني بعلاقته الطويلة مع الحركات اليسارية اللبنانية، وصرح بأنه شيوعي الهوى، وظل منخرطًا في الحزب الشيوعي اللبناني طوال حياته. أثار جدلا كبيرا بمقالاته الإذاعية الساخرة وبرامجه السياسية الفنية مثل برنامج “العقل زينة”. وفي مقابلة أجراها مع الصحفي غسان بن جدو، صرح الرحباني بأن مجزرة تل الزعتر التي ارتكبتها ميليشيات مسيحية يمينية متطرفة في عام 1976، كانت الدافع الرئيسي لانتقاله إلى بيروت الغربية. وعلى الرغم من ذلك، عبر أيضا عن دعمه للمقاومة اللبنانية ومشروعها في مواجهة “الاحتلال الإسرائيلي ونظامه العنصري الأبارتايد”. ورغم نقده الحاد للأنظمة والحكومات، إلا أنه بقي مناصرًا للقضايا القومية مثل القضية الفلسطينية، وانتقد ما سماه “تحالف السلطة والمال والدين”.
وفاته..
توفي “زياد الرحباني” في 26 يوليو 2025 في بيروت عن عمر 69 عاما، بعد معاناة طويلة مع مرض تليف الكبد، الذي تدهورت حالته الصحية بسببه خلال الأشهر الأخيرة من حياته. نقل إلى المستشفى في يونيو 2025 إثر مضاعفات صحية متكررة، وأفادت مصادر طبية بأنه خضع لعلاج طويل الأمد لم يكن جسده قادرا على الاستجابة له في المراحل الأخيرة.
الصحافة والسياسة..
لم تقتصر أعمال زياد الرحباني على الكتابة المسرحية وكتابة الشعر والموسيقى فكان الوجه الثاني لزياد هو «السياسي»، وقد تميز بجرأة منقطعة النظير، وفي مهرجان الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني ألقى كلمة إلى جانب كلمة الأمين العام وتتطرق فيها لإعادة هيكلة الحزب الشيوعي اللبناني قائلا أنه لم يخرج من الحزب إلا من كان يجب أن يخرج، وعبر عن انتمائه العميق قائلا الشيوعي لا يخرج من الحزب إلا إلى السجن أو البيت.
أما زياد الرحباني الصحفي الذي كتب في أكثر من جريدة لبنانية منها جريدة النداء والنهار أثناء الوجود السوري في لبنان، فقد تميزت كتاباته بالجرأة والقدرة الهائلة على التوصيف. وقد كتب لفترة في جريدة الأخبار اللبنانية دعما لانطلاق الجريدة الجديدة في زحمة الإعلام والصحافة اللبنانية. يكتب عمود مانيفستو في جريدة الأخبار.
الأسلوب الموسيقي..
تميز زياد بأسلوب موسيقي متمرد يمزج بين الموسيقى الشرقية الكلاسيكية وأنماط الجاز، البلوز، الفانك، وحتى الروك. استعمل المقامات العربية في توليفات غير تقليدية، وجمع بين الأنغام اللبنانية والإيقاعات الغربية، ما شكل نهجا جديدا في الموسيقى العربية. وإضافة إلى ألحانه لفيروز، قدم ألبومات غنائية بصوته تضمنت أغاني مثل:
“عودك رنان”
“أنا مش كافر”
“إي في أمل”
“بما إنو”
“مارغريتا”
كما عمل موزعا موسيقيا في العديد من الأعمال الفنية والمسرحية، وأعاد توزيع أغنيات تراثية بروح عصرية.
المسرح السياسي والاجتماعي..
استخدم المسرح كأداة نقد اجتماعي وسياسي، عالج من خلاله قضايا الحرب الأهلية، الفساد، الطائفية، العدالة الاجتماعية، وقضايا المواطن اليومية. من أبرز مسرحياته التي تحولت إلى ظواهر ثقافية في لبنان:
بالنسبة لبكرا شو؟ (1978): تناولت بأسلوب ساخر قضايا الخيانة والانتماء والوضع السياسي الهش.
فيلم أميركي طويل (1980): طرحت بأسلوب عبثي مأساوي وضع المثقف والسياسي في ظل الحرب.
شي فاشل (1983): انتقد فيها النظام التعليمي والفساد الإداري.
نزل السرور (1974): كانت من أوائل أعماله الناقدة للطائفية.
اعتمد على شخصيات متكررة من الطبقات الشعبية كناقلين لرسالته، ومنحهم أدوار البطولة بدلاً من النخب التقليدية.