25 ديسمبر، 2024 5:40 ص

رواية المدينة والعامود.. كشف عالم المثلية تزامنا مع الحرب العالمية الثانية في أمريكا

رواية المدينة والعامود.. كشف عالم المثلية تزامنا مع الحرب العالمية الثانية في أمريكا

خاص: قراءة- سماح عادل

رواية (المدينة والعامود) للكاتب الأمريكي “غور فيدال” نشرت في 1948، وكانت من أولى الروايات الأمريكية التي تتناول ظاهرة المثلية الجنسية، وأول رواية أمريكية تنشر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تميزت بجرأة شديدة لأنها رصدت عالم المثليين جنسيا من الذكور في نيويورك في أواخر الثلاثينات ولمدة سبع سنوات.

الشخصيات..

جيم ويلارد: شاب في السابعة عشر من عمره، يخجل من الفتيات ويجد نفسه منجذبا إلى صديق له في المدرسة الثانوية، لا يفهم سر ذلك الانجذاب ويظل ينكره طوال الرواية رافضا أن يكون شاذا على حد وصف الرواية، لكنه رغم ذلك يعي أنه يحب صديقه هذا، ثم يهجر الولاية التي يعيش فيها لأجل الالتحاق به لكنه لا يجده وتأخذه الحياة في هوليود ونيويورك ويتطوع في الجيش في الحرب العالمية الثانية، وطوال سنوات عدة، يظل يتخبط في علاقات جسدية غير مرضية بالنسبة له.

بوب فورد: صديق “جيم” في المدرسة الثانوية يتجاوب  معه في إحدى الليالي ويحدث بينهما لقاء حميما، يظل يعيش على ذكراه “جيم” سنوات طويلة، لكن”بوب” يغادر الولاية بسبب كراهيته لوالده القاسي ويعمل بحارا، ويترقى في الأسطول البحري الأمريكي وهو في سن صغيرة، ويتزوج من فتاة كان يحبها أيام الدراسة الثانوية، ويفاجئ بعد سنوات عندما يتقرب إليه “جيم” ويعامله بعنف.

كولنز: بحار في إحدى السفن، عمل معه “جيم” في أول أعماله في البحر وكان يعلمه أشياء كثيرة، وهو بحار فظ حاول أن يعرفه على الفتيات لكن “جيم” فشل في عمل لقاء حميم مع فتاة ولم يصارح “كولنز” ابدا بميوله الجنسية.

رونالد شو: ممثل أمريكي شهير يعمل في هوليوود، ويخفي ميوله الجنسية إلا للمقربين منه، خوفا من أن يصدم جمهوره، وسيكون أول مثلي يعرف “جيم” على هذا العالم حيث يجتمع في منزله مجموعة كبيرة من المثليين، سيقنع “جيم” بالعيش معه والدخول في علاقة عشق وسيقبل “جيم” دون أن يعرف سببا لذلك، وسيعرف من خلاله أن نسبة المثليين كثيرة حتى أن “شو” سيقول له أن معظم ممثلي هوليود من المثليين لكن “جيم” سيهجره سريعا.

بول سوليفان: كاتب، يكتب روايات لا تلقى قبول النقاد ولا تلقى رواجا شعبيا، لكنه يعرف أنه موهوب وأن حظه بائس، تزوج من إحدى الفتيات لكنه لم يستطع الاقتراب منها جسديا مما أفشل زواجه، ينتمي إلى اليسار وهو يحب أن يكون معذبا وكئيبا، سيعجب به “جيم” ويهجر “شو” لأجله ويعيش معه فترة من الزمن، لكن “سوليفان” سيعرفه على سيدة ويتركه يتقرب منها رغبة منه في تعذيب نفسه، يعمل “سوليفان” مراسلا للحرب في الحرب العالمية الثانية.

اميليا: زوجة “سوليفان”، يحولها الزواج الفاشل إلى امرأة خشنة، وتقترب أكثر من قناعاتها اليسارية رغبة منها في قيادة مجموعة من الرجال، تعمل مراسلة للحرب في الحرب العالمية الثانية .

ماريا فيرلين: صديقة ل”سوليفان”، تحب الارتباط بالرجال غير العاديين وثنائي الجنس على حد تعبير الرواية، ستتقرب من “جيم” وهو سيشعر نحوها بعاطفة ما لكنه لن يستطيع الاقتراب منها جسديا، وسيحزنها ذلك كثيرا ثم يصبحان أصدقاء، وستحب فيما بعد رجلا آخر ستجد معه حلمها المفقود في حب رومانسي آسر..

أبو جيم: موظف في إحدى المحاكم، غير راض عن حاله لذا يعامل أولاده بقسوة شديدة، يتذكر “جيم” دوما أن قسوة والده ربما هي أحد أسباب ميله الجنسي الذي لا يرضى عنه، يموت متألما تاركا زوجته وثلاثة أبناء.

أم جيم: سيدة رقيقة طيبة تعيش مع زوجها بتعاسة، لكنها لا تعلن ذلك حتى لأبنائها، وهي ليست قريبة بما يكفي منهم خاصة “جيم” مما دفعه إلى ترك الولاية بعد الدراسة الثانوية دون ندم أو حنين للعودة إلى أسرته.

الراوي..

الراوي عليم، يركز في الحكي على “جيم” وعلى وجهة نظره تجاه باقي الشخصيات، ورؤيته لعالم المثلية الجنسية، لكنه يترك الحرية لباقي الشخصيات في التعبير عن رأيها من خلال الحوار، ويحكي عنهم أيضا لكن بشكل أقل.

السرد..

الرواية محكمة البناء تتكون من فصول متتابعة تحكي بتصاعد زمني حكاية “جيم” الذي يقضى سنوات من الحيرة والتنقل بين الأماكن والشخصيات وتنتهي نهاية مأساوية.

عالم المثلية والحرب العالمية..

أهم ما ترصده الرواية تطور إحساس “جيم” وميله إلى الرجال من جنسه، فهو شاب وسيم أشقر يعيش في ولاية فيرجينيا في أواخر الثلاثينات، يحب الرياضة ويتمتع بذكورة فائقة، لكنه رغم ذلك يجد نفسه منجذبا بشكل كبير إلى صديقه “بوب”، وهو يكبره بعام واحد، وقبل أن يكمل المدرسة الثانوية، يذهبا في رحلة ويحدث بينهما لقاء حميمي يظل يتذكره “جيم” طوال سنوات طويلة، على أمل تكراره والارتباط ب”بوب”، وعندما يرحل “بوب” ليكون بحارا يلحق به “جيم” في العام التالي لكنه لا يجده ويضطر إلى العمل كبحار في إحدى السفن، ورغم أن إحدى النساء تغويه لكنه لا يستجيب لها، ويظل على حلم اللقاء ب”بوب” مرة ثانية، ثم ونتيجة للقاء فاشل مع إحدى الفتيات دبره له زميل له بحار يترك السفينة ويبحث عن عمل آخر، ليصبح مدربا رياضيا ويلتقي بالمصادفة بالممثل الشهير “شو”، والذي يدخله معه في علاقة جسدية ولا يرفض “جيم” لكنه أيضا لا يستطيع أن يبادل “شو” العشق الذي يدعى أنه يكنه له، ويركز على جمع المال والتطور في مهنته كمدرب رياضي.

وحين يجد “سوليفان” يعجب به ويهجر “شو” لأجله لأن “سوليفان” كان أكثر عمقا ونضجا من “شو”، لكن “جيم” يعرف من داخله أنه لا يحب سوى “بوب”، وحتى حين يحاول “سوليفان” تقريبه من “ماريا” لا يستطيع أيضا الاقتراب منها بما يكفي، فكل ما يشغل باله هو “بوب”. لكنه رغم ذلك ورغم تعرفه على عالم المثليين الجنسيين من خلال حفلات “شو” في منزله ثم من خلال تردده على حانات مخصصة للمثليين فقط من الرجال والنساء إلا أنه لا يقبل كونه مثليا جنسيا، ويعتبر ذلك شذوذا حتى أن الكاتب نفسه طوال الرواية يصف ذلك الميل الجنسي بالشذوذ، ثم يتطوع في الحرب ويعاني من قسوة الجو البارد ومن معاملته بشكل سيء وسلطوي داخل الجيش، ومن تحرشات أحد القواد به، ويفكر في أن يترك الجيش ولكنه لا يستطيع حتى يمرض بشكل مفاجئ، ويكون مرضه سببا في تسريحه من الجيش.

ويعود إلى نيويورك ليرصد عالم المثليين الجنسيين فيها، ويقرر أنهم كثيرون وأن منهم كثير من الملونين، لكن حين يعرف بعودة “بوب” إلى فيرجينا يعود ليجده متزوج ولديه طفلة، ويحاول التقرب منه لكن “بوب” يصدم فيه وينعته بالشاذ ويضربه بعنف، فيغتصب هو “بوب” وتنتهي داخله أسطورة الحب الذي لازمه طوال سنوات، ويترك نفسه للبحر حيث يغرق نفسه بعد أن فقد “بوب” وحلم حياته.

يلاحظ أن كاتب الرواية لا يدين “جيم” وإنما يرصد دواخله وأحاسيسه، كما لا يدين أيا من الشخصيات المثلية الأخرى، لكنه يقدم عدة تفسيرات على لسان الشخصيات لما يسميه بالشذوذ الجنسي، أولهم أن قسوة الأب الشديدة تدفع الطفل إلى الخجل وإلى الارتباط الشديد بأمه، وأيضا أن ظروف الحرب سمحت بمزيد من التحرر والانكشاف وأصبح كل يمارس ما يحب، وتفسير آخر وهو أن هذه الممارسة أقرب إلى البدائية والطبيعية وأن الناس يمارسون طبيعتهم من خلالها، حيث يقول احدهم أن الإنسان يولد ثنائي الجنس ثم توجهه العائلة والمجتمع إلى الوجهة الجنسية المقبولة اجتماعيا، وسبب آخر فيما يخص الملونون حيث تقول إحدى الشخصيات أن الملونون نتيجة للتعصب والتسلط الذي يقع عليهم في أمريكا فإنهم يعانون من العصاب وعدم الاتزان، مما يجعل بعضهم يلجأ إلى المثلية. كلها تفسيرات لكن لم يستقر الكاتب على تفسير لتلك الظاهرة رغم إصراره على تسميتها بالشذوذ، ورصد النفور والاشمئزاز الذي يعانيه “جيم” من حالته رغم انخراطه فيها.

رصدت الرواية أشياء أخرى على الهامش، مثل معاملة الملونون بعنصرية شديدة داخل الجيش، وعدم انضباط الجيش وسيادة المحاباة والمحسوبية حتى رغم ظروف الحرب، وملل الكثيرين ممن تطوعوا للوقوف جنب بدلهم أمريكا في الحرب العالمية الثانية، وشعورهم بالندم لتطوعهم في الجيش لأنهم يخسرون حياتهم ومع ذلك لا يفعلون شيء ذا بال داخل الجيش، وإنما يتعرضون لظروف مناخية وإدارية قاسية ويتمنى كثيرون منهم الخروج من الجيش.

الرواية..

كتب “فيدال” روايته (المدينة والعمود) عام 1946، عندما كان مساعداً أول في الجيش، وفي العشرين من عمره، وعندما أعطى مخطوط الرواية إلى ناشره في نيويورك، كرهها، قائلاً له: (لن تجد من يسامحك على هذا الكتاب)، وفي 1948، كان من دواعي حزن جد “غور فيدال”، أن روايته هذه قد نشرت، وكانت الصدمة، كما يقول فيدال، خاصة ما أثارته من جدل ونقاش ساخنين في الصحافة.

كيف تجرأ هذا الكاتب الشاب أن يخوض غمار هذا الموضوع الساخن؟ كان الآخرون يتساءلون حول هذا. وفي غضون أسبوع أو اثنين أصبح الكتاب على قائمة أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة، وقد علق عليها الناشر الإنجليزي جون ليمان بقوله: (هناك فقرات في (المدينة والعمود ) تكاد تكون مأساوية، وإنجازاً رائعاً في مجال صعب بالنسبة إلى شاب صغير غض، بدت للباعة الجوالين وللطابعين متمادية في الصراحة).

وفي أبريل من عام 1993، وفي جامعة نيويورك في أولباني، قرأ عدد من الأكاديميين حفنة من الأطروحات حول (المدينة والعمود). والكتاب يطبع منذ نحو نصف قرن، وهو أمر لم يكن الكاتب يتخيله في العام 1948، حين رفضت صحيفة (نيويورك تايمز) أن تستعرضه أو تستعرض أي كتاب للمؤلف على مدى سنوات طويلة.

وظل طيلة عامين، لم يتمكن أي ناشر من نشره. ولعل نشر هذه الرواية الفضائحية جعلت دور النشر تضع اسمه في قائمة الكتاب الممنوعين حتى إنه بدأ يكتب بأسماء مستعارة، لأنه قارب موضوع الشذوذ في تلك الفترة، ومنهم من اعتبر الرواية تعبيراً عن السيرة الذاتية، ومنهم من اعتبرها غير ذلك.

الكاتب..

“يوجين لوثر غور فيدال” ولد 3 أكتوبر 1925 وتوفي 31 يوليو2012. كان كاتب مقالة، ورواية، وسيناريو، ومسرحيات أميركي. ذو نسب سياسي فجده كان عضو مجلس الشيوخ الأمريكي “توماس غور”، وله صلات عائلية (عن طريق الزواج) ب”جاكلين كنيدي”.

ترشح “فيدال” لمناصب سياسية مرتين وكان ناقدا سياسيا لفترة طويلة. كان مؤيدا للحزب الديمقراطي كما عرف من مقالاته ورواياته، وكتب فيدال لمجلة ذي ناشين، وفي مجلة نيويوركر، وفانيتي فير، ونيويورك ريفيو أوف بوكس. انتقد “فيدال” لفترة طويلة سياسة أمريكا الخارجية من خلال مقالاته وظهوره الإعلامي. بالإضافة إلى هذا، وصف أمريكا منذ الثمانينات بأنها إمبراطورية تتدهور.

وفي الحادية والعشرين من عمره، أصدر روايته الأولى (عاصفة)، وأتبعها بعد سنة برواية (الغابة الصفراء)، صنفت روايات “فيدال” ضمن الروايات الاجتماعية والتاريخية. وكان أفضل رواياته الاجتماعية المعروفة رواية “ميرا بركنريدج” التي تحولت إلى فيلم سينمائي لاحقا بنفس اسم الرواية. أثارت روايته الثالثة (المدينة والعامود) 1948 غضب النقاد المحافظين باعتبارها واحدة من أولى الروايات الأميركية التي تتحدث عن الشذوذ الجنسي. رفض فيدال دائما وصف “مثلي الجنس” و”الجنس الآخر” واعتبره وصف باطل، مدعيا أن الغالبية العظمى من الأفراد من المحتمل أن يكونوا من عديمي الجنس.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة