13 أبريل، 2024 6:44 ص
Search
Close this search box.

رشاد أبو شاور.. انتقد واقع الثورة الفلسطينية المخرب من الداخل

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: إعداد- سماح عادل

“رشاد محمود أبو شاور” هو قاص وروائي فلسطيني، من مواليد 1942 في قرية ذكرين قضاء الخليل، فلسطين. انضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية وشغل عدة مناصب في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. عمل نائبا لرئيس تحرير مجلة “الكاتب الفلسطيني” التابعة لاتحاد الكتاب العرب والصحفيين الفلسطينيين في بيروت. وهو عضو في جمعية القصة والرواية. وتكريماً لإبداعه مُنح وسام “يوليوس فوتشيك” عام 1983 من المنظمة العالمية للصحفيين في براغ، وفي عام 1999 منحته رابطة الكتاب الأردنيين جائزة «محمود سيف الدين الإيراني» للقصة القصيرة.

من مؤلفاته..

  • ذكرى الأيام الماضية- قصص- بيروت 1970.
  • أيام الحرب والموت- رواية – بيروت 1973.
  • بيت أخضر ذو سقف قرميدي- قصص- بغداد 1974.
  • البكاء على صدر الحبيب- رواية- بيروت 1974.
  • مهر البراري- قصص- بيروت 1974.
  • الأشجار لا تنمو على الدفاتر- قصص- بيروت 1975.
  • العشاق – رواية – بيروت 1978.
  • عطر الياسمين- قصص للأطفال- بيروت 1978.
  • أرض العسل- قصة للفتيان- بيروت 1979.
  • آه يا بيروت- مقالات- دمشق 1983.
  • الرب لم يسترح في اليوم السابع- رواية 1986.
  • كما صدر له مجلد الأعمال القصصية عام 1999 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

أساس طبقي..

في حوار معه على صحيفة ”الاتحاد” يقول “رشاد أبو شاور” عن مقولة أنه أول أديب فلسطيني طرح موضوع القضية الفلسطينية على أساس طبقي: “في الحقيقة لا أعرف من كون هذه الفكرة، أنا أرى أن القضية الفلسطينية لا ينظر لها من هذه الزاوية، إذا وجد جانب ما يوحي بالصراع، أو التناقض بين الجماهير الشعبية وبعض القيادات خاصة في المرحلة الماضية أي في بداية الصراع حتى منتصف القرن العشرين، فمن وجهة نظري فإن الصراع هو بين الأمة العربية من جهة والصهيونية والقوى التي تساندها من جهة أخرى، وطبعاً هذا الصراع متعدد الجوانب فليس كل عربي معاد للصهيونية، فثمة شرائح حاكمة متحكمة إقليمية وطائفية ترتبط مصلحياً ووجودياً بها، وتتناقض مع مصالح الأمة، وتتآمر على القضية الفلسطينية جوهر الصراع”.

وعن تجسيده لعذابات الإنسان الفلسطيني في نصوصه سواء القصصية أو الروائية يقول: “إلى حد بعيد هذا صحيح، وهو يعود إلى طبيعة التجربة التي عشتها، وكوني أنتمي للأرض الفلسطينية وعشت النكبة منذ العام 1948 وما تبعها من آلام ونكبات وكوارث ومآسي وانكسارات حتى اللحظة، ولكن عندما أكتب عن الفلسطيني وقضيته، فأنا لا أتعامل من منظور إقليمي إذ لا بد أن يكون الوعي والانتماء هما الأرضية التي أنطلق منها في الكتابة، فعندما أكتب عن غربة الفلسطيني وشعوره بالقهر في المطارات وعلى الحدود والمطاردات، فأنا أكتب عن الإنسان العربي الذي تدمره وتستبد به وتسرق حياته وتهينه وتضربه في وطنه وتفقده طاقاته قوى مريضة تكذب وتضلل”·

ويواصل عن رصده بجرأة وبدقة داخلية حركة المقاومة الفلسطينية وبعض الممارسات السلبية في رواياته المختلفة مثل ”البكاء على صدر الوطن” و”آه يا بيروت”  وغيرهما: “المقصود من ذلك أن نظرتي للثورة أنها فعل مفيد، وأن من يقومون بها يجب أن يتحلوا بصفات وقدرات وطاقات وطنية وأخلاقية وسلوكية وثقافية تجسد لب المشروع الثوري وجوهره· والكتابة في جوهرها نقد ونقض، بعض الكتاب اكتفوا بكتابات عن الفدائي والثورة بشكل عام، ولم ينظروا بعمق إلى المخاطر التي تهدد الثورة من داخلها والتي هي أمراض فتاكة وقاتلة إن لم يتم التصدي لها قبل استفحالها· أظن أن من يقرأ ما كتبت يعرف لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

وأريد أن أضيف هنا أنه قبل روايتي ”البكاء على صدر الحبيب”  التي صدرت في العام 1974 كتبت بعض القصص القصيرة التي تتحدث عن تجربة العمل الفدائي منها قصة تحت عنوان ”سقوط المطر” تنتهي بالتالي: لا تظفروا أمجادكم أكاليل على رأس أي فرد كان وليكن نشيدكم جماعياً. كخطواتكم”.

أيام الحب والموت..

في حوار معه أجراه “نضال القاسم” يقول “رشاد أبو شاور” عن الرواية الأولى (أيام الحب والموت، دار العودة، بيروت، 1973): “فتحت عيني في طفولتي المبكرة على موت والدتي بحادث مروّع، فقد انكسر خشب بابور الطحين تحت قدميها، فهوت على الحزام ومزق جسدها، وماتت بعد ثلاثة أيام، وبعدها بشهر ونصف ماتت أختي الوحيدة وهي دون الثانية، و..أنا لم أمت بعدهما، ولكن موتهما اختزن في داخلي، وأيضا لم أمت في حرب الـ 48 رغم أن الطائرات أغارت علينا، ولم أمت تحت الخيام في برد مخيم (الدهيشة) القريب من بيت لحم.. لقد عشت بالمصادفة! منذ بداية عمري تداخل الموت والحياة، وحين كبرت عرفت أنهما وجها الحياة، وأننا لا بد سنموت، وأننا نمر( ترانزيت) في هذه الحياة.

أيام الحب والموت روايتي الأولى، هي رواية النكبة، وهي رواية طموحة، كتبتها وأنا في الثلاثين، ولكنني لم أقل فيها كل شيء، ولذا أعكف منذ سنين على كتابة رواية النكبة.. بخبرات، ومعرفة، ودراية أفضل مما كان لدي قبل أربعين سنة. ربما تكون أهمية هذه الرواية أنها (ريادية) بالنسبة للنكبة، وأنها (ريفية) رغم تواضعها. لقد أردت أن أكتب رواية يمكن (حكيها) شفويا، كما لو أنك تقص (خُرّافية)على المستمعين، وأحسب أنني حققت هذا، وما هذا بالقليل”.

ويضيف عن القضية الرئيسية لديه وهل صحيح أن العمل الناجح يُبشِّر بالثورة، ويعد بولادة أمة جديدة:”القضية الرئيسية عندي، وعند كثيرين، سواء أكانوا كتُاباً، أو ناساً عاديين، هي: فلسطين. أمّا كيف أُقدم فنا يحمل هذه القضية فهذا سؤال يشكل امتحاناً لي، ولغيري.

العمل الناجح، ولا أدري بالضبط ما هي مقاييس النجاح، حتما يبشرُّ بحياة جديدة، وبمستقبل وضّاء، وبالكرامة والحرية لكل الناس، وهم في حالتنا أبناء وبنات أمتنا العربية، وفي المقدمة بنات وأبناء فلسطين المشردين بسبب الاحتلال، والمضطهدين تحت الاحتلال. الشعر يلهم، والرواية تطرح أسئلة، والفن يمتع، ولا يتحقق النجاح بالخطابات في الشعر والرواية، فالخطابات تكون على المنابر.. وهذا لا يعيبها، ولكنها تعيب وتُفشل الأعمال الفنيّة.

أنا لا أكتب للشعب العربي الفلسطيني وحده، فأنا أتوجه بكتاباتي الروائية، القصصية، لكل أهلي في الوطن العربي الكبير، وطموحي أن أصل إليهم بكتابة محمولة على أجنحة الفن”.

ويقول عن النقد الموجع لمسيرة التراجع التي عاشتها حركة التحرر العربي في أعماله، وعن هل هو راض عن مسيرته: “أتمنى أن تكون كتاباتي مؤثرة فعلا في نفوس قطاعات واسعة من الناس، وأن تعبر عن أوجاعهم، وغضبهم، وتوقهم للحرية، وأيضا أن تدفع بهم للمقاومة، سواء مقاومة العدو الذي يحتل فلسطين، والجولان، ومزارع شبعا، أو المستبد العربي التابع والمُفسد.

هل أنا راض عن مسيرتي حتى الآن؟

إلى حد ما، فأنا أطالب نفسي دائماً بفعل أكبر، فالرضى التام غير وارد، ومن رضي عن نفسه فبشره بالفشل، واحكم عليه بأنه (دعي) ومغرور، ومحدود الطموح!”.

حاضر عربيا..

وعن علاقته بالجماهير: “هذا سؤال تتفرّع منه أسئلة، وهو جدير بأن يُطرح في حلقة دراسية، ولكنني سأغامر وأحاول الإجابة بقدر ما أستطيع. علاقتي بالجماهير: أنا ابن الشعب، وابن الأمة، أكتب، أبدع، أخطب في الاحتفالات والمهرجانات، أصرخ، أنتج القصص القصيرة، والروايات، وقصص الفتيان، والمسرح، والمقالات، وكل هذا خدمة لما أراه ينفع أمتي، ووطني، وملايين العرب مشرقاً ومغرباً.. في معركة وجودنا، ونهوضنا، وخروجنا من الحالة المتردية.

السؤال: هل أصل؟ هذا سؤال يؤرّق كل المبدعين العرب، بغض النظر عن قدراتهم، ومواهبهم، وخلفياتهم الثقافية، والسياسية، والعقائدية. لكن، بعيداً عن التواضع: أحسب أنني حاضر فلسطينياً، وعربياً.. إلى حد ما، كمبدع، وكصاحب موقف مقاوم – ولا أقول: معارض، أو مشاكس، أو مشاغب – والمقاومة رؤية وفعل ودور وتحد.. ودفع ثمن عن طيب خاطر، وبدون تفضّل!

لا أريد الخوض في موضوع توزيع الكتاب العربي، والحدود، والرقابات.. ولكنني أجدها مناسبة لأخبرك بأن بعض (الدول) العربية تمنع مشاركة أعمالي الأدبية في معارض الكتب التي تقام في عواصمها.. ولست آسفاً، ولا آبه بهذا التصرف البوليسي العقابي للقراء في تلك البلاد، وليس لي، فهذا التصرف الأحمق لن يغيّر من موقفي تجاهها، وتجاه غيرها من نظم الاستبداد والتبعية!، ومعاداة فلسطين!”.

البكاء على صدر الحبيب..

وعن الضجة التي ثارت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عن رواية (البكاء على صدر الحبيب) يقول: “صدرت (البكاء على صدر الحبيب) عام 1974 فأثارت زوبعة من ردود الفعل في (الفاكهاني)، حيث كانت قيادة الثورة الفلسطينية، وفي الصحافة الفلسطينية، والعربية، وهددت حياتي فغادرت بيروت إلى دمشق، وأقمت في مخيم اليرموك لسنوات قبل العودة للإقامة في بيروت حتى الخروج بعد معركة 1982.

الرواية نقد، وفضح لواقع الثورة الفلسطينية الخارب من الداخل، فأنا صرخت مبكرا، حين كان غيري يطبّل للانتصارات، وللفرد، وهذا دفع بعض القادة لتهديدي علنا، وإهدار دمي، واتهامي (بالخيانة) ..أي والله (بالخيانة) لمجرد أنني أنتقد، فانظر إلى الديمقراطية التي كنّا نتمتع بها في (واحة) الديمقراطية في الفاكهاني! أنت ترى ضيق أفق قيادة شعبنا، وأنانيتها، ورفضها سماع أي نقد!

منذ ذلك الوقت وأنا أرفع صوتي، وأشارك في كل المعارك ميدانيا، والتشرد مع أُسرتي من بلد على بلد، ولا أتوقف عن الجهر بالنقد، والتحذير، والفضح، وفي نفس الوقت أدافع عن المقاومة، وعن الثورة وعن القضية، وهذا هو دور المثقف والكاتب الثوري الحقيقي..كما أراه. أنا فخور برواية (البكاء على صدر الحبيب). لقد أعطينا عمرنا لفلسطين، وللثورة… فانظر إلى أين وصلنا!

وصلنا إلى (أوسلو).. وسلطتين.. وأرض تضيع تحت نظرنا وقدس تهوّد، وقضية تبدد.. فهل كنت مخطئاً ؟! لا، بل المخطئ هو المثقف المنافق الذي تخلّى عن دوره المطلوب، والذي قبض ثمن تزويره وكذبه وصمته منصباً ومالاً، وها هو كما ترونه عارياً وصفيقاً، ولا يفتح فمه بكلمة نقد واحدة!”.

قصة السيدة الصامتة..

لرشاد أبو شاور

كنت، وما زلت أتساءل: ما الذي يجذب رجلاً لامرأة، في حين لا يأبه لها أحد غيره.

أنا أعجب ممن ينهمك في وصف وجه من يحب، وصوتها، ومظهرها، في حين أن كل الوصف، والكلمات الشاعرية، تعجز عن جعلنا نرى ذلك الجمال المفترض الذي هيمن على نفسه.

هل يعمد بعض الكتاب لإبراز براعتهم في الوصف، ليحظوا بإعجابنا نحن معشر القرّاء، وهم قبل غيرهم يعرفون أنهم لا يمكن أن ينقلوا لنا الملامح الحقيقية لمن يصفوهن من نسائهم الموصوفات في قصصهم ورواياتهم.

أصوات ملايين البشر لا تتشابه_ نادرا جدا يحدث تشابه_ ومع ذلك هناك من يتغزّل بصوت المحبوب، ونفس كلماته يمكن أن تقال عن صوت آخر لفتاة، أو امرأة، أخرى.

مرات كثيرة أتساءل: لماذا يضع (الواصف) نفسه في موضع النخّاس، المعني بالترويج لجارية، معتمدا على الإثارة بالكلمات، في حين أن أكثر من جارية تصطف أمامه، وهن معروضات للعامة، الذين تحدّق عيونهم بالجواري اللواتي يعمل النخاس على جني أعلى سعر لكل واحدة منهن.

لست نخاسا لأصف من يقع نظري عليها فتفتنني، وتأسرني للحظات، أو لأيام قليلة، ثم تنسينا إياها واحدة أخرى.. وهكذا!

قلت لنفسي وأنا أحدق في الفتاة، أو السيدة، التي شاءت الصدف أن أجلس قبالتها، ثم انتبهت لها، فشدّت انتباهي، وحيرتني وهي تجلس وحدها، تراقب الحضور، وتتابع تحركهم في الحفلة التي تجمع فيها عدد من الرجال والنساء، الذين توافدوا لتقديم التهاني للدكتور بهاء، الذي تربطني به صداقة امتدت منذ كنا في المرحلة الإعدادية، وحتى سفره للدراسة في بريطانيا، ولم تنقطع بيننا الرسائل، والتي تعززت في زمن الخلوي، ورسائل الواتس.

هذه المرأة الجالسة وحدها، والتي ترسل نظراتها على رؤوس ووجوه الحضور، بملامح محايدة، كأن كل ما تراه لا يعني شيئا لها.. شدّتني، بحيث شعرت بنبضات قلبي تدّق في صدري.

قلت لنفسي: يبدو أنها في الخامسة والثلاثين، وأنها ناضجة، وملّت من التجارب، وخيبات الحب، وأنها تبحث عمّن يليق بها، ويستحق إعجابها.

النادل الذي يدور بصينية الكؤوس يطوف على المدعوين، وحين وصلني انحنى انحناءة طفيفة ودفع بالصينية حتى صارت دانية ليدي، فمددت يدي وتناولت كأسا لا على التعيين، ثم أومأت لها برأسي في التفاتة أردتها طبيعية، وتنم عن احترام، فافترت شفتاها عن ابتسامة خفيفة، ورمشت، وبأصابع يدها اليمنى دحرت الصينية من أمامها، فعرفت أنها لا تشرب، أو أنها اكتفت، لكن ملامحها لم تش بأنها منتشية.

قلت لنفسي: هذه السيدة الفارهة، برأسها المكلل بشعرها الأسود ذي التسريحة البسيطة التي تكشف عن الجانب الأيسر من عنقها العالي.. وبفستانها الأبيض المنقط بزهر أزرق، وشالها على كتفيها بلونه الأزرق الهادئ.. صاحبة ذوق رفيع.(أأنت مغرورة، أم تراك مصابة بالملل من علاقات فاشلة مع رجال لا يليقون بك؟!)

دخلت سيدة مع رجل يبدو أنه زوجها، وحين رأتها تقدمت إليها وانحنت، وبدأت شفتاها تتحركان بدون صوت. قلت في نفسي: النساء يتفاهمن أحيانا بتحريك شفاههن، فلهن لغة خاصة بهن، وهن بهذا يتجنبن استراق الرجال لسماع كلماتهن التي تبوح بأسرار يخفينها، ويبخلن بها. هي تتأمل حركة الشفتين، وتحرك شفتيها دون أن تنطبقيا على بعضهما، وكأنها تنطق بأنصاف الكلمات، أو ببعض الحروف منها، وتهز رأسها وتبتسم، بينما السيدة تربت على كتفها.

نصبت السيدة ظهرها، وعلى وجهها طيف ابتسامة، أمّا هي فرمشت بأهدابها السوداء الطويلة، وباعدت قليلاً بين شفتيها، ومررت نظرة على الحضور دون أن تتوقف عند أحد.

شاب مديد القامة، خفيف شعر الرأس، كان يتمازح مع بعض النسوة، ويتطلع بين فينة وأخرى إليها ويبتسم، فترد على ابتسامته وهي ترمش رمشات توحي.. ولا تبوح.

صديقي بهاء مرّ من بين المدعوين حاملاً صحنا فيه تشكيلة من الطعام، وعلى وجهه ابتسامة:

– كل يا رجل.. كل شيئا.. أم إنك كعادتك لا تكف عن التساؤل، والاستغراق في تأمل الوجوه، سيما وجوه النساء؟

نهضت وباركت له من جديد:

– مبروك الدكتوراة يا صديقي…

عانقته من جديد، مع إنني عانقته عندما دخلت، وقدمت له هدية أردتها مناسبة لصديق في يوم نجاحه وفوزه بهذا اللقب العلمي الكبير.

زوجته صفيّة نقرت على كتفه، وهي تمنحني ابتسامة:

–  يلاّ.. هناك من يسألون عنك، وهم يريدون أن يودعوك.

– أنت ترى: إنها ملاكي الحارس، وهذا الملاك لا يتركني في حالي، فأنا تحت الرقابة.

انسحبا، الزوج والزوجة، وأنا بت أطيل النظر وبدون حرج، علّي أشبع رغبتي في التمتع بهذا الوجه، وهذا العنق، وهذا الصمت الذي تلوذ به هذه السيدة الجالسة وحدها، والتي لا تكلم أحدا، وإن كانت تبتسم ابتسامات صغيرة لبعض من يحيينها من نساء الحفلة، اللواتي يبدو أنهن يعرفنها، وإن كانت معرفة لا ترقى إلى حد الصداقة، كما يتجلّى في فتور تبادل الابتسامات الباردة.

تأملت أصابع يديها: ما أجملها، أصابع رشيقة طويلة، وهي كأنها تعرف أن أصابع يديها جميلة، لذا كانت تحركها كأنها تعزف على آلة غير مرئية، محيية بعض النسوة اللواتي كن يومئن لها بحركات خفيفة من رؤوسهن.

الحضور يغادرون، والنسوة يقبلن بعضهن، وتختلط كلماتهن، ثم يمضين مع أزواجهن، تاركات خلفهن مزيجا من عطور تملأ فضاء الصالة.

هي بقيت وحدها، وحين همّت بالنهوض اضطربت، وكدت أمد يدي لأمسك بأصابعها، لأوقفها، و..أخبرها بأنني.. بأنني أريد أن.. أحكي معها، فأنا لا أدري أين سألتقيها بعد اليوم، ولا يجوز أن أفوت الفرصة كما شأني دائما.

اقترب منها شاب يضع نظّارة على عينيه، يبدو أنها طبيّة، ولف ذراعه على كتفيها، فكدت أصرخ به: إرفع ذراعك عنها…

(الحمد لله أنني أمسكت نفسي عن هذا الفعل الجنوني)

التفتت صوبي، وابتسمت، وعزفت بأصابعها على الهواء، فالتفت الرجل الذي يلف ذراعه حول كتفيها، وبما يشبه الوشوشة:

– هذه أختي.. وهي.. خرساء..و.. ذكيّة، ومتعلمة.

تأمل وجهي، ثم سألني:

– ألست كاتب القصص والروايات رشااا…؟

أجبته قبل أن يُكمل الاسم:

– لا.. إنني أشبهه.

كأنه لم يقتنع، سأل وهو يبتسم:

– هل ستكتب قصّة..لأنك فوجئت بأنها خرساء؟!

لبثت أتأملها ذاهلاً، بينما شقيقها يسحب يدها برفق، وهي تترك ابتسامة ولمعة ضوء من بين رموش عينيها الفسيحتين، ووجدتني أهمس بصوت ربما سمعه بعض من لفتهم المشهد:

– أو هنري.. ربما كان سيكتبها لو أنه حي، أو.. لعلها تنال رضاه لو قرأها بعد كتابتها.. لو.. ولكنه مااات منذ زمن بعيد!.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب