خاص: قراءة- سماح عادل
رواية (أين تذهب يا بابا) للكاتب الفرنسي “جون لوي فورنييه”، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، ترجمة “أيمن عبد الهادي”، هي عبارة عن رواية قصيرة تحكي مأساة أب رزق بطفلين من ذوي الاحتياجات الخاصة، يحكي البطل في سخرية مرة كيف كانت معاناته مع ذلك.
الشخصيات..
البطل: هو الأب الذي يحكي باسمه الحقيقي وشخصيته، وهو سيناريست ومخرج تلفيزيوني شهير، يحكي عن إحساسه بطفليه المعاقين، على حد وصف المترجم، وتظهر آلامه بوضوح وراء السخرية المرة التي تتسم بها الرواية.
ماتيو: أول طفل رزق به، وهو ضعيف بدنيا وذهنيا، ولا يفهم اللغة، يظل يلعب طوال الوقت بكرة يرميها في أماكن ويفقدها دوما، ليأتي إلى أمه أو أبوه لجلبها له، يموت في سن الخامسة عشرة بعد عملية لتقويم العمود الفقري، لأنه كان يعاني من الانحناء بسبب ضعف جسده.
توماس: الطفل الثاني الذي أنجبته الأم بعد الطفل الأول بعامين، آمله ألا يكون معاقا، لكنه ورث حظ أخيه، وهو أيضا ضعيف البنية والقدرات الذهنية، لكنه عاش أكثر من أخيه حتى أنه أصبح أشبه برجل عجوز، يجلس على كرسي متحرك، وأودعه أبوه بعد أن كبر في دار رعاية للأطفال الذين يعانون من هذا المرض هو وأخيه.
الراوي..
الراوي هو البطل الذي يحكي بضمير المتكلم، ويحكي حكي ذاتي متعمد على مشاعره وأحاسيسه تجاه مأساته المضاعفة.
السرد..
الرواية قصيرة تقع في حوالي 147 صفحة من القطع المتوسط، تعتمد على الحكي عن أحاسيس البطل ودواخله، ويتخلل ذلك حكي بعض الأحداث والتفاصيل، لا يهتم البطل الرواي بسرد أحداث بقدر اهتمامه برصد مشاعره إزاء ما حدث له.
السخرية من الحزن والوجع..
يصور البطل كيف كان إحساسه عندما رزق بطفل معاق، واصفا ولادة الطفل بأنها أمر أشبه بمعجزة وحدث جميل، لكنه لم يتمتع بذلك لأنه سرعان ما اكتشف أن ابنه “ماتيو” معاق وهش البنية، حتى أنه كان لا يستطيع تحريك جسمه، أو الشعور بتلك الأشياء التي يشعر بها الطفل الطبيعي، وكيف أن هذه الكارثة قد أثرت على حيات البطل بشكل عام وحياته الزوجية بشكل خاص، فالزوجين عندما يرزقان بطفل معاق ينتابهما الحزن والإحساس بالعجز، ويفتشان عن السبب محملين نفسيهما الذنب، يفتشان عن قريب أو أحد مسئول عن ذلك، وقد حمل البطل أباه مسؤولية ذلك لأنه كان مدمن على الشراب.
تعامل الأب مع الأمر بسخرية، ويظهر ذلك في طريقته في الحكي عن مأساته، حتى أنه عندما رزق بطفل آخر معاق أحس أن القدر يلاعبه، وكان خجلا جدا من ذلك الأمر، حتى أنه كان لا يخبر من حوله أن له طفلان معاقان، وكأنه أمر يخجل من الاعتراف به، وكان يسخر كثيرا من مأساته حتى لم تعد زوجته تتحمل ذلك فتركته، وربما تركته هربا من تحمل مسؤولية طفلين معاقين.
كان يستعين بمربية استطاعت أن تتعامل مع الطفلين بحياد، واستطاعت أن ترعاهما بشكل جيد، ولكنها لم تسلم من سخريته المرة حتى أنه سألها ذات مرة “لماذا ألقيتي بالطفلين من النافذة؟”، ولم ترد عليه وإنما أحضرت الطفلان إليه، ومرة أخرى سألها لماذا علقتي توماس على علاقة المعاطف وجارته هي في سخريته.
رغم تلك السخرية التي تمتلئ بها الرواية لا يخفى على القارئ الوجع العميق الذي يشعر به البطل، والذي يطل من وراء السخرية، ويظهر هذا الوجع بوضوح في المقدمة التي كتبها الكاتب للرواية، يقول “فورنييه” في مقدمة قصته موجها كلامه لولديه: “سأمنحكما كتابًا، كتابًا كتبته لأجلكما، حتى لا ننساكما، حتى لا تبقيان مجرد صورة علي بطاقة عدم الأهلية، لكتابة أشياء لم أقلها أبدا، لم أكن أبًا صالحًا بما يكفي، لم أحتملكما في أغلب الوقت، كان من الصعب أن يحبكما أحد، معكما كان يلزم صبر الملائكة ولم أكن ملاكًا.. أخبركما أنني نادم علي أننا لم نكن سعداء معا وربما أيضا أستميحكما عذرا أني تجاهلتكما، بفضلكما كنت متميزا عن غيري، فلم نكن ننشغل بما ستفعلانه فيما بعد، فقد علمنا سريعا أنكما لن تفعلا شيئا”.
يبدي البطل ندما واضحا أنه لم يحب طفليه، وأنه تجاهلهما، ربما كان وقع المأساة عليه شديدا، لكنه ندم فيما بعد وأراد تخليد ذكرى طفليه بهذه الرواية.
كما يتجلى الوجع في حديثه عن موت “ماتيو” حيث يقول: “لا ينبغي الاعتقاد أن الحزن علي وفاة طفل معوق أقل، هو نفس الحزن علي وفاة طفل طبيعي، مرعب هو موت من لم يكن أبدا سعيدا، من جاء إلي الأرض ليقوم بجولة سريعة فقط لأجل أن يعاني، ولذلك يصعب الاحتفاظ بذكرى لابتسامته”.
يتحسر البطل طوال الرواية على الفرص التي لم تتاح له بإنجاب طفلين معاقين، فهو لا يستطيع مبادلة الحديث معهما، أو التفكير في مستقبلهما، أو الحلم بأن يصبح أحدهما مهندسا متفوقا في الرياضيات، تعويضا لفشله فيها، والآخر ناجح في عمله، أو تخيل أنهما سيحبان ويتزوجان وينجبان أطفالا آخرين يؤنساه في شيخوخته. يظل يعدد كل تلك التفاصيل التي حرم منها، والتي كانت ستكون مبهجة لو كان منح طفلان طبيعيان، ورغم أنه منح في النهاية طفلة طبيعية ثالثة، إلا أنه لم يذكرها كثيرا، فقد كثف إحساسه بالهزيمة والعجز تجاه طفليه.
ولقد اضطر في النهاية أن يلحقهما بمركز لرعايتهما، وكان يقضي معهما العطلات، لكن حزنه وحسرته ظلا متواجدين، كما أنه اعترف بالغيرة من أصدقاءه ومعارفه، الذين يتمتعون بأطفال أصحاء، ويقضون معهم أوقاتا ممتعة.
الرواية عبارة عن حديث طويل لرجل كثف داخله الحزن والإحساس بالمأساة، بينما كان في مقدروه التخفيف على نفسه والاستمتاع بما هو متاح له، أو على الأقل الرضا به، وإحساسه المضاعف بالحزن منعه من أن يحب طفلاه أو يعطيهما اهتماما أكبر، حتى أنه أعترف بذلك في المقدمة، لكن يبقى حزنه واحساسه بالمأساة محل تقدير.
الكاتب..
“جون- لوي فورنييه” سيناريست ومخرج التليفزيوني فرنسي شهير، ولد بكاليه في 19 ديسمبر 1938. حصل على جائزة فيمينا الأدبية عام 2008عن روايته ( أين نذهب يا بابا).