رواية “باهبل”.. النساء حبيسات جدران الروح

رواية “باهبل”.. النساء حبيسات جدران الروح

خاص: قراءة- سماح عادل

رواية “باهبل”للكاتبة السعودية “رجاء العالم”، تحكي عن النساء السعوديات في فترة منتصف الأربعينات من القرن الفائت والأجواء الاجتماعية التي عشنها وكل التفاصيل الحياتية التي تخصهن.

الشخصيات..

عباس السردار: البطل، تبدأ الرواية به، يبدو رجلا غامضا، لنكتشف أنه عاني طوال حياته من فصام نفسي، وأنه تربي علي يد النساء، عماته في بيت عائلته الكبير بيت السردار. وأنه ظل يعاني طوال حياته إلي أن أنهاها بنفسه.

مصطفي السردار: رأس عائلة السردار، عائلة غنية تعيش في مكة، وتعمل في التجارة، ويتصف هذا الرجل بالقسوة والتشدد، والتسلط والتحكم في أبناءه وبناته، حتي أنه يحكم عليهن ألا يخرجن من البيت وألا يراهن أحد، كما تحكم في مصائرهم جميعا، وجعل حيواتهم أقرب إلي المأساة.

قمرية- سكرية: ابنة “مصطفي السردار” من جاريته “فرح”، لم يكن يريد الاعتراف بها، حتى أنه كان يصطحبها معه إلي السوق، لكنه أجبر علي الاعتراف بها، وأصبحت حياتها منذ ذلك الاعتراف جحيما.

سكينة: زوجة “مصطفي السردار”، ويحبها كثيرا، رغم أن حظها العاثر جعلها تتزوج قبله مرتين، لكنه كان يعاملها بمحبة وود ويسمع كلامها، ويهتم بها.

حورية: الابنة الكبرى ل”مصطفي السردار” تميزت بجمال آخاذ وعينين زرقاوين، وكان جمالها هذا وبالا عليها حيث رفض والدها تزويجها، وقام بتهديد الرجل الذي خطبها منه يوم الزفاف، وظلت حبيسة في بيت أبيها إلي أن ماتت نتيجة حادثة في الحرم في شبابها.

نورية: كان حظ “نورية” أفضل من باقي أخواتها، حيث شاءت الظروف أن يوافق والدها علي تزويجها من شاب من عائلة غنية، بعد أن ضغط عليه المقربون، وعشقها ذلك الشاب وظل طوال حياته يعاملها بشغف ومحبة وود، وكانت هي تحب الحياة والتمتع بكل مظاهر الترف والبذخ.

نوري: الشخصية الأخرى التي اختلقها خيال “عباس” الذي انصدم من حادثة عنف جرت في الحرم، ماتت فيه عمته “حورية” فخلق رفيق وهمي مناقضا تماما لطبيعته، ظل طوال حياته يتوهم أنه رفيقه. ساعدته في ذلك عمته “نورية”.

الراوي..

راو عليم، يحكي عن النساء، وعن عائلة السردار، يبدأ بالتنويه عن حكاية “نورية” و”عباس” وكونهما شخصان حقيقيان وأن ما بقي هو من خيال ذلك الراوي. ثم يحكي عن “عباس” في الوقت الحالي بضمير الغائب، ثم يعود فلاش باك إلي فترة منتصف الأربعينات في القرن العشرين لكي يحكي بشكل تصاعدي قصة حياة عائلة السردار ويركز علي شخصيات بعينها أغلبهم من النساء. ثم يعود إلي الزمن الحاضر ويركز في معظم حكيه عن “سكرية”، وعن “نورية” وعن “عباس”.

السرد..

الرواية تقع في حوالي 337 صفحة من القطع المتوسط، تبدأ بمقدمة للكاتبة أو الراوي لكن لا يعرف الراوي نفسه، ثم عناوين ملحقة بتواريخ، وينتقل الحكي بسلاسة من الزمن الحاضر الذي لم يطل وانتهي ب انتحار “عباس” المفاجئ والصادم، لنبدأ الحكاية من أولها ونعايش شخصيات نسائية حية نشعر كأننا نراها من دقة التفاصيل التي تحكيها الكاتبة عنهن.

ثم نعود للبداية مرة أخري، الحاضر، بعد انتحار “عباس” ثم اكتشافه للأمر وتحرر روحه من معاناتها وأوجاعها. لتنتهي الرواية علي ذلك.

نساء حبيسات الجدران..

أهم ما ترصده الرواية، وبوعي كامل هو واقع النساء في المجتمع المكي في الفترة ما بين منتصف أربعينيات القرن العشرين وحتى بداية القرن الجديد وعام 2009. مجموعة من النساء التابعات لعائلة السردار والتي صرح الراوي أنها من خلق خياله. عائلة غنية فاحشة الثراء، لكنها تتبع الأعراف في ذلك الوقت التي كانت تقضي بأن نساء العائلات الغنية لا يبرحن بيوتهن إلا للضرورة القصوى، وأن المرأة الحرة سليلة العائلات الكبيرة مكانها هو بيتها، لا يراها أحد ولا تتعامل مع أحد، وتري الكاتبة أن تلك عبودية فرضت فرضا علي النساء وحرمتهن من الحق في الحرية وفي ممارسة حياتهن بشكل طبيعي.

نري أب صارم رغم كون أمه مصرية ومتحررة من تلك الأعراف والقيود، تزوجها أبوه بعد أن أحبها وهي في زيارة لأداء مناسك الحج، لكنها سرعان ما تكره تلك الحياة المنغلقة وما يستتبعها من سلوكيات مريضة وخانقة، وتقرر الانفصال عن زوجها والعودة إلي بلدها، ورغم أن ابنها ظل علي صلة ضعيفة بها إلا أنه تمسك بكل قواعد وتقاليد ذلك المجتمع المنغلق.

حتى أنهم في منتصف الأربعينيات كانوا ما يزالوا يحتفظون بجواري في بيوتهم يقمن علي خدمة الأسياد ويتم التعامل معهن كملك يمين يضاجعهن السيد كيفما شاء، وينجب منهن علي هواه، ويزيد في ظلمه فيمتنع عن الاعتراف بنتاج ذلك الاتصال الجسدي.

مأساة..

وهذا ما حدث مع “قمرية” التي رفض “مصطفي السردار” الاعتراف بأنها ابنته حتى أنه كان يتهم أخيه أنه هو من أنجبها وكان يصطحبها معه إلي السوق، ثم مع ضغط أخيه يعترف بها وتبدأ رحلتها في أن تكون سجينة الجدران. ويفقدها ذلك صوابها لأنها تربت علي الخروج وعلي رؤية الناس والشارع والسوق، وتتمرد علي تلك القواعد الجديدة التي فرضت عليها لكن تلاقي قسوة وعنف شديدين من ذكور العائلة.

وحين تحاول الجدة المصرية حل المشكلة وتأخذها معها إلي مصر لا يفيدها ذلك كثيرا، لأنها تكون رحلة قصيرة لا تلبث أن تعود بعدها إلي الجدران لكن بوعي بأهمية حريتها كأنثي .تساعدها الجدة بإرسال الكتب إليها بشكل دوري، ورغم منع “مصطفي السردار” تلك الكتب عن “سكرية” إلا أنها بالحيل تستطيع فتح خزانة الوالد وقراءة تلك الكتب.

ولا يكتفي الوالد بذلك بل يقدمها إلي حياة مأساوية بتعمد حين يضغط عليه الأصدقاء لكي يزوج ابنتيه لشابين من عائلة الاسطنبولي الغنية، ويحين يشعر أن أحدهما غير طبيعي يقرر تزويجه لابنة الجارية السمراء “سكرية”، التي لا يعتبرها ابنته كما الباقيات، ويزوج “نوريه” من أخيه الأصغر، وتصبح حياة “سكرية” مأساوية لأن زوجها لا يميل إلي الإناث وإنما يميل إلي الذكور. وسرعان ما يطلقها وتحرم “سكرية” من زواج تشعر فيه بالأمان وتصبح مطلقة وهي في سن صغيرة، وتتوقف حياتها علي ذلك، وتحرم من أن تكون أما وزوجة سعيدة، وتسوء أحوالها النفسية دون أن يهتم والدها بما جري لها.

ملكية خاصة..

وقد حول حياة “حورية” هي الأخرى لمأساة حين رفض تزويجها من رجل أحبها وزوجه لأخت لها أخري، ثم حين طلبها رجل آخر واضطر علي أن يوافق قام بتهديد ذلك الرجل وجعله يفر من حفل الزفاف لتبقي “حورية” حبيسة جدرانه والوحدة. وكأنه يري أن بناته ملكية خاصة له، يتصرف فيها كيفما شاء.

حتى “نورية” التي كان حظها جيدا بأن رزقها الله بزوج يحبها ويتمني إرضاءها بكل الطرق، حاول “مصطفي” حرمانها منه عندما رآها ترتدي فساتين وتركب السيارات في الشارع وأمام الناس، ولولا تدخل أمها “سكينة” وإصرار زوجها علي الرجوع إليها كانت حبست هي الأخرى.

ينسحب الأمر علي النساء في تلك الفترة الذين عاشن في المجتمع المكي وربما في الدولة كلها، حيث كن حبيسات الجدران خاصة مع علو شأن عائلاتهن، لا يتمتعن بحياتهن، يحرمن من القراءة ومن التعليم ومن تفاصيل الحياة .قد يتمتعن بالملابس والزينة والمأكل الطيب لكنهن مجرد حبيسات، ولا قرار لهن في أي شيء يخص حيواتهن.

تطور..

مع تطور المجتمع والثراء العجيب الذي ظهر في المجتمع لم يختلف الحال بالنسبة للقواعد والأعراف فقط أصبح المجتمع المكي والمجتمع السعودي كما هو، لكن بمزيد من الرفاهية، رفاهية داخل حدود الجدران فتسني للجيل التالي من النساء أن يشاهدن الأفلام المصرية والسينما وأن يتعرفن علي الحب والغرام والحكايات.

لكن اختلفت الأحوال بالتدريج ونشأ جيل متعلم يستمتع برفاهية كبيرة ويتخذ من الاستهلاك علامة له، وأكبر مثال علي ذلك زوجة “عباس” التي كانت تهتم بحياتها وتتمتع بكل الرفاهيات من منطق الاستهلاك الكبير.

لا حدود بين الموتى والأحياء..

تميزت الرواية بأنها تخيلت تواصل قوي ما بين الموتى من هذه العائلة وما بين أحياءها، خاصة “سكرية” التي كانت تتواصل مع الموتى و”عباس” حتى أنه في نهاية الرواية يحكي الراوي عن روح “حورية” التي ظلت ملازمة للمنزل مع باقي أفراد العائلة، وكان “عباس” يظنها حية نتيجة لمرضه النفسي. واكتشف مؤخرا موتها حينما اكتشف موته هو أيضا، هذا التداخل ما بين عالم الموتى وعالم الأحياء أعطي للرواية ثراء وغني.

مجتمع ينتصر للذكور..

صورت الرواية مجتمع يعطي كل الحقوق للذكور من الأغنياء، حتى أنه يترك لهم الجواري ليتمتعون بها وسمح لهم بتحديد مصائر الأبناء ذكورا وإناثا، ويسمح لهم بأن يحولوا حياة الإناث إلي جحيم، دون تدخل من أحد فرب الأسرة هو المتحكم الوحيد في كل شيء. لكنه مع ذلك يضطهد الذكور الذين يخالفون تلك التصورات، “عباس” عاني كثيرا مع والده لأنه كان يريد حياة مختلفة وكان يريد أن يسير بحياته في اتجاهات لم يرسمها له والده، يمكن القول أنه ينتصر للذكور لكنه مع ذلك يضع لهم إطار لا يحيدون عنه ، ومن يحيد عنه يتم اضطهاده.

استطاعت الرواية أن تقدم صورة حية عن المجتمع المكي من خلال أسرة “السردار”، وأن تقدم تفاصيل دقيقة، وتميزت في استخدامها لخصوصية اللهجة في جمل كثيرة قيلت علي ألسنة الشخصيات، كما رسمت شخصيات حية عميقة وصورت أحاسيسها الإنسانية بدقة وبراعة. وكان خيال الكاتبة بارعا في رسم الشخصيات وتصوير تفاصيل الأماكن وملامح الشخصيات وبيت السردار .

الكاتبة..

“رجاء محمد عالم” روائية سعودية من مواليد 1956 في مكة، درست الأدب الإنجليزي في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، عام 1980، بدأت مشوارها كاتبةً في صفحة (حروف وأفكار) في جريدة الرياض، وكذلك في الملحق الأسبوعي التابع للصحيفة نفسها. قامت بتوثيق البيئة المكية/ الحجازية في رواياتها. تختص رواياتها بسردية رمزية صوفية عميقة، وفق رؤى كونية مفتوحة. ترجمت بعض أعمالها للإنجليزية والإسبانية.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة