رواية “حياة ثقيلة” (1).. الناجي الذي يعيش بصحبة أحباءه المغدورين

رواية “حياة ثقيلة” (1).. الناجي الذي يعيش بصحبة أحباءه المغدورين

 

خاص: دراسة – د. حسين سرمك

الناقد العراقي ” د. حسين سرمك” من أحد أهم النقاد في الأدب العراقي، وقد رحل مؤخرا “رحمه الله” وهو يعمل لآخر أيام حياته. ومن أحد المشاريع التي كان يعمل عليها دراسة عن رواية “حياة ثقيلة” للكاتب العراقي “سلام إبراهيم”، وقد عبر الناقد العراقي ” د. حسين سرمك” في مراسلات بينه وبين الكاتب العراقي “سلام إبراهيم” عن مدى إعجابه برواية “حياة ثقيلة” قائلا أنه: “معتبرا هذه الراوية الأنموذج الأهم والأكثر اكتمالا بين كل الروايات العراقية في التعبير عن “الحالة العراقية” أي شخصية الفرد العراقي ببعده التاريخي والأسطوري والسياسي والاجتماعي”. وكان ينتوي “رحمه الله” ويخطط أن يجمع تلك الدراسة مع دراسة له سابقة عن رواية أخرى للكاتب “سلام إبراهيم” بعنوان “الإرسي”  في كتاب..

وبين يديكم الآن هذه الدراسة التي أنجزها ” د. حسين سرمك” ونظرا لطولها سيتم نشرها على حلقات.

الحلقة الأولى:

يستهل الروائي “سلام إبراهيم” القسم الأول من روايته “حياة ثقيلة” والمعنون بـ”لبناء عالم جديد” بالقول:

“أجلسُ على حافةِ الستين. خلفَ النافذة، الليل أبيض. خلف النافذة تهبط الأضواء وندف الثلج من سماء بيضاء. تهبط بروية وهدوء وكأنها تنسج مأساة وحدتي، أسترخي على كرسيّ الهزاز وسط الصالة أمام نوافذها الزجاجية الثلاث العالية المشرفة على امتداد الشوارع البيضاء ونفسي منقبضة فرط البياض، يقال أن المحتضر يرى قبيل رحيله، في اللحظات الأخيرة شلالاً من الضوءِ الأبيض الذي تعشي له العيون. هذا ما أفضى به من توقف عن الحياة للحظات وعاد بتدخلٍ طبي. الشوارع خالية. زوجتي تنام في الغرفة الأخرى. صرت قليل الكلام بعد أن كنتُ لا أملُ منه- ص 5”.

وهو استهلال يُسرد بضمير المتكلم وهو الضمير ذو السيادة المطلقة في المنجز السردي ل”سلام إبراهيم”، ويعبّر عن حالة اكتئاب شديدة تقلب استجابة الراوي فيه المسلمات العامة الثابتة في السلوك البشري برغم أن الأدب يقلب هذه المسلمات عادة. فالبياض الذي تعارفنا على أنّه “يفتح” النفس ويشيع الأمل والتفاؤل في النفس صار الآن دافعاً للانقباض والتشاؤم وانتظار الموت. وهو يحاول إسناد قلب استجابته للون الأبيض هذا بمثال البشر الراحلين الذين مرّوا  بتجربة “ما بعد الموت afterdeathexperience” وهم الأشخاص الذين ماتوا ثم عادوا إلى الحياة بلا مساعدة طبّية وبعضهم نهض من مشرحة الطب العدلي (الجنائي) والذين أشار أغلبهم إلى أن شلالا من الضوء الأبيض غمرهم وهم “هناك” قبل أن يقرّروا العودة أو يُعادوا إلى “هنا”.

وحالة الاكتئاب هذه شاملة تتضمن خمود النشاط الإنساني والفاعلية على شتى المستويات وبضمنها الرغبة العاطفية والجنسية من خلال الإشارة إلى الزوجة التي تنام وحيدة في الغرفة المجاورة في حين “يغطس” الراوي في كرسيّه الهزّاز خلف النافذة التي تضفي على جلسته ظلال صورة السجين المتوحّد الذي فقد الرغبة في الكلام أيضا وهو أداة التواصل مع الآخرين بعد أن كان لا يملّ من الحديث كما يقول.

الرحم الدامي..

ولو قرأ عالم نفس غربي ما يقوله الراوي عن حاله لوضعه في خانة من يعانون من “أزمة منتصف العمر” والتي هي تحوّل في هوية الشخص وثقته بنفسه وتحصل عادة لدى من هم بين 45 إلى 65 عامًا. وتوصف بأنها أزمة نفسية ناتجة عن أحداث تسلط الضوء على تقدّم الشخص في العمر، والوفاة الحتمية، وربما عدم الإنجازات في الحياة. وقد ينتج عن هذه الأزمة الشعور بالاكتئاب الشديد، والندم، ومستويات عالية من القلق، أو الرغبة في تحقيق رغبات الشباب الضائعة أو إجراء تغييرات جذرية على نمط حياته الحالي أو الشعور بالرغبة في تغيير القرارات والأحداث الماضية.

لكن انهمام الراوي بـ”ستينه” التي يجلس على حافتها وتحاصره في نومه ويقظته يتأسس على إحساس عميق سابق أو مرافق بالوحدة المدويّة. وهذا يعود أصلا إلى فعل المنجل الباسط للموت أو “المثكل” حسب الوصف الموفّق لجدّنا جلجامش. لقد رحل أحبّته واحدا تلوا الآخر وتركوه وحيداً محاصرا ببقاياهم/ صورهم:

“أحملق في جدران الصالة التي امتلأت بصورهم. حشدٌ من الأحباب. حشدٌ من الوجوه المنيرة الضاحكة. حشدٌ غادر الواحد تلو الآخر هناك بعيداً في الرحم الدامي- ص 5”.

وتعني الإشارة إلى رحيل الأحبة في “الرحم الدامي” أنّ الخسارات لم تكن موتاً “مقدّراً” من الله يتكفّل له أخّاذ الأرواح بل موتاً “مُصنّعاً” من الإنسان ويكون في العادة شديد القسوة والتوحّش.

ولا نعرف حتى الآن ما هي هويّة الراوي ولا طبيعة المكان/ الرحم الدامي الذي يتحدّث عنه حتى وهو يقول:

“كنت أظن قبل سقوط الدكتاتور بأن همومي كلها ستزول بزواله فأتمكن من زيارة الأهل والأحباب، أرى أمكنتي الأولى وأشم هواء وتراب مدينتي- ص 5 و6”.

فمعاناته من الوحدة والاكتئاب وأزمة الستين من العمر يمكن أن يعاني منها أي شخص.. كما أن الديكتاتور الذي تمّ إسقاطه قد يكون أي ديكتاتور في أمريكا اللاتينية مثلا (مثل ديكتاتور الأرجنتين الذي تسبّب في اختفاء 100 ألف مواطن وفرار الآلاف من وطنهم). لكن معرفتنا بأن الروائي عراقي وبأن الراوي يتحدث عن رحم دام بعيد هو العراق وكوننا متلقين عراقيين يجعلنا ندرك أنّه يتقلب على جمر وحدته الأبيض في بلد بعيد قصيّ مُثلج. وهذا يغلق دائرة التلقي ويمنع موت المؤلف وييسّر عملية الاستقبال والتأويل.

وهناك سمة فاجعة مُضافة في رحيل أولئك الأحبة وتتمثل في أن الراوي عاش طويلا وهو يحلم بخلاصهم وآفاق الحياة الكريمة مفتوحة أمامهم على مصاريعها.. فيكون خالي البال مطمئنا ومسترخي النفس لأن “المهمة” أُنجزت إذا ساغ الوصف. وكان هذا الحلم بيوم الخلاص ذاك يلاحقه ويستولي على ذهنه “سائراً أو قائماً أو جالساً أو نائماً”. أمّأ الآن – ولاحظ المقابلة المقصودة المؤلمة – فإن الستين الموحشة والوحدة الخانقة تحاصره في “سكونه وحركته، ونومه ويقظته”.

كان يمارس طقوس حلمه وأشواقه مع ذاته بصورة سرّية: فحين يقفز إلى حوض السباحة – وهنا تتكفّل إشارات مكانية بسيطة في حسم مرجعية هوية الراوي وانتماءاته المكانية – لا يهمه جنّيات القصص اللائي يحطن به بل يتصوّر نفسه قافزاً في نهر مدينته الطيبة وتحديداً في المكان المقابل لحيهم السكني القديم:

“كنت أمارس طقوس أشواقي السرية دون بوح، فكنت أتخيلني وأنا أرمي نفسي في حوض السباحة كأنني أقفز إلى نهر الديوانية وأغط فيه، فأرى وأشم وألمس بقلبي وأنا في غمرة الماء بيوت “حي رفعت” وحدائق المعسكر في الجهة المقابلة ناسياً ما حوليّ من نساءٍ مثل جنيات القصص بلباس السباحة يعومّنَ ويقفزن ويخرجن من حوض الماء الناصع الزرقة.- ص 6″.

خراب العمر كلّه..

إنّها ليست أزمة منتصف العمر.. بل أزمة خراب العمر كلّه: أن تصحو وأنت على حافة الستّين وقد فقدتَ أحباءك وصحبك المقرّبين وخسرت مستقبل مَنْ تبقى من الأحبة ومستقبلك من خلال خسارة مستقبل بلادك بأكمله وإلى الأبد عبر عودتها إلى الاحتلال بعد تخلصها منه قبل ثمانين عاماً!! فأفقد هذا الواقع المرير القاسي كل المسرّات حتى الصغيرة منها في حياة الراوي:

“أنفصلُ مع كل قفزةٍ عن وجودي الغريب، مستمتعاً بالأخيلةِ التي تنهضُ من عمقِ السنين حيةً في الماءِ. لكن حتى هذه اللُعَبْ السرية فقدتها عقب الاحتلال وزياراتي السنوية الطويلة للرحم الملتهب. فقدتها وأنا أفقد الحبيب تلو الحبيب ليتحولوا من جديد إلى خواطر وصور فوتوغرافية معلقة بالحائطِ تطلُ من سكونها على وحدتي أنا وزوجتي الحزينة- ص 6”.

وفي مقابلة أخرى لا يصوّرها إلّا أستاذ متخصص في أفلام الرعب يقدّم لنا الراوي لمحة مخيفة من لمحات انقلاب سمراته في علاقته بالأحبة الغائبين الذين صاروا يغطسون معه في حوض السباحة بعيونهم المفتوحة الجامدة ووجوههم الشاحبة بصفرة الموت:

“متع الأشواق الصغيرة الطائرة فقدتها، فأصبحتُ كلما رميت جسدي في حوض المسبح أراهم يغوصون جواري بأجسادهم العارية وعيونهم المفتوحة. كل غطة أرى أحدهم حياً يجاورني في عمق الماء، صامتاً، مفتوح العينين، وشعر رأسه يتمدد في الماء خلفه، تمتد اللحظة الحيّة حتى ظهوري إلى السطح وضجيج السابحات والسابحين الذين يقابلوني ببسمة وتحية كلما التقت نظراتنا- ص 6”.

ومشكلة الناجي هو هذه الفجوة الهائلة بينه وبين مَنْ يحيطون به. بين مَنْ يده في النار وبين مَنْ يتفرّج عليه كما يقول المثل الشائع.. بين من يتقلب على ألسنة الجحيم ومَنْ يحييه بابتسامة متعاطفة. فلو قال الراوي لأحد السابحين بأنه غاص في حوض الاستحمام وغاص معه واحد من غائبيه القتلى ففسدت عليه لحظة المسرّة كيف سيردّ عليه هذا المتفرج “الطبيعي” الذي شبع سباحة وراحة؟ مشكلة الناجين أنّ لا أحد يفهم سياط العذاب التي تمزّق ظهر وجودهم.

نزف الانثكالات.. 

ومعضلة الراوي الأساسية المستعصية على كل حلّ والتي جرّت خلفها كل أشكال المعاناة هي أنّ “انثكالاته” الموجعة لا تنقطع. كان يفقد الحبيب تلو الحبيب قبل الاحتلال مراهنا على مجيء يوم تسقط فيه قبضة الطغيان ليحظى من يتبقى من الأحبة بفرص العيش المنعم والسلام الطمأنينة. لكن الطغيان استُبدل باحتلال غاشم لا يقل عنفاً ولؤما ووحشية.. ونزف الانثكالات لم يتوقف بل صار أفجع وأفظع. وصار الراوي “ناجياً” بالمعنى النفسي المهلك. الناجي بهذا المعنى هو مَنْ “يبقى” بعد موت أحبته وحيدا عاريا منخلع الأواصر ويركبه الشعور بـ”ذنب البقاء” شاعرا بغربة عنيفة عمّن يحيط به تلاحقه أخيلة الراحلين وأطيافهم التي يسهل عليه التعايش معها أكثر من الأحياء المتحرّكين حوله والذين يرتبط بهم في الظاهر:

“هاهم يحيطون بيّ بعيونهم البارقةِ وبسماتهم الحارقةِ مخففينَ من وطأةِ الوحشة وثقل البياض خلف النوافذ وسكون الصالة وقفر الشوارع المغطاة بالثلج- ص 6”.

وهؤلاء “الناجون” المنثكلون يعيشون في طلال ماضي التجربة الرهيبة التي خطفت أحباءهم.. ومن فرط شعورهم بذنب البقاء يتمنون وأحيانا يعتقدون بقوة أن أحباءهم لم يرحلوا أبدا. فيديمون بقاء الغائبين من خلال الصور والكتابات وشواهد الذكريات (ويمثل الأدب أعظم وسائل “الإحياء” والخلود في حياتنا وهو بذلك معالج نفسي ناجز). وحين يتصاعد الشعور بالانثكال والفقدان إلى مستوى لا يمكن للنفس البشرية تحمّله، قد يبلغ الأمر بالمنثكل تخيّل الغائب أمامه بلحمه ودمه بلا قرينة واقعية تسند هذا الوجود، فصار يرى وجوه أحبته الغائبين:

“بوجوه المارة مكتشفاً لعبةً جديدةً من لعبِ الأشواق الطائرة تتلخص في الجلوس على مصطبةٍ في شارعِ المشاة وسط كوبنهاجن ومتابعة الوجوه الخاطفة فأرى شيئاً من ملامحهم في قسماتِ المارةِ، وعندما أجد وجهاً يشبه أحد الأحباب، أقوم بالسير في أثره كي أشبع عيني من ملامحهم الحية في وجهه.. لعبة متعبة فشلت في الكف عنها فأورثتني مزيدا من الأشواق المستحيلة- ص 7”.

ولا تستمر هذه الوجوه الحبيبة في الغوص معه في حوض السباحة بل هي تغوص معه نحو قاع النوم فتصيبه بالأرق والأحلام الكابوسية وتصبح لياليه نهارات لا يغمض له جفن فيها بلا “معاونات” تلطّف قلقه وحزنه وفي مقدمتها الخمرة ودونها يصبح ليله “أبيض” مساوياً لنهاره:

“أقوم من كرسي مغموراً بالبياضِ المتدفق من النوافذِ لأملأ كأسي بالعرق الخالص، فبدون السائل الأبيض السحري لا نوم ولا راحة ولو لساعات من زحمة الوجوه الحبيبة الباسمة المحدقة بوحدتي والتي عاشرت أعوامي الغضة- ص 7”.

والكثيرون من الناجين يواجهون الانهيار النفسي الشديد خصوصا حين تتسبب الظروف الاجتماعية ونقص الثقافة النفسية في قمع مشاعرهم وعدم تفهّم صراعاتهم الدفينة.. وعلى الأخص أكثر حين يستمر نزف الفقدانات جارياً وسنوات العمر تحترق كما يقول الراوي. ولعلّ من العوامل الحاسمة التي أخّرت الاعلان “الرسمي” عن انهيار الراوي هو قدرته على “حكي” معاناته وتصريف صراعاته من خلال الكلمة. ولأنه يدرك سعة الشقة بين ما يعيشه من تمزقات نفسية دامية وبين “المتفرّجين” الذين يطلّون على لهيب جحيمه من بعد أو من علو، لم يجد مناصاً من أن يدعونا كمتلقين لنرافقه فعلياً في بعض أشواط رحلة عذاباته لعلنا نكتوي عن قرب بألسنة جحيمها:

“طفح بيّ الكيل. أكاد أفيض بهم. فهيا معي يا من تلاحق حروفي علَّ البوح يخفف شيئاً من ضنى أشواقي المبرحة- ص 7”

****************

في هذه المهمة الأولى التي تحمل عنوان “لبناء عالم جديد” ننطلق مع الراوي – كالعادة – فجراً:

“استيقظتُ قبل آذان الفجر كما خططتُ. السكون يعمّ كل شيء، الفراش والجدران والبيت، ومن النافذة العريضة بانت النجوم تلهث بضوئها في صفحة السماء الصافية، نجوم طفولتي البعيدة نفسها التي كنت أتتبع جريانها في عمق السواد، لم أترك نفسي لأشجان الطفولة وسمائها فذلك يثني من عزمي- ص 8”.

ومع انطلاقه تحضر دائماً الأم ورائحتها العذبة بثوبها الأبيض وهي تؤدي صلاة الفجر متوحدة مع الله ويحضر الأب برمزه: شجرة الرمان التي زرعها وهي بدورها رمز أمومي أيضا.

والغريب أنّ الراوي قد حدّد توقيتا خطيرا لمهمته التي سوف نرافقه فيها حيث كانت المدينة مشتعلة بالقتال بين المليشيات الدينية التي تسيطر على النصف الجنوبي من المدينة، وقوات الحكومة التي تسيطر على قسمها الشمالي والمركز . وتقع محلته  “حي العصري” على خط التماس بين القوّتين المتقاتلتين. ألم يكن بمقدوره أن يحدّد توقيتاً آخر بعد أن يهدأ القتال خصوصا أن أصدقاءه نصحوه بأن يلزم البيت إلى أن يهدأ الوضع. وبسرعة نقول أنّ الناجين ينم لديهم ميل لتدمير الذات وعقابها عبر سلوكيات عديدة تأخذ عادة مبرّرات وأغطية “منطقية” وأحيانا برّاقة. فالراوي ينتزع نفسه بعناء من الشجن وهاجس الخوف ويخاطب نفسه ومن خلالها نحن ويقول:

“- قد لا تراه أبدا- ص 8”.

وينطلق بعزم لتنفيذ مهمته. وفي هذا الخطاب يقدّم لنا “جرعة” أولى عن المهمة التي لا نعرف أين وجهتها ولا طبيعتها سوى أنها تدور الآن حول رؤية شخص غير محدّد يخشى أن يحصل ما يجعله لا يراه أبدا. مَنْ هو؟ وأين؟ وما هي علاقته بالراوي؟ وما هي أهميته التي تجعل الراوي يتحمل مخاطر قد تصل حدّ الخطف والقتل ليراه؟ وغيرها من الأسئلة الملحة التي تبحث عن جواب في أذهاننا. وكلما تحركت في داخله حفزات تربط إرادته في الانطلاق وتحاول إعادته قمع هذه الحفزات من خلال استعادة مواجهاته السابقة مع الموت، فقد ركب أشدّ الأخطار، وكاد يموت غريباً، فلماذا التردد عن إكمال مهمته؟ وبطبيعة الحال، فإن تقليب كل المبررات التي يقدّمها للخروج وسط القتال المشتعل تنهار ولا تصمد تجاه أي تبرير منطقي. وفي استطالة “نظرية” يحاول ترقيق دفاعات القارئ ومحاكمته العقلية لتصرّفه يعيدنا إلى شعور يقول أنّه انبثق لديه منذ ليل الزنزانة الأولى ويتمثل في رغبة واهنةٌ – المفترض أن تكون قوية وفق السياق النفسي للسرد – تنتابه لحظة الاستيقاظ فجر كل يوم؛ رغبة في معانقة الكل، المرأة والشجرة، العدو والصديق، الضوء والظلام، الماء والنار، التراب والعشب، الله والحشرة، حلمٌ صغيرٌ بحب جميع ما في الكون (ص 10).

حفلة تعذيب..

حلمٌ أشتعل في ليلِ قبو ضيقٍ عفن وأنا شبه عارٍ أنزف وأرتجف من شدة البرد والذعر، حلمٌ ظلَّ متوهجاً في خنادق الحرب، وبين الثوار في جبال العراق حيث نزعت فكرة قيام مدينة فاضلة بالقوة، الإحساس المبهم نفسه، إحساسٌ مجردٌ يُسقط الأسباب، الذرائع، المعنى. ينتابني الآن وأنا أتوجه نحو بغداد التي عادت مجهولة على محبّيها. إحساس استولى على كياني قبل أكثر من أربعين عاماً وهم يدفعونني على درج ينزل إلى فسحة بالكاد تسع الجسد بعد حفلة تعذيب في بناية وجدتها مهجورة وسط الديوانية جوار الجسر الرابط بين شارع السراي وشارع سينما الثورة.. في خضم هذا الشعور القديم الجديد أتساءل:

– لِمَ يحدث كل هذا؟!.

– ولِمَ لا يحب الإنسان أخاه الإنسان؟!- ص 10).

وهي استطالة “رومانسية” تعكس موقفا إنسانيا رائعاً ومعضلة فلسفية ونفسية عصيّة حيّرت العقل الإنساني حتى يومنا هذا ولو آمن بني البشر بهذا الموقف وحلّت الفلسفة هذه المعضلة الأزلية لعشنا في جنّة الله على أرضه. ومن النادر الفريد والفذّ أن يكون ردّ فعل السجين السياسي الذي يتعرض لأشكال مدمّرة من التعذيب الجسدي والنفسي هو موقف متسامح منفتح (أمومي) يطمح إلى أن يحتضن الكون بأسره بكل متناقضاته وتوحّداته. ولأنه يؤمن بهذه الفكرة المتضمنة في الرغبة التي تجتاحه كل صباح ، الرغبة التي تقفز فوق الأسباب والذرائع فقد قرّر أن ينطلق نحو هدفه وسط المخاطر الماحقة، ليردّ بأنموذجه السلوكي مؤكدا أن بإمكان الإنسان أن يحب أخاه الإنسان، وها هو يحقن تطلّع المتلقي بـ”جرعة” أخرى حين يخاطب خيال “هدفه”:

“- سأراك.. سأراك برغم كل شيء!– ص 11”.

وصرنا الآن نعرف أن وجهة الراوي المكانية هي “بغداد” التي لم يعد يعرفها محبّوها.. وهناك سيرى “هدفه” الذي يندفع نحوه كفعل تطبيقي لتلك الرغبة الإنسانية العظيمة. لكن الردّ يأتيه سريعا حين يواجهه ضوء شديد السطوع يعمي بصره وصوت خشن يأمره برفع يديه وملثمون يحيطون به من جهتي الشارع وهم يوجهون فوهات بنادقهم نحو صدره (ص 11). ولكن شاباً يافعاً ينقذه من هذا الموقف الخطير، هو إبن رفيق له أيام كانوا يناضلون ضد الدكتاتور “حالمين بمجتمع لا غني فيه ولا فقير”(ص 11) . ولا أعرف ما هو حال الإنسان في مجتمع لا هو غني فيه ولا فقير؟!! وهذا الشاب اليافع وبعد أن يلوم الراوي لخروجه في هذا الوقت المتأزّم يهمس في أذنه:

“- مِثِلْكُمْ عمي أحنه نريد العدالة والمساواة ومجتمع ما به فقير!.(ص 12)

كان ردّ فعل الراوي على هذا الكلام هو رغبة في الضحك كتمها بسبب طبيعة الموقف. ومبعث هذه الرغبة الساخرة هو المقارنة التي عقدها بين الحلمين اللذين جعلهما فتى الميليشيات حلما واحدا. فقبل أيام شهد الراوي حفلة جلد علنية لمجموعة من شباب المدينة منهم أصدقاء له لأنهم كانوا يشربون الخمرة سرّاً ويتسامرون. ساقوهم نصف عراة وجلدوهم حتى الإغماء. حملة حلم المدينة الفاضلة هؤلاء “عذّبوا وقتلوا حلاقات المدينة، باعة الخمر، أسروا عشرين جنديا مسكيناً وأعدموهم أمام أنظار الناس في الساحة الفاصلة بين حي العصري وحي النهضة.. ابتزوا تجار السوق وأثرياء المدينة، وقتلوا من لم يدفع- ص 12).

“تخيير” الأسير..

مقابل ذلك كان حلم الراوي ورفاقه في ثمانينيات القرن الماضي حينما كانوا يرفعون السلاح بوجه الدكتاتور في الجبال مناقضا كما يقول. “لم نقتل جنديا أسيراً، بل كنا نطلق سراحه ونخّيره بين البقاء في صفوفنا، أو العودة إلى أهله، أو اللجوء إلى إيران. لم نبتز أحداً، نعالج مرضى القرى. وكنا نشارك العائلة غرفتها الوحيدة في القرى التي ليس فيها جوامع، فنقضي ليلتنا نائمين جوارهم- ص 12 و13).

وقد لفت انتباهي ذكر الراوي لعملية “تخيير” الجندي الأسير، كيف يعود إلى أهله والجندي مرتبط بمهنته العسكرية حتى الموت وسوف يُحاسب ويُحقّق معه حول أسره وعودته؟؟ وكيف يتم تخيير جندي من جيش مُكلّف وبالتدريب المستمر بالقتال دون مناقشة أن يلجأ إلى دولة الجيش الذي يحاربه؟! إن مسألة مناقشة عدالة الحرب ليست من مسؤولية الجندي المحترف وهو ما تقرّه جميع الجيوش.

وبعد أن ينهي مقارنته المتهكمة بين الحلمين لصالح حلمه يقول:

“حثثت خطاي متشوقا للقاء “أحمد” متخيلاً شكلهُ بعدَ أكثر من عشرينَ عاماً:

– ماذا فعل به العراق في غيابي؟!- ص 13″.

فنعرف الآن عبر جرعة ثالثة أن اسم “هدف” مهمته هذه هو “أحمد” الذي فارقه منذ أكثر من عقدين وأنه يبغي معرفة حاله وما الذي فعلته محن  العراق بصاحبه هذا.

ومن هنا يبدأ باستعادة وعرض شريط ذكرياته مع “أحمد” الذي دعانا إلى مرافقته في مهمة زيارته في بغداد. لقد تعرّف عليه أيام كانا طالبين في إعدادية زراعة الديوانية. كان أحمد أكبر منه بأربع سنوات بسبب تأخيره في مرحلتي الدراسة الابتدائية والمتوسطة. كان الراوي محتدماً بالأفكار الثورية وبالثقافة والحوار ولذلك ابتعد عن رفاق محلته وزملائه في المدرسة لتباين الانشغالات وفقدان لغة الحوار والثقافة المشتركة وصارت علاقاته ترتبط برجال أكبر منه سنّاً كاد يتعرّض للاعتداء الجنسي على أيدي بعضهم خصوصا أن في شكله لمسة أنثوية كما يقول. وفي تلك الأيام تعرّف على أحمد فوجد فيه بديلا لكل الصلات المفقودة. كانت علاقة نشأت سريعا ومنذ الطلب الأول من أحمد للمشي والتفسّح سوية. صارت علاقة شديدة العنفوان وتشبه الإدمان. وهذه من سمات علاقات مرحلة المراهقة التي تأتي اندفاعية ساخنة فيها من علاقات الحب بين الجنسين الكثير من الخصائص والملامح. يقول الراوي:

“صِرنا نتغّيب عن المحاضرات ونهيم بين حقول الإعدادية الشاسعة الواقعة على ضفة النهر جنوب المدينة. كان رقيقا، ذا نبرة خافتة، لا يتكلم إلا عند الضرورة. بالمقابل كنتُ ثرثاراً محتشداً بالحوار والأسئلة والماركسية وقيم الثورة والمساواة. تعلقتُ بهِ بشدة، هو كذلك، سنتكاشف بودنا الفائق لاحقاً بعد توطد العلاقة وصفائها من الشوائب، كنتُ فرحاً به فها أنذا أعثر أخيراً على صديقٍ لا ينوي بيّ سوءاً، لكن في ظهيرةٍ حارةٍ وبعد أن قطعنا مسافةً في حقولِ الحلفاءِ المصفرة. استوقفني جوارَ ساقيةٍ صغيرةٍ. حملقَ في وجهيّ بارتباك وَبَلع ريقه مراتٍ قبل أن يقول:

– أنْسَوي (بَدْلِي)!- ص 15 و16”

والبدلي بالعامية العراقية تعني طلب ممارسة الاتصال الجنسي بالتناوب بين طرفين. وهو طلب شنيع ومُهين جعل الراوي ينصعق ويغلي ويطرد أحمد ويقطع علاقته به. لم يفلح أحمد في إلغاء القطيعة برغم كل محاولاته.

لكن ذلك الحال لم يدم طويلا كما يقول الراوي فقد خطفه رجال الأمن وألقوه في زنزانة ضيقة تيبست بقع الدم على جدرانها وأرضيتها وعرّضوه لتعذيب جسدي ونفسي مرعب. كان ذلك في شتاء 1971 وكان في السابعة عشرة من عمره. خرج من الاعتقال مرعوبا منكسراً فاقد الثقة في كل شيء بعد أن واجه مسؤوله الحزبي وجها لوجه معترفاً عليه فصدّق أقواله.

ولعل من أخطاء الأحزاب السياسية الكبرى وآثامها الباهظة في الحياة العراقية – وهذه من سمات ما سأسمّيه هنا “الحالة العراقية” – هو زجّ الأطفال – والمراهقة هي مرحلة الطفولة المتأخرة علميا – في أتون العمل الحزبي والسياسي. ولعل الوزر الأكبر من هذه الخطيئة يتحملها المعلّمون بمختلف مستوياتهم مدرسين وأساتذة.  لقد أفسد الأساتذة ومن خلفهم القادة السياسيون الذين كانوا يوجهونهم ويدفعونهم لـ “كسب” تلاميذ المدارس الصغار والمراهقين حياة جيل بأكمله. والتلميذ هو – اصطلاحيا وإجرائيا – “الذي يتلقى المعرفة وهو واقع في صميم الدهشة العقلية الأولى ممّا يجعلُ العمليات التعليمية والتربوية تواكبها ردود فعل نفسية وعقلية وسلوكية خاصة” . أمّا الطالب فهو “الذي يكون قد تجاوز ردود فعلِ الدهشة المعرفية الأولى ودخل مرحلة التعمّق الناضج والتعامل مع الكليات المعرفية وممارسة أنماط من التركيب أشدَّ تعقيداً من أنماط ممارسة التلميذ” . ولهذا نقول “طلبة العلم” ولا نقول “تلاميذ العلم” من المعاهد والكليات صعودا. هؤلاء التلاميذ الذين نَسِمهم بردود الفعل المندهشة يطغى عليهم الحكم والتفكير الانفعالي، وفي هذا مقتل السياسة وتحويل العمل السياسي إلى عمل عنفي في الجانبين السلبي والإيجابي، وكلاهما سلبيّ. ففي الوقت الذي تتطلب السياسة فيه الحكم العقلاني الهادئ بل حتى الماكر أحياناً، تختنق الحركات السياسية بقواعد من “التلاميذ” تفكّر بقلوبها لا بعقولها وتتحكم فيها الأهواء.

نفس هذه القواعد سوف تصبح مستقبلا “قيادات” لأن العملية التعليمية هي التي تخرّج كل المستويات القيادية المقبلة في المجتمع بعد أن يتحول التلاميذ إلى طلاب ثم قادة. هؤلاء الذين مارسوا العمل السياسي الإنفعالي وهم مراهقون هم الذين تصدّوا لاحقاً لقيادة العمل السياسي في العراق كما رأينا واقعيا وكما سنرى سردياً. لقد أفسدت هذه الأحزاب القطيعية طفولة حتى هؤلاء المراهقين. فبدلا من أن ينشغلوا بالاهتمامات الجمالية المناسبة لأعمارهم ودوافعهم صار هؤلاء المراهقون الصغار يمارسون أفعالا أكبر من أعمارهم أجهضت روح الطفولة فيهم وبراءتها وحوّلتهم إلى كيانات تهذر بالشعارات والأفكار العقائدية السياسية لفظاً وتسلك سلوكيات طفولية هوجاء عنف واندفاعا وحماسة مغطاة بشعارات السياسة البراقة. وإلّأ كيف نفسّر أن شخصاً يقضي الساعات وهو يستمع إلى صديق له يحدثه بحماسة عن الماركسية وقيم الثورة والمساواة فيطلب منه المضاجعة المتبادلة؟؟ كيف؟ وفي الحقيقة فإن هذا هو المتوقع- علمياً تحليليا برغم كل الأحراجات- في الاندفاعات السرّانية لعوالم المراهقة وكل أنشطة هذه المرحلة الفكرية والاجتماعية والرياضية مبطنة بقدر من المحفزات الجنسية.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة