14 مارس، 2024 12:30 ص
Search
Close this search box.

روسيا.. صعوبات الاقتصاد وطموحات السياسة

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد: نورالدين اسكندر
أسئلة كثيرة تدور حول المسألة الاقتصاديَّة في روسيا. كيف يمكن لموسكو أن توائم بين صعوباتها الاقتصادية وطموحاتها السياسية في النظام الدّوليّ؟

في تاريخ روسيا الطويل، كانت المسألة الاقتصادية حاضرة دوماً كهاجسٍ دائم وتهديد، وليس كمجالٍ للرفاه والازدهار. يظهر ذلك بين سطور التراث الأدبي العظيم لسيدة البر، حيث تتحرك الشخصيات بين الحب والجوع، وفي براثن الفقر والخطر، وتتنشّق أثيراً مفعماً بالإحساس بالأرض كوطن وكأم. وبذلك، تبلور مفهوم روسيا الأم كأرض تبحث طوال التاريخ عن الحرية، وتتوق إلى العدالة، ولا سيما الاقتصادية منها.

إذاً، شكَّل الاقتصاد معضلة روسيا التاريخية؛ أرض باردة وشاسعة ورحبة، تطلب دوراً وحضوراً، وتعاني في سبيل مواءمة الحجم والدور مع القدرات.

قبل حوالى 100 عام، أطلقت روسيا تجربتها الاقتصادية الأكثر أهمية في تاريخها. قادت منظومة الاشتراكية الاقتصادية تحت راية الاتحاد السوفياتي، ونظّر مفكّروها لكيفية نشر ثورة البروليتاريا حول العالم، لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، انطلاقاً من فهمٍ يقوم على الصّراع الطّبقي كحتمية تاريخية لا بدّ من أن تحقّق في نهاية الأمر شيوعيّة أمميّة تسود فيها العدالة لمن هم تحت.

وقد حاربت روسيا في زمن الاتحاد السوفياتي بشراسة طوال 80 سنة دفاعاً عن هذا النموذج الشرقي، وعن الحكومات والأحزاب التي تبنّته، وصارعت الإمبراطورية الأميركية التي كانت تمثل النقيض القيمي وتوحّش رأس المال في مواجهة العمال. في النهاية، انهار الاتحاد السوفياتي نتيجة أسباب اقتصادية، في حين كان العالم ينظر إلى السباق المحموم في المجالات العسكريّة والأمنيّة.

بعد انهيار الاتحاد السّوفياتي، زادت تعقيدات المسألة الاقتصادية، لتتحوَّل إلى عقدة دائمة تعوّق موسكو عن أداء الدور العالمي الذي تريده، لكن منذ وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين، تغيَّرت روسيا كثيراً. لقد مثَّل بوتين الفهم الروسي المعاصر والعميق لمشكلات صناعة القرار في روسيا؛ قرار الإدارة العليا في الدولة على مختلف المستويات الاستراتيجية والسياسية والأمنية، وخصوصاً الاقتصادية.

لقد انتهج الرئيس الجديد نهج اللاعقيدة الاقتصادية، مفضّلاً نموذجاً عصرياً كان واضحاً أنه يمثّل روح العصر، ومختصره المنفعة المتبادلة والمصلحة الوطنية في مواجهة حرب العقائد، فخرجت روسيا من الاقتصاد الاشتراكي إلى الليبرالية المقيّدة بأهداف الدولة ورؤية رئيسها المندفع إلى استعادة مجدها، فهل لا يزال الاقتصاد قاصراً عن مواكبة الأهداف الطموحة لروسيا كقوة عالمية وقطب في العلاقات الدولية؟

أولويتان: الاقتصاد والجيش
ركّز بوتين منذ وصوله إلى الرئاسة على استعادة السيادة الروسية وهيبة الدولة كأولوية قصوى. كان هذا التركيز مبرراً ومستجيباً لحاجةٍ شعبية عبرت عن نفسها بصورةٍ واضحة في انتخابات العام 2000. لقد شعر الروس بالإهانة خلال تسعينيات القرن الماضي، ليس بسبب انصياع الدولة لإرادة الغرب على مستوى السياسة الخارجية وضعفها الواضح فحسب، بل بسبب وهن المؤسَّسات، وتحلّل القدرة على ضبط الأجهزة والإدارات، وانهيار بنية الاقتصاد الوطني بدرجةٍ غير مسبوقة أيضاً.

لقد أعاد الرئيس الجديد قطاعات اقتصاديّة إنتاجيّة أساسيّة إلى الدولة، بعد انتزاعها من الأثرياء الجدد الذين استحوذوا عليها بطرق مثيرة للجدل خلال مرحلة التسعينيات، وبأثمان غير حقيقيّة، وزجّهم في السجون. التعبير الأكثر حدّة عن هذا النسق كان قضيّة عملاق الطاقة، شركة “يوكس”، هذا من ناحية. من ناحية ثانية، أعاد بوتين منذ العام 2003 الاعتبار إلى مجمع التصنيع العسكري، كقطاع إنتاجيّ بالغ الأهمية، تملك روسيا فيه قيمة مضافة وميزات تنافسية عالية.

في ربيع العام 2008، وتحديداً بعد يومٍ واحدٍ من تسليم بوتين الرئاسة لديمتري ميدفيديف، وترشّحه لمنصب رئيس الوزراء، رسم بوتين الأولويات بصورتها الواضحة: الاقتصاد والجيش. كان ذلك بعد سنة واحدة من خطابه التاريخي في مؤتمر ميونخ للأمن، حين أعلن صراحةً، وبصورة مدوية، رفض موسكو النظام العالمي الأحادي القطب، وسعيها الدؤوب لعالم متعدد الأقطاب ونظام عالمي يعبر عن هذه التعددية.

في خطابه أمام الدّوما الذي وافق على ترشحه لرئاسة الوزراء يومها، أعلن بوتين أن حكومته ستركز على تحويل الاقتصاد إلى طريق الاستفادة من المبتكرات العلميّة الحديثة وتطوير البنى التحتية، بما في ذلك البنى التحتية للنقل والإسكان والمجالات السياسية والمالية والإعلامية… وأبعد من ذلك، دعا إلى ضرورة تأسيس مركز مالي إقليمي في روسيا، وقال إنّ ذلك المركز ضروري لتوسيع مصادر تمويل القطاعين الخاص والعام وتعزيز استقرار الاقتصاد العالمي، مشدّداً على أنّ بلاده قادرة بإمكانياتها الاقتصادية والمالية المتزايدة على تجاوز مرحلة عدم الاستقرار في الأسواق المالية العالمية.

يومها، كانت الأزمة المالية العالمية في أوجها. تطلّع بوتين إلى المستقبل، وقال: “علينا أن نصبح خلال 10 أو 15 عاماً في عداد الدول الرائدة من ناحية مؤشرات مستوى المعيشة، مثل مستوى الدخل، والضمان الاجتماعي، وجودة التعليم والخدمات الصحية، ومتوسّط عمر الفرد، والوضع البيئي الجيد، وتأمين المساكن”، ووعد بأن يكون دعم الجيش والأسطول إحدى الأولويات الأساسية لحكومته، إذ لا تستطيع حماية سيادة البلاد ووحدتها إلّا القوات المسلحة المقتدرة والمجهزة جيداً، والتي تتمتع بروح معنوية عالية.

حتى ذلك الوقت، كانت القوات المسلحة الروسية قد حصلت بدءاً من العام 2001 على أكثر من 300 نموذج جديد من الأسلحة والتقنيّات العسكريّة، لكن الحكومات الغربية كانت تفرض قيوداً اصطناعية تحول دون استثمار الشركات الروسية في الخارج.

بعدها، تأزّمت ملفّات العلاقات الدولية التي كانت تضع روسيا والغرب على طرفي نقيض في الكثير من الأحيان، فاشتعلت ليبيا، وتعرَّضت روسيا للخديعة فيها. بعدها، انفجرت الحرب على سوريا، فردَّت روسيا لتستعيد هيبة دبلوماسيتها وحضورها الدولي منذ بداية الأزمة، ثم لتثبت قدرتها على التدخل العسكري بدءاً من العام 2015.

وكانت ملفّات متعددة، مثل توسّع الناتو نحو حدودها، ثم انفجار أزمة أوكرانيا واستعادتها القرم، أسباباً إضافية لمزيد من العقوبات التي أرهقت الاقتصاد الروسي، وأثقلت مشروع بوتين الطموح لروسيا العالمية القوية اقتصادياً وعسكرياً.

ثغرات النموذج الاقتصادي الروسي
من المعروف اليوم أن النموذج الاقتصادي الروسي يعتمد بصورة كبيرة على المواد الأولية، ولا سيما الغاز الطبيعي. يعتبر ذلك أكبر ثغرات الاقتصاد، لكون هذه المواد قابلة للنضوب، ولا تعتبر مثالاً جيداً على العافية الاقتصادية المستدامة، غير أنّ محاولات الإدارة العليا في موسكو لم تتوقف طوال العقدين الأخيرين لتنويع مصادر الدخل القومي وتعزيز لقطاعات الإنتاجية الأخرى.

لقد ساهم التحرير الاقتصادي وعودة النظام في ازدهار سوق الأسهم ما بين العامين 2000 و2005، فتطوّرت العديد من الصناعات التي كانت غائبة في الحقبة السوفياتية وخلال التسعينيات، وزاد الناتج القومي الحقيقي للفرد بمعدّل 2.5 بحلول العام 2007، لكن السياسة الاقتصادية الجديدة للعقد الأول من القرن الواحد والعشرين لم تتمكّن إلا من تحسين الاقتصاد إلى مستويات محدودة.

يبدو الاقتصاد طوال هذه السنوات كلّها محتاجاً إلى إكراه سياسي مستمر للتحرك. لقد أثّرت العقوبات في قدرة البلاد على جذب المستثمرين من الخارج. كما أن الدعاية الغربية لسيطرة الدولة على الاقتصاد في روسيا تسهم في خفض ميزاتها كمركز جذب للاستثمارات، ثم إن حجم الدولة وعدد سكانها لا يزالان يشكلان معاً سيفاً ذا حدين. من ناحية، من المفترض أن تكفي موارد 17.1 مليون كيلومتر مربع حاجات حوالى 143 مليون نسمة. ومن ناحية ثانية، يؤدي العاملان دوراً سلبياً عند مقارنتهما مع الحالة الأميركية مثلاً، والناتج القومي للقوة الاقتصادية الأولى في العالم.

ما السبب؟ كثيرة هي الأسباب، لكنها تتمحور بمجملها حول فوارق النموذج الاقتصادي، الذي يقوم في الحالة الأميركية على مروحة واسعة جداً من الخيارات والقطاعات المنتجة، فيما يتركز في الحالة الروسية على قطاعات المواد الأولية والتصنيع العسكري، لكنّ هذه المعطيات غير حتمية، إذ إنَّ خطة الأمن القومي الروسي 2012-2020 حددت أهدافاً كبيرة، سارت من خلالها البلاد في درب التنمية المتنوعة، وخصوصاً لناحية التشبيك الاقتصادي الخارجي مع دول ومنظمات إقليمية، ومع كيانات اقتصادية قارية تبلورت من خلالها فرص جديدة لموسكو.

الأرقام تتغيَّر
في النصف الأول من العام الحالي، أظهرت بيانات وزارة التنمية الاقتصادية الروسية أن الاقتصاد الوطني نما بنسبة 0.5% في شهر آذار/مارس الماضي. ويعدّ ذلك أوّل نموّ شهري منذ ظهور جائحة فيروس كورونا قبل عام ونصف العام.

نائب وزير الاقتصاد الروسي بولينا كريوتشكوفا أكَّدت مطلع الشهر الحالي أن اقتصاد البلاد سيتعافى إلى مستويات ما قبل الجائحة خلال أسابيع فقط. الدولة الروسية تركّز الآن على نواحٍ محددة. دعم نشاط الاستثمار مثلاً يستهدف تحقيق نمو بنسبة 3% سنوياً في المستقبل، على أن يكون هذا النمو مستداماً.

صحيح أنَّ الاقتصاد الروسي لا يزال بحاجة إلى الاعتماد على السلع الأولية، لكنه شهد تحسناً بعد أن انكمش 3% في العام 2020، وهو أكبر تراجع خلال 11 عاماً. هذا التعافي السريع بعد الجائحة يحمل إشارات إيجابية جداً بالنسبة إلى موسكو، فهو يعني أنَّ الإجراءات الإصلاحية الهيكلية تؤتي ثمارها. كريوتشكوفا نفسها توقّعت أن يتعافى الناتج المحلي الإجمالي خلال حزيران/يونيو أو تموز/يوليو إلى مستويات الربع الرابع من العام 2019.

اتجاه إيجابي
لا تتحدث موسكو وحدها عن تحسن مؤشرات الاقتصاد الروسي اليوم. أوروبا أيضاً لمست هذا التحسّن؛ فإضافة إلى تمسّك دول غرب أوروبا بإمدادات الغاز الروسي، ولا سيما ألمانيا؛ القوة القائدة في وسط القارة، حسَّنت المفوضية الأوروبية أيضاً توقعاتها لنمو الاقتصاد الروسي للعام 2021 من 2% إلى 2.7%، ومن 1.9% في العام 2022 إلى 2.3%.

هذه التوقّعات جاءت في تقرير رسمي نشرته المفوضية الأوروبية خلال حزيران/يونيو الحالي، وقالت فيه إنّ الاقتصاد الروسي في العام 2020 سجَّل انخفاضاً بنسبة 3% بدلاً من 4.2%، كما كان متوقعاً في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أي أنَّ الانعكاسات الاقتصادية الحقيقية للجائحة على روسيا لم تكن بالسوء الذي تم توقعه سابقاً، وهو ما يعتبر نجاحاً على الأقل في الإدارة الاقتصادية للجائحة (بصرف النظر عن الإدارة الصحّية وتكاليفها)، في مقابل فشل إدارة دونالد ترامب في مواجهة تداعيات الجائحة، التي شكَّلت أحد أهم أسباب خسارته الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

ووفقاً للمفوضية الأوروبية، على الرغم من حقيقة أن الوباء وتراجع أسعار النفط أصابا روسيا بشدة في العام 2020، فإنَّ “الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي كان معتدلاً”، لكن هل يعتبر ذلك مؤشراً على خروج روسيا من أزمة ضعف اقتصادها قياساً إلى قدراتها العسكرية وحجمها الجغرافي والاستراتيجي وطموحها العالمي؟

الإجابة ليست سهلة، لكنَّها منقسمة إلى ناحيتين أساسيتين؛ الأولى تقول إنَّ روسيا لا تزال تحتاج إلى تقوية بنيتها الاقتصادية وتنويعها، لتتمكن من الاضطلاع بدور عالمي مستقر على المستوى السياسي، وهي تحتاج قبل ذلك إلى إيجاد حلٍ لتقلّبات سعر عملتها الوطنية، وتبذل جهوداً كبرى في هذا الاتجاه.

الناحية الأخرى تقول إنه ليس مطلوباً من روسيا مواجهة نموذج اقتصادي آخر لتحقق هدفها العالمي بالوصول إلى عالم متعدد الأقطاب وأداء دور القطب فيه، بل إن قمة العالم في النظام المتشكّل لن تكون بالضرورة وفق تصورنا المعتمد على الذاكرة، أي أن افتراض الشكل الهرمي ليس حقيقياً بالضرورة. ومن هذا المنطلق، تؤدي التكتلات الاقتصادية والسياسية الناشئة دوراً بارزاً في تزخيم الرفض العالمي للأحادية، وهي تأخذ العالم باتجاه نظام جديد يتناسب مع رؤية بوتين البعيدة.
المصدر: الميادين نت

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب