21 ديسمبر، 2024 6:55 م

رواية ذكريات الأمكنة.. تأثيرات التغييرات السياسية على مسار حياة الناس

رواية ذكريات الأمكنة.. تأثيرات التغييرات السياسية على مسار حياة الناس

 

خاص: قراءة- سماح عادل

رواية “ذكريات الأمكنة” للكاتبة المصرية “آية ياسر” رواية تحكي عن أجيال متعاقبة لأسرة واحدة متشعبة، ومن خلال الحكي عن الأسرة تحكي عن التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحدث في مصر منذ فترة الأربعينيات من القرن الماضي وحتى 2003، وهي لا تعبأ بالفترات الزمنية بقدر اهتمامها بالأحداث الفارقة في تاريخ مصر وما حولها من دول في المنطقة.

الشخصيات..

تعددت الشخصيات داخل الرواية مما أعطاها ثراء، كما تعاقبت في صورة أجيال وامتدت أصول العائلة جغرافيا من النوبة والسودان وحتى تركيا، أعطت الراوية لبعض الشخصيات مساحات كبيرة من الحكي عنهم وعن أحوالهم الاجتماعية والنفسية، فيما تناولت شخصيات أخرى في تفاعلهم مع الشخصيات الرئيسية باعتبارهم شخصيات ثانوية، لكن الراوية حاولت أن تحكي عن الشخصيات وعن التغييرات التي تحدث لها نتيجة للتغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

هناك شخصيات تغيرت تغييرات فارقة نتيجة لتغير الظروف المحيطة، وشخصيات ظلت على ثباتها، وشخصيات عانت في حياتها من التحولات السريعة، وشخصيات أخرى استطاعت أن تطوع نفسها وتقود حياتها.

الراوي..

الراوي، هو راوي عليم، ويمكن القول راوية، تحكي عن كل الشخصيات وتعرف خفايا نفوسهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، كما تعرف الأحداث في تتابعها. تبدأ كل فصل بكلام يلخص غالبا حالة الأشخاص والأحداث التي ستحكي عنها، لكنها تتخذ طابع النصح أو الإقرار أو الحكم ويعد هذا تدخلا من شخصية الراوية، وكأنها تقول للقارئ أنا موجودة وظاهرة وواضحة، لا أحكي فقط عن الشخصيات وإنما أتواجد حولهم أيضا وأذكرك بنفسي في أول كل فصل. باستثناء ذلك تتجنب الراوية الانحياز لأي شخصية، فهي تحكي عن كل الشخصيات في حياد تام، لا تدين ولا تمتدح أحدا من الشخصيات، تحكي فقط التغييرات التي تحدث لهم ومواقفهم الحياتية دون تدخل منها، سوى تلخيص ما يحدث في مقدمة الفصل. وأحيانا تخاطب الراوية الشخصيات بضمير المخاطب أو تجعل الشخصيات تخاطب نفسها في حديث مع الذات.

السرد..

الرواية تقع في حوالي 288 صفحة من القطع المتوسط، تنقسم إلى 23 فصلا لكل فصل عنوان يعبر عن ما يحدث داخل الفصل، الرواية محكمة البناء، يتنقل السرد ما بين الشخصيات. بدأت الرواية في فترة زمنية ما حيث أصيبت كوثر بالزهايمر، ثم عادت إلى الماضي البعيد لتحكي عن العائلة وظلت تعود لماضي أبعد، ثم ترجع إلى زمن أحدث. لكن في المجمل يمكن القول أن الرواية كانت تحكي عن الأحداث تصاعديا رغم التقطيعات الزمنية التي تكشف زمنا أحدث وكأنها تشوق القارئ وتخبره عن أشياء ستحدث، ثم تعود لزمن أبعد.

بدأت الرواية زمنيا بأحداث احتلال فلسطين 1948 وانتهت باحتلال أمريكا للعراق 2003، هذا على مستوى الأحداث السياسية التي كان لها التأثير الكبير على مسار الأحداث وعلى الشخصيات في الرواية، وعلى مستوى المكان دارت في منزل البيه “تاج الدين” أغلب الأحداث ثم انتقلت لمنازل الأبناء، ولشقة “عنبر” وللأماكن التي عاشت فيها “زينب” في الخارج. وانتهت نهاية حزينة ومفتوحة في نفس الوقت، ربما لتوحي للقارئ بالاستمرارية، استمرارية حياة تلك العائلة واستمرارية التحولات بين أفرادها.

سطوة المكان..

رصدت الرواية سطوة المكان على بعض الشخصيات في الرواية، ف”كوثر” ابنه “تاج الدين” ظلت متعلقة بمنزل والدها الذي ولدت وتربت فيه، قصر والدها المكون من طابقين والذي تزوج فيه سيدتين، وظلت طوال حياتها متمسكة بهذا البيت حتى بعد ما أصابها الزهايمر ظلت تتذكر منزل والدها وعادت إليه في أحد المرات لتعيش لحظات الحنين إلى أمها وأبيها وأشقاءها. كما رصدت الرواية تعلق “عنبر” ببلاد النوبة التي ولدت وعاشت صباها فيها، والتي لجأت إليها حين تزوج عليها “تاج الدين” وفضل زوجته التركية عليها، فحين غرقت بلاد النوبة بفعل تأثير السد العالي حزنت وظلت تحمل حنينا إلى بلاد النوبة.

التغييرات السياسية وتأثيراتها..

كانت للتغييرات السياسية تأثيراتها الكبيرة على حياة الأشخاص وتغيير مسارها وتغيير شخصياتهم أنفسها، ف”كوثر” تغيرت حياتها كلية بموت خطيبها “سمير” في الحرب على فلسطين، و”فريد” فقد شغفه بالحياة وظل سنوات عمره يعاني من ندبات وجروح في روحه نتيجة انخراطه كجندي في حرب اليمن وتورطه في قتل اليمنيين، و”مراد” تغيرت حياته بسبب قمع الشيوعيين وسجنهم وفقد إيمانه بمبادئ تعلق بها في شبابه، و”تاج الدين” نفسه حياته تأثرت بثورة 1952 وسقوط الملكية، و”زنيب” كانت ثورة المجر على الاتحاد السوفيتي لحظات فارقة في حياتها.  فالتغييرات السياسية وما يستتبعها من تغييرات اقتصادية واجتماعية تؤثر على أفراد المجتمع وتغير مسار حياتهم، وتجعلهم يتغيرون إما إلى الأسوأ أو إلى الأفضل، وهذا ما حدث مع أفراد عائلة “تاج الدين”.

تحول “مراد” لشخصية انتهازية تقترب من السلطة وتستفيد ماديا من هذا التقرب وتسعى فقط وراء جمع الأموال ومراكمتها، حتى أنه باع آثار وجدها في منزل زوجته، وتنكر لزوجته نفسها التي أحبها طوال سنوات وفرضها على عائلته، لنكتشف في النهاية أنه ندم بزواجه منها لأنها ليست في مستواه الاجتماعي والثقافي. و”فريد” فقد شغفه بالحياة وعاش سنوات طوال غريبا ومستلبا، وحين وجد شغفه كان عن طريق خيانة زوجته مع إحدى الراقصات. و”كوثر” التي أفقدتها الحرب على فلسطين فرصة الزواج وإنجاب الأطفال وظلت طوال حياتها دون أسرة تخصها، عاشت وحيدة ومتعنتة وانتهت حياتها بمعاناة طويلة مع مرض الزهايمر.

أجيال متعاقبة..

سعت الكاتبة إلى الحكي عن عائلة واحدة وتتبع الأجيال التي تتوالد من هذه العائلة، وهي عائلة “تاج الدين”، رجل من أصول تركية مصرية، أبوه باشا غني، وأمه تركية وقد تزوج من فتاة نوبية نتيجة ضغط والده عليه لأنها ابنة شريك له سوداني، لينتقل الحكي عن بلاد النوبة والسودان، وتتبع الكاتبة ليس فقط “عنبر” التي تزوجها “تاج الدين” وهي من أصول نوبية، وإنما تتبع والدتها “حنة” التي تزوجت من أبيها السوداني وهي نوبية.

ثم تركز الرواية على تتبع الأجيال فينجب “تاج الدين” “زينب” من “عنبر”، وينجب من “تروكان”، زوجته التركية التي وقع في غرامها من أول نظرة، “كوثر وفريد ومراد”، وتتتبع الكاتبة “تروكان” أيضا، التي هجرتها والدتها وكان والدها سكيرا فتزوجت من “تاج الدين” وقطعت علاقتها نهائيا بوالدها.

ثم تحكي عن الأبناء “زينب” التي تخرجت من كلية اقتصاد وعلوم سياسية، و”كوثر” التي غرها جمالها فاكتفت بالثانوية، و”فريد” الذي عمل في الحربية طوال حياته، و”مراد” الذي تخرج من الجامعة وأصبح رجل أعمال وسياسي تابع للنظام.

ثم يأتي دور الأحفاد، “سامي ونور” أبناء “زينب” تأخذهم الحياة في أوروبا وأمريكا بسبب عمل والدهم الدبلوماسي، ويتنقلن بين البلدان ليستقر بهم الحال في أمريكا، فيتزوج “نور” من فتاة مدمنة ويعادي والدته “زينب”، لكنه يعود إليها بعد أن تخونه الفتاة ويسجن، و”سامي” الذي يحب أن يمارس علاقات مفتوحة مع فتيات أمريكيات، وهذا يغضب والدته ويشعرها بالاغتراب بسبب تأثر ولديها بأجواء الغرب وأمريكا. لتختلف الأحوال وتعود بولديها فينضم واحد إلى الجماعات المتشددة دينيا وهو “نور”، ويتزوج “سامي” من قريبة له. كل هذه تحولات تحدث للأحفاد تدل على سمات شخصياتهم.

وأبناء “فريد” لا تحدث لهم تغييرات كثيرة، وإنما يعيشون حياة عادية ويعملون لدى عمهم “مراد”، فقط “كرم” ابن “مراد” هو ما يقترب من فتاة فقيرة ويسعى إلى الاعتراض على غزو العراق، ينضم للتظاهرات لكنه يعود إلى صوابه وينصاع لأمر والده حين يفرض عليه والده ترك حبيبته الفقيرة.

الطبقة الكادحة..

وهنا نلاحظ أن الكاتبة أدخلت فردا آخر لا ينتمي لعائلة “تاج الدين” وهو “سليمان”، ذلك الشاب المزارع الفقير الذي قابل “تاج الدين” صدفة في أحد الأسفار، وأنقذه من لص وأعاد إليه أمواله، وتتتبع الكاتبة عائلة “سليمان” ربما لتتحدث عن شخصيات أخرى من طبقة أخرى غير طبقة “تاج الدين”، حيث أن “تاج الدين” ينتمي للطبقة الوسطي، فقد كان غنيا في عهد الملك ثم أصبح من الطبقة الوسطى بعد 1952. و”سليمان” يحقق للكاتبة الغوص في عالم الطبقات الكادحة التي يموت بعض أفرادها نتيجة للفشل الكلوي، والتي لا يستطيع بعض أفرادها تعليم أولادهم فيلجأ الأبناء إلى مساعدة الوالد في العمل. وحتى الأجيال التي تأتي بعد “سليمان” تعاني من الفقر وتضطر إلى العمل لجلب قوت اليوم. متمثل ذلك في “صابرين” ابنة “سليمان” التي تضطرها الحياة الى العمل كخادمة، والرحيل هي وزوجها وأخيه إلى الإسكندرية بعد سيل يدمر منزلها، ثم تضطر إلى العيش بمفردها وتربية أبنائها.

لكنها تحاول كسر دائرة العوز بإدخال ابنتها “نسمة” إلى كلية من كليات القمة، لكي تصبح صحفية. لكن في النهاية لا يلتقي أبناء الطبقة الوسطى بأبناء الكادحين، ف”كرم” لا يستطيع الزواج من “نسمة” لأنه لا يجوز ذلك. رغم أن والده “مراد” فعلها قبله وتزوج من “عايدة”.

والجدير بالذكر أن الحكي في صورة رواية أجيال والمرور على السنوات بشكل سريع، والحكي عن التغييرات الهائلة التي تحدث في المجتمع وفي حياة الشخصيات يذكرنا ب”نجيب محفوظ “الذي يتضح تأثيره الكبير على الكاتبة.

لكن الكاتبة رغم ذلك تحاول أن يكون لها تميزها، فتحكي عن أمور أكثر خصوصية وتحاول التعمق في رسم بعض الشخصيات، وتناول مشاكلهم الحياتية بشكل أكثر تركيزا، وسبر أغوار نفوس الشخصيات لمعرفة صراعاتهم الداخلية، وإن كانت لم تطل في ذلك الأمر كثيرا.

فالرواية تناولت الصراع بين الأشقاء والسعي نحو المصالح المادية، وغيرة الزوجة التي يهجرها زوجها لأجل امرأة أكثر جمالا، وعنصرية السيدة الجميلة التي تتجه للزوجة الأقل جمالا والتي تنتقل إلى الابنة أيضا، وتحكي عن تحولات المشاعر التي قد تستغرق سنوات طويلة وعن الحب الذي يصمد أمام كل أنواع الهجر والافتراق والظلم مثل حب “عنبر” ل”تاج الدين”، وعن تحولات المشاعر بين الزوجين بعد السنوات والفتور، مثل ما حدث مع “زينب” وزوجها، وعن العلاقات الزوجية التي تقوم فقط على القواعد الاجتماعية وعلى الرغبة في عيش حياة توافق المجتمع وتقاليده  مثل زواج “فريد” وزوجته الطبيبة. وقد استخدمت الكاتبة لغة سهلة وبسيطة وفي الحوار استخدمت الفصحى، ورسمت بعض الشخصيات بعمق.

الكاتبة..

“آية ياسر” كاتبة صحفية مصرية، وتكتب الرواية والقصة وأدب الطفل ولها مجموعة من الإصدارات من بينها رواية “ضائعة في دهاليز الذاكرة” سنة 2014 ورواية “همس الأبواب” سنة 2017.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة