خاص: قراءة- سماح عادل
رواية (أطراس الكلام) للكاتب العراقي الكبير “عبد الخالق الركابي” تحكي عن إمكانية تغيير الإنسان لقدره ولمصيره رغم تشابك الظروف السيئة، كما تحكي عن العراق وقت الحصار وبعد الغزو.
الشخصيات..
البطل: كاتب، من قرية في الجنوب، تربي تربية صعبة على يد أب متسلط، لكنه رغم ذلك استطاع أن يجعله فخورا به رغم الخصام الطويل بينهما، والذي ينتهي بموت الأب.
رؤى: فتاة أحبها البطل في فترة مراهقته، لم يستطع الاقتران بها بسبب قسوة الأب وعناده، كانت تعاني من أشقاءها الذين كانوا يعاملونها بعنف لكنها استطاعت أن تغير مصيرها المحتوم وتصبح طبيبة يفتخر بها الجميع.
أسماء: فتاة من طبقة أعلى، يرتبط معها البطل في علاقة حب، لكن العلاقة بينهما بها مشاكل كثيرة بسبب ذلك الفارق الطبقي وبسبب أن البطل لم يستطع التخلص من آثار علاقته برؤى.
والرواية بها شخصيات متعددة أخرى.
الراوي..
الراوي هو البطل الذي يحكي بضمير المتكلم، لكنه لا ينفرد بالحكي بل يترك فرصة للشخصيات في التعبير عن نفسها من خلال الحوار، وأكثر من شخصيىة تحكي حكاياتها، مما يعطي للحكي ثراء.
السرد..
الرواية تقع في حوالي 240 صفحة، محكمة البناء، تحكي الرواية في الزمن الحاضر في حوالي يوم كامل حيث يعرف البطل بأن هناك مشكلة ما في قريته فيذهب إليها ليكتشف ما حدث، لكن أثناء الحكي عن الزمان الحاضر يتخلل الحكي عن الماضي، من قبل ولادة البطل، وحكاية جده، وثم حكايته وهو مراهق ثم حدوث الخصام مع أبيه، فيتم التنقل بين الزمن الحاضر وبين الزمن الماضي بانسيابية، الحوار باللغة الفصحى يكشف حكايات الشخصيات الأخرى وحياتهم، النهاية إيجابية ومبشرة.
ملامح الحصار القاسية..
تتميز الرواية في إنها تحكي عن فترة الحصار على العراق بكل ملامحها القاسية ثم الغزو حكي أقرب للحياد، حكي لا يبالغ في حس الدراما وإنما يقدم ما حدث كحقائق حدثت على أرض الواقع، ويقدم هذه التفاصيل على لسان الشخصيات ولسان الراوي عرضا أثناء السرد، المستشفيات تخلو من الأدوية الضرورية مما يسبب عدد كبير من الوفيات، الغزو حطم الأماكن الحيوية في بغداد، الاحتلال الأمريكي يقصف المدن والقرى متحججا بكل المبررات، يقتل الناس بدماء باردة ويخرب البنية التحتية لوطنهم، ولا يوفر لهم العلاج للتداوي.
لكن مع ذلك لا يحكي الكاتب من منظور سوداوي يملأ قلب القارئ باليأس وإنما من منظور إيجابي، فالناس رغم واقعهم المأساوي الأليم يستطيعون أن ينهضوا من كبوتهم ويستأنفوا طريقهم ويحققوا نجاحات مبهرة. أيضا البطل الذي عاني طفولة صعبة من أب متسلط قاسي يضرب الأم ويهينها، ويتعمد التقليل من شأن ابنه والسخرية منه يصبح كاتب كما تمنى، بل يصل الأمر إلى أن يفخر أبوه به في النهاية عندما يقرأ له قصة كان قد أعطاها لجده، والذي احتفظ بها في صندوق لحفظ أوراقه الهامة.
لا تفريط في الأرض..
والجد نموذج للبطل الذي يرفض التفريط في أرضه، فقد عاني والد الجد أيضا ولم يفرط في أرضه وقت كان الاحتلال العثماني يسحب الأراضي من الناس ليوزعها على عملائه وأتباعه، ووقت الجد كان الاحتلال الانجليزي الذي كان يسمح لعملائه بنهب الأراضي وتسجيل مساحات شاسعة منها بأسمائهم، لكن الاحتلال الانجليزي كان يدعي التزامه بالقانون وفرضه على الجميع، لذا فقد ناضل الجد، كان يدافع عن أرضه في المحكمة نهارا ويزرع فسائل النخل بها في المساء، حتى لا تضيع منه وحتى يزرع بستانا كبيرا بها يجعله يحتفظ بأرضه، وقد تشرب البطل روح المقاومة من جده والإصرار والعزيمة.
و”رؤى” جارة البطل الذي انجذب إليها في فترة مراهقته، هي أيضا تمسكت بالعزيمة رغم وفاة أمها ووجودها في أسرة من الذكور الشرسين الذين يستغلونها كخادمة، ويغيرون من تفوقها الدراسي ويفرضون عليها القيود. استطاعت أن تحب البطل وأن تذهب معه للسينما لمشاهدة الأفلام التي سحرتها، وتقرأ ما يعطيها من كتب، وحين حدثت المصادفة ورآها أحد أشقاءها بصحبة البطل وتأزم وضعها طلبت مساعدة منه، لكنه عجز عن ذلك بسبب تعنت أبيه، فلجأت إلى أن تحرق نفسها اعتراضا على الحياة البائسة التي تعيشها. وحين أنقذت من الحرق ظلت على قوتها وإصرارها وأكملت تعليمها وتخرجت طبيبة، وأصبحت مفيدة لمن حولها، استطاعت أن تغير مصيرها المحتوم والمعروف سلفا لفتاة يتحكم فيها أشقاء قساة.
رغم أن العراق تعرضت للحصار والغزو ولظروف بالغة القسوة إلا أن الأمل دوما معقود على ميلاد جديد ينبع من القوة والإصرار والصبر.
أوديب..
استلهمت الرواية حكاية “أوديب” ل”سوفوكليس”، ذلك البطل الذي كان قدره قاسيا معه، الذي يعاديه أبيه ويشعر بالشغف والرغبة في الامتلاك نحو أمه، والذي ستغلبه المأساة، لكن البطل هنا رغم تشابه ظروفه مع أوديب من أب قاسي يفرقه دوما عن أمه ويكره تعلقه بها، إلا أن مصيره لم يكن مأساويا بل غيره بإرادته الحرة ليصبح مصدرا للفخر من قبل جده وأبيه.
رصدت الرواية أيضا في أثناء الرحلة في العربة الأجرة حكايات أخرى نتجت عن الحصار والغزو، ذلك الفلاح الذي كثرت أمواله نتيجة الحصار لأنه يزرع وتباع مزروعاته، وتحول امرأته إلى سيدة استهلاكية ترغب في الترقي الطبقي وتحثه على ذلك، وينصحه أحدهم في الاستثمار في التمر والذي يعد ذهبا في العراق، لكن جشع التجار واستغلالهم لظروف الحصار والغزو لكي يغتنوا وتزيد ثرواتهم تجعله يتعثر، ولا يجد من يشتري منه التمر بثمن مناسب ويوشك على الإفلاس وخسارة نقوده، ويتحسر على ما جرى له. والتاجر الجشع الذي ما أن يسمع بتفجير مدينة أو قصف قرية حتى يذهب إلى المنطقة المنكوبة لكي يشتري الأشياء بثمن بخس ويربح من التجارة فيها، هؤلاء هم طفيليو الحرب الذين استغلوا الحروب والصراعات للاغتناء.
والسيدة التي لا تصدق موت ابنها حتى بعد مرور 17 عام على فقدانه، وتحرم على ابنتها الزواج، تحرم عليها أن تفرح، والممرض الذي يرى الناس يموتون أمامه بسبب نقص الأدوية والأدوات الطبية. حصار وغزو وخراب لكن دوما تظل إرادة الإنسان الحرة قادرة على صنع المعجزات حتى وسط الخراب.
اعتمدت الرواية على لغة عذبة ورسم عميق للشخصيات وعلى حس إيجابي.
الكاتب..
“عبد الخالق الركابي”، روائي وكاتب قصص قصيرة وشاعر عراقي. ولد في بدرة وتلقّى فيها تعليمه، حصل على شهادة بكالوريوس في الفنون التشكيلية عام 1970 وعمل في مجال التدريس تسعة أعوام وبعدها عمل محررا في مجلتي “أسفار” و”الأقلام”.. من دواوينه الشعرية “موت بين البحر والصحراء” 1975، وروايات “مكابدات عبد الله العاشق” 1982، “من يفتح باب الطّلسم” 1982، و”الرّاووق” 1986، و”ليل علي بابا الحزين” 2003 و”سابع أيام الخلق” 2000.
فازت روايته “الراووق” (1986) بجائزة معرض الشرق الكبير في بغداد عام 1987 وتوجت روايته “سابع أيام الخلق” (1994) بجائزة أفضل رواية عراقية عام 1995 كما أختيرت الرواية نفسها من قبل الاتحاد العام للكتاب العرب في دمشق ضمن أفضل عشرين رواية عربية في القرن العشرين وترجمت إلى الصينية. حولت بعض نتاجاته إلى أفلام منها فيلم “العاشق” (1985) عن روايته “مكابدات عبد الله العاشق” (1982)، وفيلم “الفارس والجبل” (1987) عن قصته “الخيال”. “ليل علي بابا الحزين” هي روايته السابعة. وفاز بجائزة العويس.