24 سبتمبر، 2024 5:26 م
Search
Close this search box.

رواية الوجه الآخر.. ترصد البطل السلبي في ظل حياة بائسة

رواية الوجه الآخر.. ترصد البطل السلبي في ظل حياة بائسة

خاص: قراءة- سماح عادل

في رواية “الوجه الآخر” للكاتب العراقي ” فؤاد التكرلي” والتي صدرت في خمسينات القرن الفائت ترصد بطلا ضد، بطلا سلبيا يعيش داخل ذاته ويتفرج على آلام الآخرين من حوله.

الشخصيات..

محمد جعفر:البطل، موظف حكومي، فقير الحال، يحب القراءة والكتابة، يعيش حياة بائسة لكنه يفضل أن يكون سلبيا تجاهها، يفكر كثيرا داخل عقله لكنه لا يقوم بأي فعل ايجابي، ولا يعرف لماذا يفعل ذلك.

سعدية: زوجة البطل، فتاة بضة وجميلة تتعرض لمأساة وتتحول نتيجة لذلك لتصبح مهزومة وفاقدة الثقة في نفسها ثم يتخلى عنها زوجها.

أم سليم: سيدة جميلة ذات صوت ساحر،  تعيش في نفس البيت الذي يعيش فيه محمد جعفر.

سليمة: فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، ابنة “أم سليم” تسعى لتزويجها من الرجل العجوز الذي يسكن معهم في نفس البيت، “سيد هاشم” وبالفعل تزوجها له.

سيد هاشم: مرابي عجوز رث الثياب معتل الصحة، رغم أمواله الكثيرة لكنه بخيل حتى على نفسه، لدرجة أنه ترك إحدى عينيه دون علاج حتى أصيبت بالعمى، يتزوج من “سليمة” ويمتص أموال الفقراء الذي يقرضهم المال.

أبو خليل: زميل “محمد جعفر” في عمله، رجل يدخن كثيرا ويقتصر حضوره على بضع كلمات يتبادلها مع البطل.

عبيد : الساعي الذي يحمل الشاي ل”محمد جعفر”، والذي يعطيه شايا سيئا نتيجة لأنه لم يسدد دينه لرب عمله.

الراوي..

الراوي يستخدم ضمير الغائب ويحكي عن البطل “محمد جعفر”، عن أفكاره الكثيرة وإحساسه بمن حوله ويغوض عميقا في نفسية ذلك البطل، في حين أنه يرصد باقي الشخصيات بشكل سطحي، يصورهم من خلال عيون البطل وأفكاره وانطباعاته عنهم، ولا يمكن اعتبار الراوي راوي عليم لأنه لا يكشف عن أحاسيس باقي الأبطال الداخلية ولا يرصد أكثر ما يستطيع رصده البطل “محمد جعفر” نفسه.

السرد..

السرد منذ البدء يهتم بتصوير أفكار البطل وأحاسيسه وهمومه ومخاوفه، وعندما يتحرك البطل تكون حركته محملة بوصف كثير لما يدور بداخله، السرد مكرس ل”محمد جعفر” الذي يتصرف إزاء الحياة بسلبية لكنه مع ذلك لا يرضى عنها تماما، الرواية قصيرة تقع في حوالي 120 صفحة من القطع المتوسط.

الحوار..

تتميز الرواية بأنها تستخدم اللهجة العامية العراقية في الحوار، مما أضفى على الرواية خصوصية المجتمع الذي تدور فيه، وقد أعطى الكاتب للحوار مساحة كبيرة نسبيا حتى يترك الشخصيات تعبر بلسانها عن نفسها، معوضا بذلك التهميش الذي عامل به باقي الشخصيات ما عدا البطل.

بطل سلبي أناني..

صورت الرواية بطلا سلبيا أنانيا يفكر كثيرا ولديه همومه ومخاوفه الكثيرة التي تزدحم بها ذاته وعقله، يقلب الأفكار في عقله ويستطيع القارئ الاطلاع عليها بسهولة، يكره عمله الذي لا يتقاضى منه سوى أجر ضئيل بالكاد يكفي لإعاشته هو وزوجته، يعيش في حجرة صغيرة في أحد المنازل المتواضعة في حي شعبي مع “أم سليم” و”سيد هاشم” وأسرة كردية تصدر صخبا، لكنه يطفئ سخطه بحلم إنجاب الطفل الذي تحمل به زوجته، يرهن ذهبها حتى يحصل على مبلغ من المال يكفي لأن تلد في إحدى المستشفيات ويزيد عليه الدين بسبب ذلك، لكنه لا يهتم فزوجته الجميلة البضة والناعمة ذات الشعر الأسود ترضيه ويرضيه كونها حاملا بولده، رغم ذلك لا يمنع نفسه من النظر للفتيات الصغيرات في الشارع واشتهائهم ومن النظر إلى سليمة تلك الطفلة التي تؤنس وحدة زوجته، وإلى أم سليم نفسها التي يسحره صوتها الأنثوي.

بؤس الحال والفقر قد يرهقه لكنه يتغلب عليه بأحلام حول المستقبل، ورغم أفكاره الوجودية عن جدوى الحياة والمستقبل والحاضر إلا أنه يبدو في بداية الرواية متفائلا، ورغم ذلك حين يستجير به أحد الرجال طالبا منه أن يوصله إلى المستشفى لأنه يحتضر يتركه ويمشى دون أن يساعده، ويركب الباص وهو يتساءل في نفسه لما ترك الرجل يحتضر دون أن يساعده، معترفا أنه مختلف عن الآخرين وأنه لا يستطيع فعل أكثر مما فعل.

تتحول حياة “محمد جعفر” إلى مأساة، يموت طفله وتصيب زوجته حمى دماغية تؤدي إلى إصابتها بالعمى ورغم ثقل وطأة تلك المأساة يجد نفسه هادئا في خضمها، ويشعر أنه يتفرج على الألم ولا يتألم، يسمع صراخ زوجته ويزعجه كثيرا لكنه لا يتألم بالفعل، يشاهد كأنه شخص غير متورط في كل ذلك.                

تفقد “سعدية” ثقتها في نفسها، تسوء حالتها مع الأيام لكنه يتفرج كالعادة، لا يساعدها في شيء، تقوم السيدات في المنزل بمساعدتها ويجلب هو لها طعاما جاهزا، ثم يتفق مع أم سليم على تجهيز الطعام مقابل المال، ويبدأ ينفر من زوجته التي تحولها مأساتها إلى كائن بائس، يكره مشاهدتها وهي تبكي وتصرخ أوهي تأكل، وينصرف إلى مراقبة “سليمة” التي تتزوج من “سيد هاشم” ويتحول جسدها من جسد طفلة إلى جسد امرأة، يشعر في عينيها أنها تحبه ويحاول التقرب منها وملامستها لكنها ترفض ثم تعود وتطلب منه المجيء إلى غرفته، وهو بعد أن يصل نفوده من زوجته إلى مداه يطلقها دون أن يخبرها ويعيدها إلى أهلها في بعقوبة،  فقد أخفى عن زوجته أنه طلقها خوفا من أن تغضب وهي استسلمت لأمر ترحيلها إلى أهلها وأعجبه استسلامها.

لا يدين الكاتب البطل أبدا ولا يتدخل على الإطلاق وإنما البطل نفسه هو الذي يستعرض أفعاله ويقيسها بأفعال الآخرين المتخيلة، لكنه مع ذلك لا يدين نفسه وإنما يستسلم لكونه كذلك وأن طبيعته تختلف عن طبيعة الآخرين الذين ربما يشاركون زوجته “سعدية” ألمها وربما عماها لكنه ليس مثلهم وفقط.

الرواية شديدة الروعة صدرت في الخمسينات من القرن الماضي وترصد هموم الإنسان ومخاوفه في حياة ظالمة لا عدل فيها، يضطر أن يعيش فيها حياة كاملة في فقر مدقع محروما من كل تلك المتع التي يتمتع بها آخرون ويبقون شرفاء .

الكاتب..

“فؤاد التكرلي”، روائي عراقي استطاع أن يؤلف روايات قليلة، إلا أن مساحة تأثيرها كانت أكبر لكونها نموذج للروايات الكلاسيكية الحديثة ببنائها. وهو روائي عراقي أسهم في تطور الثقافة العربية وأثرى المكتبة العربية بالكثير من قصصه الأدبية.

ولد التكرلي في بغداد عام 1927، ودرس في مدارسها، وتخرج من كلية الحقوق عام 1949، ثم عمل ككاتب تحقيق وبعدها محاميا، ثم قاضيا، وتولى عدة مناصب في الدولة ومنها في القضاء العراقي حيث تم تعيينه قاضيا في محكمة بداءة بغداد عام 1964، وبعدها سافر إلى فرنسا ثم عاد ليعين خبيرا قانونيا في وزارة العدل العراقية. وعاش في تونس لسنوات بعد تقاعده، وعمل في سفارة العراق بعد حرب الخليج عام 1991، وألف القصص بأسلوب أبداعي متميز.

ينتمي التكرلي إلى عائلة ذات حظوة دينية ومكانة اجتماعيّة متميزة، وإذا كانت هذه العائلة، بتفرّعاتها المختلفة قد تمتّعت بمباهج السلطة في بداية الحكم الملكي في العراق، فإنّها سرعان ما تخلّت عن الدور الذي أنيط بها مؤقتاً لجيل جديد من السياسيّين نشئوا تحت الراية العثمانية وتعلّموا صرامة عسكرها، لكنّهم تعلموا أيضاً من الاحتلال البريطاني بعض عناصر الحداثة الأوروبية. وقد أدى ذلك إلى فترة انفراج نسبي اجتماعيّاً أسهمت في إظهار ذلك الجيل الذي لا يتكرّر من المبدعين أو ساعدته على إنضاج تجاربه.

نشر “التكرلي” أولى قصصه القصيرة في عام 1951 في مجلة الأديب اللبنانية، ولم ينقطع عن نشر قصصه في الصحف والمجلات العراقية والعربية، كما صدرت له في تونس عام 1991 مجموعة قصصية بعنوان (موعد النار). وفي عام 1995 صدرت له رواية (خاتم الرمل). وكتب روايته الأخيرة (اللاسؤال واللاجواب) عام 2007. كانت له أيضا مؤلفات أخرى مثل خزين (اللامرئيات) و(الرجع البعيد) التي أسست لخطاب روائي متميز وأرخت لحقبة تاريخية مهمة في الحياة العراقية وكانت مفعمة بالروح والأعراف الشعبية ونكهة كل وجبة وبهاء كل طقس اجتماعي لأهل بغداد العجيبين.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة