خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “شوق المستهام” للكاتبة المصرية “سلوى بكر” تحكي عن حضارة الأجداد وعظمتها وكيف حدثت معها القطيعة، لكن مع ذلك ظل الاعتراف بأهميتها حاضرا في وعي ولاوعي الأبناء، من خلال رحلة الراهب المصري الذي بدأ يبحث عن حضارة الأجداد لغرض حياتي ملح، لتنتهي رحلته بمعرفة وتقدير واحتفاء بتلك الحضارة المجيدة.
الشخصيات..
الرواية تعتمد على شخصية رئيسية واحدة هي شخصية الراهب “آمونيوس” الذي يقطع الرحلة، وبصحبة شخصيات ثانوية تقابله في طريقه الطويل، وتحكي عن أفكار ودواخل ومشاعر وانفعالات تلك الشخصية الرئيسية، بينما باقي الشخصيات يحكي عنها من الخارج، من خلال تفاعلها مع الشخصية الرئيسية.
الراوي..
الراوي هو الراهب البطل، حيث يحكي بضمير المتكلم عن نفسه وعن الأحداث التي تحدث له، وعن رحلته الطويلة وعن الشخصيات الأخرى التي يقابلها، كما تترك الكاتبة للشخصيات مساحة للتعبير عن أنفسهم من خلال الحوار.
السرد..
الرواية قصيرة تقع في حوالي 182 صفحة من القطع المتوسط، انقسمت إلى خمسة أقسام مركزية لكل قسم عنوان “إشارات الشوق/ عون/ الجسد قميص الروح «الحرانية»/ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى «منف»/ زودياك» دندرة”. تركز على رحلة “آمونيوس” التي تبدأ بعلمه بمرض أمه واحتماليه موتها، ليخرج من الدير القابع فيه وتنتهي بالكشف، كشفه لأهمية الحضارة القديمة لأجداده وروعتها وقيمتها.
تفاصيل التاريخ..
لا يمكن القول أن الرواية تاريخية رغم استعانتها بتفاصيل تاريخية دقيقة وكثيرة، لكنها استخدمت التاريخ وتفاصيله لكي تخدم الفكرة التي تريد الرواية التعبير عنها، وهي مدى روعة وعظمة الحضارة المصرية القديمة، على كل المستويات، وكيف أنها كانت سباقة وتمت سرقتها واستخدام مفرداتها من قبل الغزاة العابرين على مصر، كما تم تحطيمها والتعمية علي أهميتها ونهب كنوزها وأسرارها منذ قديم الزمان.
من خلال راهب شاب، لا يعرف في حياته سوى ديانته، وسوى الدير الذي ذهب إليه في العاشرة من عمره، ليجد نفسه أمام تحدي موت أمه، وتحدي الوباء الذي طال أخته المحببة إليه، والذي طال كثير من الناس، فتدفعه خطورة الوباء الذي أثر على حياة الناس والذي قتل حبيبته أيضا إلى التفكير في القضاء عليه وإنهاؤه بالاستعانة بخبرة الأجداد.
وهنا نبدأ كقراء في اكتشاف الأمر، من خلال رحلة “آمونيوس” وتنقله بين الأماكن الهامة التي تعد محطات هامة في تاريخ الحضارة المصرية، ونتعرف على تفاصيل موحية عن أهمية تلك الحضارة العظيمة.
التشدد وتبديد الإرث..
لكن الأهم هو معرفة أن من نهب تلك الكنوز وساعد على تحطيمها والتعمية عليها واندثارها ليس فقط الغزاة الذين تتابعوا على مصر من الفرس والإغريق والرومان وغيرهم، وإنما أيضا من المصريين أنفسهم، هؤلاء المصريون الذين حدثت القطيعة بينهم وبين أجدادهم، هؤلاء المصريون الذين استسلموا للتشدد الديني والجهل، الذين عطلوا عقولهم واستمعوا إلى تعاليم متشددة تنفي عقل الإنسان وتعطله عمدا، ليبقى الجميع بمثابة القطيع الذي يساق.
بعض رجال الدين الذي سعوا عمدا إلى التقليل من شأن تلك الحضارة وعظمتها ووصمها بوصمة الوثنية، مما جعل الناس الذين يتبعونهم دون إعمال للعقل والفكر يستجيبون لتلك الوصمة ويساهمون في تحطيم إرثهم الحضاري الذي ورثوه عن أجدادهم، بدلا من المحافظة عليه وحراسته من أيدي الناهبين والسراق والغزاة.
الغزاة..
مما يعطينا فكرة هامة وهي أن الغزاة على مر العصور على مصر استماتوا في إبعاد الناس عن تاريخهم وتراثهم وحضارتهم وإرث أجدادهم، وللأسف استجاب كثير من الناس لهم، وابتعدوا عن إرثهم الحضاري وفقدوا التواصل معه، حتى أنهم أصبحوا يحتقرونه ويصمونه مثل الغزاة ورجال الدين المتشددين.
وقد نقلت الرواية تلك الفكرة ببراعة من خلال الراهب الذي كان يتبنى تعاليم دينه والتي كانت تصم الحضارة المصرية بأنها حضارة وثنية وكفر، حتى أن بعض المصريين كانوا يحطمون آثار أجدادهم وتماثيلهم التي تدل على عظمتهم وبراعتهم، وكانوا يحرقون أوراق البردي التي تحوي الكنوز بأيديهم وهم غير عابئين بما تحوي تلك الكنوز.
ومن أحد الأسباب الهامة التي أحدثت تلك القطيعة هي بعد الناس عن لغتهم المصرية، وافتقادهم لطريقة قراءة الخط المصري القديم الذي يعرف بالهيروغليفية، بل وكراهيتهم لتلك الكتابة واعتبارها لغة الوثنيين.
فقد كشفت الرواية عن أن الغزاة ليسوا الوحيدين الذي ساهموا في تحطيم واندثار كثير من الإرث المصري العظيم الذي تركه لنا الأجداد، فقد سعى بعض المصريين إلى تحطيم المعابد المصرية واضطهاد الكهنة الذين كانوا يعيشون فيها وكذلك العرب الذين أتوا فيما بعد، بالإضافة إلى نهب الإغريق والفرس والرومان للحضارة المصرية وللكتب والكنوز والأوراق.
ابن وحشية..
كما أشارت الرواية إلى “ابن وحشية” وهو عالم كبير كان يقدر قيمة الحضارات القديمة وحاول التبحر فيها وفهمها وتأليف الكتب عنها، وكيف ساعد “ابن وحشية” “آمونيوس” على فهم أهمية حضارة أجداده وقيمتها الحقيقية، فقد اندهش “آمونيوس” حين لمس انبهار “ابن وحشية” بالحضارة المصرية القديمة وباقي الحضارات، وبدأ في الشعور بأهمية تلك الحضارة.
وهو الأمر الذي لمسه بشكل واقعي حين ذهب إلى أحد المعابد التي لم يتم تحطيمها، ويقابل كاهن كبير في السن هناك، ويتعلم على أيدي الكهنة أشياء لم يكن ليعرفها لولا رحلته الطويلة، وسعيه نحو التواصل مع تاريخه وحضاراته وإرث أجداده.
الرواية تمتعت بجانب جمالي إنساني فلا يشعر القارئ أبدا أنه يقرأ تاريخا أو أفكارا، وإنما يعايش أحداث ومواقف ويشاهد البطل وهو يتحول من التبعية المطلقة للتشدد الديني وإلغاء العقل والتفكير، إلى الفهم والوعي ومحاولة التفاعل مع تاريخ أجداده ومعرفة مدى عظمته.
وتبقى أهمية الرواية أنها أثارت الأسئلة في نفوس القراء، لكي يبحثوا بأنفسهم، يتفاعلوا، ويفهموا ويتعرفوا على تاريخ الأجداد العظيم، فهي كانت بمثابة إشارة البدء، ومحاولة التنبيه من الغفلة ليكمل القراء طريقهم في البحث والفهم ومحاولة التواصل مع إرث الأجداد وحضارتهم العظيمة التي تأثر بها جميع العالم.