24 سبتمبر، 2024 9:30 م
Search
Close this search box.

رواية “ضريح أبي” وتمرد طارق إمام

رواية “ضريح أبي” وتمرد طارق إمام

خاص: كتب- نبهان رمضان

كاتب مصري

يقول ألفرد جاري (أحد كتاب أدب العبث في الأدب الفرنسي( إن القوانين التي تحكم العالم ما هي إلا استثناءات متكررة أو حقائق عارضة ليست لها ميزة التفرد إننا في الواقع نعتبرها استثناءات استثنائية.

في رواية “ضريح أبي” للكاتب “طارق إمام” الصادرة عن دار العين، يتمرد الكاتب على القواعد التي أرساها أرسطو التي حدد عناصرها في الزمن والمكان والحدث، رواية “ضريح أبي” لا تعتمد على هذه الثلاثية التي يرتكز لها كل الأعمال الأدبية. المكان مدينة متخيلة في عالم أهم ما يتسم به اللامنطقية، رغم  أن الكاتب حاول أن يكسوها بعض سمات واقعية في بلدنا مصر. الزمان يتأرجح بين الماضي والحاضر والمستقبل في أزمان غير محددة.حاول الكاتب إخفاءها و لم يشر إليها مطلقا، كان ضنينا على المتلقي في تحديد الزمن حتى لم يهتم بالزمن السردي كأنه يريد أن يكسر وحدة الزمن في كل أشكاله الولي ينجب بعد وفاته بمائة عام، حتى الابن الذي يستغرق زمن السرد في اجتياز الطريق الوعر لضريح الأب تارة نجده يعود للخلف وتارة يتجاوز تلك المقابلة وتارة يجد المتلقي نفسه أمام تلك المقابلة بين الولي وابنه، فهي تمثل المرتكز الزمني لكل ما يدور في الرواية. فتلك حيلة يستخدمها الكاتب بذكاء حتى يوصل للمتلقي أن هذا الصراع يحدث في الأزمان والأوقات وفي كل العصور ليس مرتبط ارتباطا وثيقا بوحدة الزمن.

أما المرتكز الثالث الذي تمرد عليه “طارق إمام” في رواية “ضريح أبي” هو الحدث عندما نتأمل متن الرواية لا تستطيع أن تروي عنها لأحد ليس هناك حدث مترابط لكن هناك صراع نفسي داخلي، الابن المشتت لحد التمزق بين الطهر والدنس، أو بين الحقيقة والوهم، أو بين الآخرة والدنيا، تلك المتناقضات التي رمز لها “طارق إمام” في متن الرواية بذلك الضريح لهذا الولي الأب، الذي يحتل مكانا منفردا بعيدا عن المقابر العمومية التي تحوي جسد الأم كما يتوهم الابن التائه بين هذا وهذا. (بين من ينظرون لي كمعجزة، ويتأملونني قادم من عالم آخر، و من ينادونني بابن الزنا، بسبب عداوتهم له بالأساس ورغبتهم غي محوه، عشت ممزقا) صفحة 56.

من خلال هذا الصراع الداخلي لبطل الرواية يطرح “طارق إمام” إجابات لتلك الأسئلة الوجودية محاكيا الموروث الثقافي المستوحى من الأساطير اليونانية والفرعونية التي لجأ لها الإنسان في بداية الخليقة أيضا ليفسر الظواهر الكونية الغامضة في تلك العصور، هناك دراسات ثقافية تكاد تجزم أن هذه الأساطير ليست للتسلية أو خرافات بدائية للإنسان البدائي لكن لها أهمية هامة في استنباط العلوم والمعارف الحديثة، حيث أن التأمل في الكون والبحث عن أسباب الوجود هي تماما ما ارتكز عليه علم الفلسفة منذ أرسطو حتى الآن، مثل  الخلود (الخلود هو حلم أي إنسان. كان سعيدا لأنه جرب حظه مع الموت مبكرا وانتهى الأمر) ص 63 . العبودية (العبيد دائما على هذا النحو، ينكرون الله نفسه للإبقاء على سادتهم) ص 60.  العمر الذي شبهه بالقطار (ليهزم صراخ القطار الذي امتد إلى عظامه و بدأ يصفر في تجاويف هيكله العظمي) ص 8

و هكذا امتلأت الرواية بالرؤى الفلسفية. تحتل الرمزية متن الرواية بدرجة كبيرة، لجأ “طارق إمام” لتجسيد الصور المعنوية في صور حسية محسوسة. لم يكن ضريح الولي سوى تجسيد لمعنى الباطل أحيانا وتسلط المعتقدات الدينية برمزيتها المقدسة داخل نفوس البشر ومن هنا جاءت فكرة المسوخ التي تحرس الضريح وتهاجم السائرين الجنب وتلتهم من يترك شباكه مفتوحا ليلا بينما يرتكب فحش الزنا داخل الضريح ذاته. قبر الأم غير المعلوم مكانه مجسدا الحق الغائب والحقيقة المميتة التي يظل الإنسان يقضي عمره في البحث عنها. عندما تتواجد الحقيقة يختفي الوهم، والعكس صحيح كما جسدها “طارق إمام” في صورة رائعة (تبدو المسافة بين مقابر العاديين وقصر الآخرة الذي ينام فيه أبي كأنها تصل بين طرفي العالم، فعندما تشرق الشمس فوق الضريح يكون الظلام قد خيم على الطرف الآخر، أما اللحظة التي يستيقظ فيها الفجر عند الشواهد المتراصة للموتى العمومين فإنها تتزامن مع هبوط قرص الغروب في قلب السماء التي تظلل جثمانه، و بين الميتتين كانت المدينة تحيا زمنا ثالثا لا ينتمي لأي منهما) ص 16.

الوهم أو الباطل الذي يجسده هذا الضريح يخشى العلم والمعرفة (الناس للأسف يخشون المعرفة ويعتبرونها آتية من الشيطان، حتى من يحبون أباك يخشون الشيطان أكثر) ص 133.عندما يعلم الإنسان يدركه الموت، الموت هو الحقيقة الكبرى التي تلتهم كل الحقائق، التي ان أدركها الإنسان فلا جدوى من بقائه حيا. لقد أنهيت الطريق.. صار طريقك الآن.. عليك أن تدخل، ستراه، سترى كل شيء) ص 190. (همس الصوت، أنت ميت، الآن أنت ترى) ص 191.

يستند “طارق إمام” في روايته “ضريح أبي” على فلسفة عبثية الكون فالإنسان يعيش في عالم لاعقلاني، طريق مليء بالمحن والاختبارات طريق يسميه البعض طريق الموتى، طريق المعجزات، لكن الكاتب يفضل أن يسميه طريق النساء (في كل تعريجه، كان الطريق يقدم واحدة من تلك النساء الغامضات اللائي يقال أنه بذرهن لتذكير الناس بقوته ولاختبار تقواهم) ص  106. الغموض الذي حافظ عليه “طارق إمام” منذ بداية الرواية لم ينكشف إلا مع آخر كلمة في الرواية (في هذه اللحظة ولأول مرة منذ ولدت، رأيت وجه أمي) ص 191.

اللغة جاءت سلسة مناسبة لموضوع الرواية. لم تكن عائقا في فهم المضمون ولكنها ساعدت كثيرا في توضيح الفكرة وإظهارها. أحيانا استخدم الكاتب صفات مثل أن يكون الجميل جميل جدا والقبيح أقبح شيء في العالم، تعكس تطرفا إلى  أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار لم يكن هناك حياد فالمنطقة الوسطى منطقة صراع بين المتناقضات (الطهر و الدنس)، (الجهل و العلم). في النهاية نحن أمام عمل متميز أو على أقل تقدير عمل مختلف. كتابة شاقة و متعبة على المتلقي لكنه في النهاية يجد راحة نفسية عندما ينتهي من قراءتها لأنها تحرك فكره و تنشط العقل.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة