18 ديسمبر، 2024 10:08 م

“رفقي بدوي”.. كتب ليحفر في الذات الكامنة من آلاف السنين

“رفقي بدوي”.. كتب ليحفر في الذات الكامنة من آلاف السنين

خاص: إعداد- سماح عادل

“رفقي بدوي” كاتب مصري.

بدأت رحلته مع الكتابة في عمر صغير بعد أن تخلى عن كرة القدم  قبل أن يبلغ عمر الـ 14 في 1964، بعد أن حدثت له حادثة وسقط تحت عجلات الترام وبترت ساقيه، ليقضي وقت علاجه في القراءة لتصل الكتب التي قرأها في هذه الفترة إلى 500 كتاب في ثلاث أشهر فقط وفقًا له.

الكتابة..

أول قصة قصيرة  له  كتبها في الصف الثالث الثانوي، بأسلوب مميز، ليستمر في الكتابة، ويصدر عشر مجموعات قصصية، وخمس روايات، وثلاثة كتب نقدية، ومئات المقالات الفكرية التي تعادل عشرات الكتب، ينادي فيها بالحق والحرية، والعدالة والأصالة.

تمتاز كتاباته بعمق فلسفي، وحس شعري، وصراحة موجعة. ونال عن إبداعاته التقدير من اتحاد الكتاب العرب، فقد صنفت روايته “أنا ونورا وماعت” ضمن أهم مائة رواية عربية، كما حاز على شهادة تقدير من الرئيس “أنور السادات” عام 1979لدوره في مجال القصة، وحصل على جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر في 2013. وتُرجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية، كما تم دراسة أعماله الإبداعية في رسائل ماجستير ودكتوراه. كان عضوا بمجلس إدارة اتحاد كتّاب مصر، وتولى أمانة الصندوق فيه ونهض بأعباء المنصب مدة طويلة إضافة إلى إسهاماته الإبداعية.

من أعماله..

هرمونيا الحزن والعبقرية (مجموعة قصصية) عام 1977.

أنا ونورا وماعت (رواية) عام 1978.

هذا ما حدث أولا (مجموعة قصصية) عام 1983.

البحث عن حقيقة ما يُقال (مجموعة قصصية) عام 1983.

صباح الحب الجميل (مجموعة قصصية) عام 1991.

قراءات نصية (قراءة في نماذج من الرواية المصرية) عام 1995.

القابض على الجمر ( مجموعة قصصية) عام 1998

بياع الحلوين (مجموعة قصصية) عام 2008

أرجوحة الوقت (مجموعة قصصية) عام 2008

كأس برفكست من فضلك (مجموعة قصصية) عام 2014

تمددى بمستحيلى (مجموعة قصصية) عام 2016

اللعب على سطور الحكاية (مجموعة قصصية) عام 2019.

لم يكن اسمه يتردد كثيرا في الساحة الثقافية والأدبية، لأنه لم يكن متواجدًا في أي من المحافل الثقافية، ولا يكاد يعرفه أحد من الأجيال الجديدة، كأنه سقط من الذاكرة كما سقط تحت عجلات الترام، ويعود ذلك لظروفه الصحية والمرضية التي أصابته مطلع شبابه، ومن حينها فضل الانزواء عن أضواء الثقافة. يعتبر القاص رفقي بدوي واحدا من كتاب جيل السبعينيات المتفردين، ومنذ مجموعتيه القابض علي الجمر وصباح الحب الجميل وهو يقف في صفوف الفاعلين في المشهد الإبداعي في مصر، وإن ظلت إصداراته ونشاطه الإبداعي قليلا ويأتي علي استحياء كل عدة سنوات، فقد انشغل بالعمل العام حيث يشغل موقع عضو مجلس إدارة باتحاد الكتاب.

الحزن..

كان الحزن رفيقا له ومحفزا للكتابة، يقول في حوار نادر له: «الحزن كان ثالث محفزات الكتابة. فقد كان الحزن كثيفا، فكانت الكتابة من دواة ذاتي، ناقشت الحروف فتشكلت قصصا قصيرة بعد نكسة 67، وقامت الكتابة بإعادة صياغتى بعد بتر قدمي، وتحول الحلم من القدم للرأس للقصة».

بياع الحلوين..

في حوار معه نشر في “القدس العربي” يقول “رفقي بدوي” عن تجربته الإبداعية في ارتباطها بتجربته الحياتية: “ارتبطت تجربتي الإبداعية بتجربتي الحياتية، حيث كنت طفلا أعيش طفولتي بقوة، وكنت أفرغ طاقتي في لعب الكرة، ففي سن الثالثة عشرة كنت اللاعب الأساسي بفريق كرة القدم بالمدرسة وأنا بالصف الأول الإعدادي، وكانت قدمي اليمني شديدة التصويب، وكأنها تمارس العزف بالكرة، أما رأسي فكان يؤلمني لدرجة أنني كنت أحس أنه سينفجر من الداخل، لعدم مفارقته للحلم، حلم يقظة لا ينقطع إلا في فترات اللعب بالقدم، حلم بالنجومية أو الزعامة، كنت قادرا علي التأثير في تلاميذ الفصل كله، فإذا قررت عدم الدخول من باب المدرسة فلا يدخل تلميذ من تلاميذ الفصل إلي المدرسة، ونذهب للمكان الذي قررته، سينما، مقهى، حديقة، أي مكان، استرجع ذلك الآن ولا أعرف كيف كانت لدي القدرة علي فعل ذلك.

كنت أشعر داخليا بالظلم الاجتماعي، وكنت أتمني وأطمح إلي تحقيق العدل الاجتماعي دون أن أعرف كيف، وكان مثالي في ذلك الوقت اللص الشهير محمود أمين سليمان الذي كان يسرق الأغنياء ويوزع ما يسرقه علي الفقراء.

وقبل أن أبلغ الرابعة عشرة، وفي 15 شباط فبراير 1964، سقطت تحت عجلات الترام، فبُترت قدماي اليمني واليسري، لكن رأسي حتي في لحظة الحادث نفسه كان يعمل ويحلم وكنت قادرا علي تحريك أصابع قدمي بإشارات عقلية ولما لم أعد طفلا جميلا رشيقا ولما أصبحت محمولا علي ساقين صناعيتين، لم تعد الكرة حلمي ولم يعد طريق محمود أمين سليمان طريقي، فصرت عاجزا عن تحقيق أجمل الأهداف وتطبيق العدل الاجتماعي بيدي.

وعن استمراره بعد هذا الحادث يقول: “انطويت علي نفسي التي لم تعد تملك سوي الحلم، فكنت أمكث بالساعات أمارس لعبة الأوامر العقلية، فأعطي الأمر لشبكة الجهاز الحركي بعقلي بتحريك أصابع القدم اليمني أو اليسري أن يضع الخنصر فوق البنصر، أن أقيم من جزئي المدفون علاقة بباقي الجسد الحي، الذي يحمل في أعلاه رأساً به عقل يُلح في السؤال والتفكير والحلم.

إن فترة الانتظار بعد الحادث كانت طويلة حتى يندمل البتر تماما وحتى استطيع أن ارتدي الأجهزة الصناعية، وأنا الذي كنت أعيش عمري في الشارع، فلم يعد أمامي سوي القراءة، التي كنت أكرهها فانطويت علي حزني وذاتي والكتاب، فكنت ما أكاد أنتهي من قراءة كتاب حتى أبدأ في كتاب آخر، وعبر ثلاث سنوات قرأت ما يقرب من خمسمائة كتاب، فكانت القراءة امتدادا طبيعيا لحلم اليقظة الذي يتخللني.

كانت القراءة بعد الحادث هي المحفز الأول، فقرأت جميع أعمال ديستيوفسكي ترجمة الدكتور سامي الدروبي وتشيكوف وكزنتزاكس، وهرمان هيسه، وهمنغواي وهوغو، جان جاك روسو، وحياة فان غوخ ونجيب محفوظ وسعد مكاوي ويوسف إدريس وفتحي غانم ومحمود البدوي وغيرهم، ثم كان الحزن ثالث محفزات الكتابة، فلقد كان كثيفا”.

إعادة صياغة..

ويواصل عن الكتابة: “فكانت الكتابة، نقشت الحروف فتشكلت قصصا قصيرة بعد نكسة 1967، لقد قامت الكتابة بإعادة صياغتي بعد بتر قدمي وتحول الحلم من القدس للرأس للقصة، وكان من الطبيعي والمنطقي أن تكون الكتابة متحصنة وراء الذات، وملتصقة بالذات في البداية، وأن تكون معبرة عن هموم العجز والانكسار، هذا من ناحية، كما أن أروع الأعمال الإبداعية العالمية والمحلية أعمال ذاتية مثل مقامر ديستيوفسكي ودكتور زيفاغو لباسترناك والفراشة لهنري شارير وأشعار رامبو وهلدرلين وأيام طه حسين وغيرها.

وفي عام 1968 عندما كنت في الثانوية العامة، كنت أجلس في الشرفة للاستذكار وإذا بشقيقة جارتي تبادلني الإشارات وتهبط إلي الشارع لتترك لي رسالة وتنتظر أن أهبط للحصول عليها والإطلاع علي ما فيها وكنت في ذلك الوقت أجريت عدة جراحات مكان البتر فلم أستطع النزول، فنظرت إليّ بانكسار ومضت، لكنها لم تعلم الأسباب حتى الآن فكتبت أول قصة في حياتي عن هذه الواقعة ونشرت بالعام نفسه في مجلة البيان الكويتية.

كانت القصة في ذلك الوقت وبهذا المعني خروجا علي مفهوم الالتزام الذي روج له نقاد الستينيات لكنني لست عبد الرؤية أو الإيديولوجية، وظللتُ طيلة تجربتي أكتب ما أحبه وما أراه.”

وعن بداية مشواره الحقيقي مع الكتابة يقول: “بداية التعلم الحقيقي كانت في أواخر الستينيات، كنا مجموعة من كتاب القصة والشعراء من سكان منطقة شبرا نذهب لصديقنا الشاعر البيلي عبد الحميد الذي يكبرنا بعقد من الزمان وينشر قصائده بمجلة الشعر، فكان يطلب منا أن نأتيه بديوان شعر من مكتبته، وكانت كل دواوينه مغلفة بغلاف سميك فلا نعرف عنوان الديوان أو اسم الشاعر، ويطالبنا بأن نفتح الديوان من المنتصف ونقرأ قصيدة، ثم يسألنا من الشاعر، فإذا لم نعرفه، يقول هذا ليس بشاعر فنأتي بديوان آخر ونفعل نفس ما فعلناه فإذا عرفنا الشاعر، يقول هذا هو الشاعر.

معني هذا أنه كان يريد أن يعلمنا أن امتلاك التميز والفرادة شيئان جوهريان بالنسبة للكتاب.

أهم محطة بالنسبة لي كانت مع مجموعة “القابض علي الجمر”، لأنني شعرت معها أن كل محاولاتي الأولي لامتلاك اللغة قد آتت أُكلها، وكان التأصيل الحقيقي قد بدأ معي في مجموعة “صباح الحب الجميل”، فاللغة عندي أشبه بشحنات روحية وامضة تقتحم قلب وشعور وإحساس المتلقي دفعة واحدة دون أن يكون لهذه اللغة صدع في لغة الآخرين، ولهذا كنت أحاول في مجموعة “القابض علي الجمر” أن أكتب بلغة علي درجة عالية من النفاذ والشفافية الفنية والاقتصاد اللغوي، بحيث لا يجد فيها القارئ جملة أو كلمة زائدة وكانت مرجعياتي في هذا السياق قراءاتي للقرآن الكريم والاستماع الجيد إليه، فهذا النص اللغوي المقدس يساعدنا في اكتشاف أهمية اللغة، لكن اللغة صادفت في نصف القرن الأخير بسبب الخلط بين السياسي والثقافي بحيث باتت اللغة حاملة لأكثر من معني بعد أن تم تفريغها من مضامينها بحيث يمكنها أن تعني الشيء ونقيضه في الوقت نفسه”.

فالخطاب السائد يفرغ الكلمة من مصداقيتها في الواقع وبالتالي فقد القارئ يقينه بها لأن مردودها غير حقيقي وزائف، فكيف يمكن مثلا تفسير جملة من كلمتين مثل عصر الطهارة عندما يطلق علي العصر الذي نعيش فيه تحت ظل حكم كهذا، ما الذي يحدث للقارئ عندما توضع هذه الجملة في غير سياقها ويتم ضخها وخضها باستمرار في عصر السرقات الكبرى والنهب المنظم والشركات العملاقة، وكلمات كثيرة جدا كالإرهاب الذي يديرونه في العجلة ليتساوي حق الدفاع ومقاومة المحتل وغيرها من كلمات كالعدالة والحرية والديمقراطية، الخطاب السياسي والإعلام العربي انتهك لغتنا ويروج أو يسوقها في الواقع بعكس مصادقاتها تماما.

وهنا تجب اليقظة لأن المخاطرة في أن تفقد اللغة المقدسة مصداقيتها فيتم انتهاكها لتفقد قدسيتها وبالتالي كان همي استنهاض الذات والتأكيد علي حضورها ثم الاهتمام باللغة، حيث لا يمكن استنهاض القيمة من مفردات الواقع، بل من الحفر في الذات في الداخل، حيث هي كامنة من آلاف السنين، الاهتمام باللغة الصافية بذاتها المحسوسة بيقينها”.

وفاته..     

توفي “رفقي بدوي” مساء يوم السبت 21 سبتمبر 2024 بعد صراع مع المرض.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة