خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “فتاة بروكلين” للكاتب الفرنسي “غيوم ميسو” رواية بوليسية، حاول الكاتب أن تكون رواية شيقة وجذابة ومليئة بالتشويق الذي تتسم به الروايات البوليسية، لكنه مع ذلك لم يتخل عن الجانب الإنساني وعن تصوير الشخصيات بعمق، وتوضيح مشاعرها وانفعالاتها وطرق استجاباتها المختلفة تجاه الحياة.
الشخصيات..
رفائيل: كاتب روائي فرنسي، يربي طفله وحده، لأن أمه التي أنجبته تخلت عنه لصالح الأب. يتقابل مع فتاة ويحبها وينتوي الزواج منها، لكن يصر على أن تصارحه بأسرارها لتتكشف أمور خطيرة، وينجح في النهاية في حل الألغاز وإنقاذ حبيبته.
كلير: الفتاة التي أحبها “رفائيل”، طبيبة أمريكية ناجحة وواعدة، تعيش في فرنسا باسم فرنسي، يكتشف “رفائيل” أنها مرت بتجربة حياتية صعبة، وأنها رغم ذلك تخطت كل الصعاب ونجحت في مواصلة حياتها، ويساعدها ثم يتزوجا في النهاية.
مارك: ضابط شرطة متقاعد، فرنسي، حقق نجاحات هائلة في مجال عمله المهني، صديق ل”رفائيل”، وجار له، له دور كبير في الرواية حيث يقوم بعمل بحث بوليسي عن “كلير”، ويساعد “رفائيل” كثيرا في كشف الألغاز، لتكشف الرواية لغزه في النهاية.
تاد كوبلاد: سياسي أمريكي، كانت حياته في البداية نقية، يسعى إلى الخير وإلى مساعدة الناس، لكنه يتحول عندما يريد أن يصبح شخصية سياسية مشهورة.
فلورانس غالو: صحفية شابة، تحاول مساعدة الناس، وتنقد كثير من مظاهر الحياة في أمريكا، تقتل في النهاية لأنها وقفت في طريق “كوبلاد”
الراوي..
في البداية يحكي “رفائيل” الروائي بصوته وضمير المتكلم، ويحكي راوي عليم عن “مارك” ثم يوميات “كلير” تكشف أمورا وتحكي فيها بضمير المتكلم، ثم تحكي الصحفية “فلورانس غالو” عن نفسها، وحكي بصوت “تاد كوبلاد” وحكي بضمير الغائب عن “كلير”، ثم حكي بصوت “كلير” وضمير المتكلم، ثم عودة الى حكي “رفائيل” بضمير المتكلم، ثم الراوي العليم الذي يحكي بضمير الغائب عن “كلير ومارك” ثم يوميات “لويز” بصوتها وضمير المتكلم.
مما يعني أن الراو اعتمد على صوت “رفائيل” وعلى راو عليم يحكي بضمير الغائب وعلى أصوات أخري للشخصيات تحكي عن نفسها من خلال يوميات ومذكرات أو حكي مباشر، وتعدد الأصوات وحكيها بضمير المتكلم أعطى ثراء كبيرا للرواية، كما أنه مكن الراوي من النفاذ إلى دواخل الشخصية والتعبير عنما تفكر فيه وتشعر به حتى في لحظات كارثية ومرعبة، وكان دور الراوي العليم مكملا للحكي يملئ فراغات السرد ويحل الألغاز التي كانت بمثابة لغز كبير تتفكك أجزاءه وتنكشف.
السرد..
الرواية محكمة البناء، عدد صفاحتها 434 من القطع المتوسط، اعتمدت على تيمة الرواية البوليسية الشيقة والجذابة، لكن لم يتخل “غيوم ميسو” عن رسمه العميق للشخصيات وعمل شخصيات حية تتحرك أمامنا كإننا نشاهدها. كما كانت هناك قصة حب داخل القصة البوليسية، وقصة تعامل “رفائيل” كأب مع ابنه وتفاصيلها الدقيقة، وأيضا قصة “مارك” مع ابنته وقصص شخصيات أخرى، يشعر القارئ في هذه الرواية أن “غيوم ميسو” كان يتحدى نفسه ليقوم بعمل رواية شيقة وجذابة مثل باقي رواياته، تعتمد على حكاية محكمة وشخصيات ثرية وهذه المرة يزيد في أن تكون قصة بوليسية شيقة.
التنقل ما بين فرنسا وأمريكا..
كعادة “غيوم ميسو” في رواياته التي قرأتها يحب أن تكون الأحداث دائرة ما بين باريس وأمريكا، ونعرف أنه فرنسي عاش في أمريكا في مطلع شبابه وكان لها تأثير كبير على شخصيته، لذا نجد رواياته دائما ما تدور بين فرنسا وأمريكا، كما يظهر “غيوم ميسو “احتفاء كبيرا بالأماكن، فيصف تلك الشوارع والأماكن داخل رواياته، وهذه الرواية تحديدا، وصفا تفصيليا، ويصف مشاعر الشخصيات تجاه تلك الأماكن إما أنها مشاعر خاصة بذكريات مرت في تلك الأماكن أو إعجاب وانبهار بجمالها ومعمارها وتكوينها.
اللغز..
اعتمدت الرواية على لغز البطلة “آنا – كلير” التي تعرف عليها “رفائيل” باعتبارها طبيبة شابة في منتصف العشرينات، وأحبها وقضى معها ستة أشهر ثم قرر الزواج منها، هو الروائي الناجح التي تلقى رواياته نجاحا باهرا، ثم في لحظة انفعال غريبة يقرر أن يسألها عن أسرارها ربما خوفا من خطوة الزواج التي أصبحت وشيكة. وتكون المفاجأة حينما يكون لديها سر لكنه سر موجع ومفجع، ويهرب منها “رفائيل” ثم يعود ليفهم فتختفي “كلير” ومن هنا تبدأ رحلة “رفائيل” لحل اللغز بمساعدة “مارك” صديقه، ليكتشف أنها تم اختطافها وهي مراهقة وأنها تعذبت كثيرا وأن أمها قتلت وأنها لم تكن تعرف من هو والدها، كل تلك المآسي التي تعرضت لها “كلير” ورغم ذلك ظلت صامدة وقوية ومتماسكة واستطاعت أن تحقق حلمها وتصبح طبيبة وتستأنف حياتها، دون صخب الإعلام والتلصص على حياتها ومآسيها.
جرائم الغرب نتيجة لتوحش المجتمع..
ورغم أن الرواية رواية بوليسية تحكي عن جريمة اختطاف واحتجاز واغتصاب لمراهقات، وعن مريض نفسي يقوم بذلك وعن جرائم أخرى مشابهة، لكن هل يمكن فصل كل تلك الجرائم عن الواقع في الدول الأوربية وأمريكا، هل يمكن القول أنها جرائم من صنع خيال الكتاب الذين يسعون لعمل روايات بوليسية ناجحة، أم القول أنها جرائم قد حدثت في الواقع بالفعل ونتج عنها روايات تحاول خطف أنظار القراء. هذه الجرائم من البشاعة لدرجة أن القاريء يشعر بالذعر عند قراءتها، والتساؤل المهم هل تلك الجرائم نتيجة لتوحش الرأسمالية في تلك الدول ووصولها إلى أعلى مراحل استغلال الإنسان، مما خلف أمراضا وعقدا نفسية لا حل لها، تخلف مجرمين متسلسلين يقومون بأبشع الجرائم.
اعتقد أن هذا هو التفسير الأقرب للمنطق، مع توحش المجتمع الرأسمالي يجد الإنسان نفسه محاصر ومغترب ومسلوب الإرادة، مع تفكك الأسر والعائلات ووقوف الإنسان عاريا إلا من أرادته المنفردة. منهم من يستطيع المواصلة وحده والعيش في تلك الحياة البائسة الجافة الطاحنة، ومنهم من يتوقف ويقرر أن ينحرف في مساره ليدخل طريق الجريمة، أو بالأحرى طريق الانتقام لما حدث له. فينتقم في أبرياء أخرين، ونجد ذلك الألماني الذي قرر أن يبني منزلا غريبا به غرف عازلة للصوت وكأنه حصن، ويحتجز ثلاث فتيات مراهقات يقوم باغتصابهن وتقييدهن واعتبارهن عبيد لرغباته الجنسية المنحرفة، ويقتطع من حياتهن سنوات في الرعب والتعذيب والفزع، حتى أنه في النهاية يقرر قتلهن أحياء بأكثر وسيلة موت تعذيبا وهي الحرق. هذه الجرائم ليست غريبة عن المجتمعات الرسمالية بل هي كثيرة ومتواصلة ومتجددة.
فساد الشرطة..
كما أشارت الرواية إلى فساد الشرطة، وكيف أنها كمؤسسة، ليس في أمريكا فقط وإنما في فرنسا أيضا، تضم بين صفوفها مدمني المخدرات والكحول والفاسدين والمرضى النفسيين، لكن للأسف الأمر أشبه بحلقة مفرغة ف”مارك” كان ضابطا ناجحا ونزيها إلى أن تم قتل ابنته بأسلوب وحشي واغتصابها واحتجازها عدة سنوات، فتحول إلى مدمن ومريض نفسي لأنه لمن يحتمل قسوة ما حدث له. تلك الحياة القاسية التي يعيشها الغربيون في مجتمعات لا تعترف إلا بالربح والأموال وتمارس فيها كل أنواع الانتهاكات الإنسانية، تخلف بشرا مجرمين أو مرضى نفسيين أو مدمني كحول وخمر ومن ينجو من كل تلك المصائر يكون فائزا.
الحب والأحاسيس الأخرى..
اهتمت الرواية برصد مشاعر الأبطال، واحتفت بها بشكل جيدة، فقد رصدت قصة الحب بين “كلير ورفائيل”، وسعي “رفائيل” لإنقاذ حبيبته خاصة بعد اكتشف أنها ضحية، وأيضا مشاعر “رفائيل” نحو ابنه، وكيف يربيه منذ أن كان رضيعا ويهتم به ويعامله بعد أن تخلت عنه أمه، كما رصدت مشاعر “كلير” التي رفضت أن تكون ضحية بالمعنى المفهوم للمجتمع وتكون عرضة لأضواء الأعلام المتلصصة، والتي قد تفسد عليها باقي حياتها، بعد أن شاهدت بعينها إحدى جارتها وقد تعرضت للاغتصاب ثم انتحرت بعد أن شعرت أنها لن تعود ابدأ لحياتها الطبيعية، بعد أن اصبح الصحفيون يحاصرونها، مما يعني أن الضحية تعاني طوال حياتها نتيجة سعي الأعلام في الغرب وراء الأخبار التي تجذب الناس والفضائح.
اغتصاب النساء..
كما يلاحظ من خلال الرواية أن اغتصاب النساء في الغرب منتشرا، وأن المرأة ليست متمتعة بحقوقها وحريتها كما نتخيل نحن الذين نعيش في بلدان أخرى، فهناك جرائم اغتصاب للمراهقات واغتصاب للنساء وهناك علاقات جنسية تدفع ثمنها النساء وحدهن، كما حدث مع “جويس” أم “كلير”، التي ومن ودافع إحساسها بالتحرر كامرأة ، دخلت في علاقة حميمة مع “تاد كوبلاد” لكنها لم تكن متحررة تماما لأن افتضاح أمر الخيانة الزوجية موصوم هناك في الغرب، وبالتالي فهي ليست حرة في الاحتفاظ بابنة دون أب يعترف بها، لأنها في النهاية قتلت ضحية اختيارها ذاك، لان “كوبلاد” خشى على سمعته كسياسي واضطر إلى قتلها أو قتلها عن طريق الخطأ، مما يعني أن اختيارها أن تكون إما متحررة تربي ابنتها بمفردها قد يصبح لعنة عندما يتعارض مع حياة ذكر له طموحاته.
الفساد السياسي..
كما اختار الكاتب أن يشير من خلال الرواية الى فساد السياسة في أمريكا، حيث أن السياسيون ليسوا ملائكة ف”تاد كوبلاد” رغم شهرته كمدافع عن أخلاق ومبادئ هامة تخص الناس العاديين، ودفاعه عن بعض الأمور التي تحافظ على حياتهم، إلا إنه في النهاية انكشف أنه قاتل وأنه خائن أناني، لا يهتم إلا بمصالحه الفردية، كما أشارت الرواية إلى لعبة السياسة القذرة التي تنطوي على ألاعيب غير أخلاقية تصل إلى مرحلة القتل وتصفية الأعداء أو من يقفون في طريق السياسي الطموح، مثلما فعلت مساعدة “كوبلاد” والتي كانت تقوم بتصفية من يعترض طريقه، حيث صفت صحفية ناجحة رغم أنها كانت تحمل جنينا في أحشاءها.
وأيضا انتقد الكاتب سياسات فرنسا وبعض مظاهر الحياة هناك مثل التعليم الفرنسي الذي يشعر الكاتب أنه لا يتيح الفرص للطلاب للتنافس والحماس مفضلا التعليم الأمريكي الذي ينفق عليه التلميذ أموالا طائلة ليحظى به. الرواية شيقة وجذابة كعادة روايات “غيوم ميسو”.