11 يناير، 2025 11:05 م

(رقص على أغنية الموت).. إظهار الجمال من القبح من خلال سرد عميق

(رقص على أغنية الموت).. إظهار الجمال من القبح من خلال سرد عميق

 

قراءة: صلاح محمد الحسن القويضي – السودان

[email protected]

(رقص على أغنية الموت) مجموعة قصص قصيرة بقلم “محمد أحمد إسحق” – السودان، صدرت مؤخرًا بالخرطوم عن منشورات “بوكتينو” في ثلاث وتسعين صفحة من القطع المتوسط بغلاف من تصميم الشاب “يس صالح”. تضم المجموعة 12 سردية قصيرة (موت كورونا – ثورة المعتوهين – داخل حافلة متهالكة – نشيد الحرب – حلتنا – الموت في كوكب آخر – لوح الشمس – مانفيستو البنقو – أرواح لم تتشكل بعد – في مديح الثوار – شقة الجحيم – حفلة الموت الأخيرة).

تميزت المجموعة بقلة الأخطاء اللغوية كما لاحظ الناقد “عمر أرباب” في القراءة الجمالية التي قدمها في فعالية توقيع المجموعة بمركز نرتقي الثقافي. وحتى الأخطاء القليلة الموجودة فيها  ليست (مزعجة). أضف لذلك أن لغة المجموعة جاءت متسقة ومتجانسة وواضحة للقارئ السوداني والعربي. حيث استطاع القاص أن يستخدم اللغة الفصحى بمهارة في الحكي والوصف والحوار. سأتناول ثلاثة نصوص من المجموعة لإلقاء بعض الضوء عليها.

موت كورونا..

في قصة (موت كورونا)، النص الأول في المجموعة، تجلت مقدرات محمد أحمد إسحق السردية على عدة مستويات. فاختيار العنوان يكشف عن مقدرة في اصطياد اللحظة/ الحدث واستغلالها كمثير يجذب القارئ. وفي نفس النص اختار القاص أن يجعل من فيروس كورونا (الراوي) في نصه السردي. وهو خيار فرض على القاص أن (يتقمص) روح الفايروس وهو أمر كلفة بلا شك الكثير من البحث والاستقصاء.

(لست أنانيًا ولا شريرًا. أنا مجرد حمض نووي طموح أحلم بالتحول لكائن حي …)

(بمجرد أن يلمس الإنسان أنفه بطرف أصبعه الملوث بي أتسلل بمكر إلى حلقه وهناك سأواجه جيشًا من لعاب كريه الرائحة سيحاول أخذي عنوةً للمعدة حيث تسحقني الأحماض..).

وفي ذات القصة تتبدى مقدرة محمد أحمد إسحق في طرح (قضية) بطريقة تعليمية من دون الإخلال بشروط السرد وتقنياته. فمن خلال تقنيات وحيل وأحابيل سردية استطاع القاص أن يقدم نصًا سرديًا يصلح أن يكون (أداة تثقيفية)، لكنه استطاع في ذات الوقت أن يجعل منه نصًا جاذبًا مشوقًا ممتعًا لا يخلو من روح فكاهة وسخرية.

في قصة (داخل حافلة متهالكة) التقط محمد إسحق لحظة (عادية) عبارة عن حادث نشل في حافلة لينفذ من خلالها لأبعاد أكثر عمقًا. فمن خلال ردود فعل الركاب على حادث النشل وتفاعلهم مع طلب (المنشول) بالتفتيش أن يستعرض عددًا من جهات النظر والمواقف والأحاسيس المتناقضة عبر حوار متقن السبك. واستطاع القاص أن (يسوق) النص بمهارة نحو نهاية غريبة وغير متوقعة إطلاقًا. فالنشال (من خلال ما أبداه في النقاش من أراء) هو الوحيد الذي نجا من التفتيش.

(- ليذهب هذا الرجل بدون تفتيش. لقد عرفنا حقيقته من أول جملة خرجت من فمه.

شكرته على هذه الثقة. عوت الله أن يجمعه بهاتفه. تلاشت الحافة من أمامي تدريجيًا. غابت وسط زحام الحافلات الكثيرة.وقبل أن أغادر المحطة، أدخلت يدي في جيبي. أحرجت هاتف الشاب الوسيم. وبضغطة واحدة سريعة مسحت البيانات. أخرجت شريحة الهاتف وكسرتها نصفين مستخدمًا أظافري الطويلة. رميتها في ذات المكان. أخرجت بطاقة جديدة.. أدخلتها في الهاتف).

أ.هـ

مانيفستو البنقو..

في نص (مانيفستو البنقو) يمارس محمد اسحق لعبته المفضلة (والمتقنة) في جعل الراوي كائنًا غير بشري. والحقيقة أن (أنسنة) الكائنات غير البشرية تتطلب بالضرورة أن (يتقمصها) الكاتب عبر البحث والتقصي والمعايشة. ولا بد أن محمد إسحق قد بذل جهدًا خارقًا حتى ينفذ (لعوالم البنقو) وأسراره الدفينة.

(نولد في صمت. لا يحتفي بنا أحد. لا تضرب الطبول لمقدمنا أو تزغرد النساء فرحًا لمقدمنا. مجسؤنا لهذه الديار لم يكن سهلًا بل كان محاطًا بالصعاب. إنها قصة طويلة وحكاية أخرى..).

استطاع القاص بمهارة أن يجعل (البنقو) يتحدث عن (سيرته الذاتية) منذ أن كان بذرة وحتى تحول إلى دخان وجنة متخيلة في ذهن المتعاطي. ولم يخل ذلك الحديث من (إثارة) و(إمتاع) و(جذب) وفكاهة وسخرية.

(ذاب الزبون الطيب مثل كومة من القطن اشتعلت نار في وسطها. تحول إلى دخان. ارتفع الدخان. انتشر في زوايا الغرفة… وقال الزبون بصوت واضح “أنا قادم إليك أيتها الجنة… ولتكن أبوابك مشرعة).

وكما أشارت الأستاذة “هالة السر” في مداخلتها في حفل التدشين فإن محمد إسحق قد استطاع أن يقدم (قُبح) البنقو بصورة إبداعية (جميلة). وعرض (جماليات القُبح) من أكثر لحظات السرد صعوبة وتعقيدًا على القاص.

أعتقد أن هذه النصوص الثلاثة، بجانب نص (أرواح لم تتشكل بعد) هي أفضل نصوص المجموعة وأجملها. ولا يعني ذلك أن باقي النصوص ليست جميلة ولكن (هل تتساوى أصابع اليد البشرية في طولها؟)

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة