25 فبراير، 2025 1:01 ص

قصّة قصيرة

خاص : بقلم – عدّة بن عطية الحاج (ابن الريف) :

إهداء:

هذه القصّة مهداة إلى روح الفقيد صديقي الأستاذ؛ “لخضر قمّور”، شهيد الظلم والقهر الاجتماعي.

قرّر “طارق” الشّاعر الأديب أن يضع حدًّا لحياته على طريقة الفيلسوف “سقراط”؛ سيتجرّع السّمّ الزّعاف وسيغادر هذه الحياة بمحض إرادته، سئم من هذه الوجوه الكريهة لأنّه لا يُريد رؤيتها في هذا العالم، صار “طارق” منبوذًا من طرف أهله ومن طرف أصدقائه؛ يُطارده سدنة المعبد في كلّ مكان وفي كلّ زمان، كان “طارق” شابًّا يافعًا طموحًا إلى المعالي، هوايته الأدب شعره ونثره، ولكنّ الأوغاد طاردوه في كلّ مكان، فقرّر أن يضع حدًّا لحياته، لقد تجرّع السّمّ الزّعاف على طريقة الفيلسوف “سقراط”؛ الذي اضطهدته زوجته وعانى كثيرًا من لسانها السّليط، وجدوه جثّة هامدة في بيته المهجور، ووجدوا في جيبه هذه الرّسالة التي كتبها وهو يودّع هذه الدّنيا الوداع الأخير، كتب على ظرف هذه الرّسالة: “أحرقوا جثّتي، وأرموا رمادها في بحر النّسيان عمّا قليل سأذهب إلى العدم”، كان “طارق” يُعاني من أزمات نفسيّة حادّة وكان يُعالج عند طبيب نفسانيّ ويتناول الأدوية المضادة للإكتئاب، ولكنّه لم يستطع الخروج من أزمته ولم يجد إلاّ أسرته إلى جانبه فقط، والده ووالدته وإخوته الثّلاث وله شقيقة واحدة فقط، وله أخوان هو أكبرهم، لقد عانى “طارق” كثيرًا في حياته من ويلات هذه الحياة القاسيّة؛ وكان يُحبّ كثيرًا جدّته لأمّه التي رحلت عن هذه الدّنيا منذ عشر سنوات، كلّما شعر “طارق” بالحزن يذهب إلى قبر جدّته لأمّه يبثّها همومه ويناجيها وهي تطلّ عليه من علياء السّماء مبتسمة: “لا تقلق يا طارق، عندما تموت سنلتقي هنا في العدم وسنتسامر حتّى هزيع ليل العدم الأخير، سأحكي لك تلك القصص الشّعبيّة التي كنت أسردها عليك قبل أن تنام، يا عزيزي، أصبر على نكد الدّنيا وكن أسدًا هصورًا يتحدى الصّعاب ويواجه الأزمات بكلّ رحابة صدر، كن شجاعًا كما عهدتك يابنيّ… سلام إلى أن نلتقي”.

عندما عاينوا جثّة “طارق” وجدوا هذه الرّسالة التي كتب فيها كلّ شيء عن حياته وعن أسباب انتحاره مدسوسة في جيبه؛ وهذا نصّها: “أنا طارق، الأديب الشّاعر الألمعيّ النّاقد وأستاذ الأدب العربيّ، قرّرت الانتحار عن طريق تناول السّمّ الزّعاف على طريقة الفيلسوف سقراط، لقد قرّرت أن أغادر هذا العالم المشؤوم، الكلّ تخلى عنّي، الأصدقاء، الأقارب، الأصهار، الزّوجة، حتّى ابنتي الوحيدة حرمت منها وشاء القدر ألاّ تحتفل معي هذا العام بعيد ميلادها الذي سيُصادف ذكرى رحيل جدّتي لأمّي لأنّني سوف أكون بعيدًا عنها، أنا طارق المتحصّل على شهادة الماجستير في الأدب العربي منذ سنة 2012، وإلى الآن لم أوظّف في الجامعة وكتبوا لي في الدّيبلوم تخصّصًا غير مرغوب فيه، وكنت أعمل في قطاع التّعليم وكدت أن أدخل السّجن بسبب تصادمي مع مديري في العمل، وكان دائمًا يُهدّدني برجال الأمن ويقول لي بالحرف الواحد: ستكون كبش فداء لأنّك متضامن مع زملائك، بل سأدخلك إلى السّجن، لقد دفعت ثمن نضالي النّقابي بسبب هذا المديرالمتسلّط الذي ظلمني وبسببه لم أرسّم في منصبي، وكدت أن أطرد من عملي وصار الأوغاد يتآمرون عليّ في كلّ مكان أذهب إليه، ما من مؤسسة تربويّة أذهب إليها إلاّ ويُحذّرون الطّاقم الإداريّ والأساتذة منّي، الكلّ صار يتوجس منّي ولا يُريد الحديث معي ويتجنبونني قدر المستطاع، كنت نقابيًّا من الطّراز الرّفيع أدافع عن المظلومين؛ ولكن عندما أقع في ورطة لاأجد أحدًا يقف إلى جانبي، صارت النّقابة هي اليد الضّاربة للإدارة ترفع من تشاء وتُعزّ من تشاء، إذا أردت أن تكون مقرّبًا من الإدارة فكن نقابيًّا، ضاعت النّقابة عندما خرجت عن أيدي الشيوعيين واليساريين، صاروا يتهمونني بالإلحاد لأنّني أنتقد بعض الأمور التي لا تروقوني في الدّين، وتبقى مسألة الإيمان أو الإلحاد مسألة شخصيّة، فهل شققت عن قلبي وعرفت دخيلة نفسي ؟.. إن كنت ملحدًا فهذا شأن يخصّني وكما يقال: إنّ الملحد هو أكبر الموحّدين، ويقول الأديب “مصطفى لطفي المنفلوطي” لولا جنّة المؤمنين وجنّة الملحدين ماجدّ في هذه الدّنيا جاد، إنّ الملحد صريح في أقواله جريء في آراءه، يُريد أن يعيش حياته بعيدًا عن الأديان، وتبقى مسألة الإيمان بوجود الله مسألة شخصيّة، فهل الله سيحاسبك لأنّك شغّلت عقلك وحاولت البحث عن الحقيقة والحقيقة فقط ؟.. لا تكن قاضيًّا على النّاس تحكم على هذا بالإيمان وعلى هذا بالكفر، تبقى مسألة الإيمان بوجود الله مسألة شخصيّة فقط، نحن ندعو إلى مجتمع علمانيّ يسوده القانون وحقوق المواطنة وعلينا أن نقبل بالملحدين في مجتمعنا ولهم مطلق الحرّيّة لكي يعيشوا بسلام، فالأصل في الإنسان هو أنّه يولد ملحدًا والمجتمع هو الذي يصبغه بصبغة الدّين وسوف نتعرّف على الله عن طريق العقل كما حدث ل،”حيّ بن يقظان” لا نحتاج إلى وحيّ أو تنزيل فعقلنا يكفينا، وسوف نعرف الله عندما نعمل العقل وننزه الله عن الخرافات والأساطير، نعم شيوعيّ أنا ويساريّ وأفتخر، تسقط الرّأسماليّة وتسقط الإمبرياليّة نحن نحلم بمجتمع تسوده العدالة الاجتماعيّة نحن مع طبقة العمّال ومع طبقة الكادحين، كم أتمنى الذّهاب إلى “لندن” لكي أزور قبر “كارل ماركس” العظيم، وكم أتمنى أن أذهب إلى “موسكو” لأزور قبر “لينين”، عاشت الاشتراكيّة وعاشت الشّيوعيّة وعاشت الماركسيّة، يتهموننا بأنّنا ملحدون لأنّنا نتبع تعاليم “كارل ماركس” العظيم؛ الذي قال ذات يوم: الدّين أفيون الشّعوب، هو ثار ضدّ الإقطاع الذي كانت تفرضه الكنيسة على الشّعب الألمانيّ، هو لم يكن ضدّ المسيحيّة بل كان ضدّ آباء الكنيسة سدنة المعبد الذين شوّهوا الوجه الحسن للدّين، فأنا حاولت أن أقرأ الإسلام قراءة ماركسيّة تُساهم في إظهار الوجه الحسن للدّين وإظهار الجانب المشرق منه، ولكن سدنة المعبد يتهمونني بالإلحاد، ولكنّ التّاريخ سينصفني والأجيال القادمة ستنحت لي تمثالاً من المرمر والبرونز وسيجعلونني رمزًا للنّضال، الأجيال القادمة سترى تماثيلي في كلّ السّاحات العامّة.

وداعًا يا “منال” يا زوجتي الحبيبة، وداعًا يا تلميذتي الوفيّة، سأفرّ منك كما فرّ “تولستوي” من زوجته “صوفيا”، فـ”تولستوي” اختار الرّحيل إلى مكان بعيد لا تعلمه إلاّ كريمته، ولكنّه مات شريدًا في إحدى محطّات القطار، أمّا أنا فسأموت بمحض إرادتي، سأموت على طريقة “سقراط” العظيم الذي عانى كثيرًا من زوجته ذات اللّسان السّليط وعاني من مجتمعه الأثيني الذي كان يُعبد الأصنام لأنّه تجرأ ذات يوم وقال عن الله بأنّه المحرّك الذي لا يتحرّك، كلّ من يُغرّد خارج السّرب ستكون نهايته مأساويّة، فمرحبًا بالموت إذا جاء على الطّريقة السّقراطيّة، وداعًا يا كريمتي سبيل، أنت ابنتي الوحيدة، أنتِ عيني التي أرى بها، بل أنت دقّات قلبي الخافقة تحت أثير السّعادة الورديّة المخمليّة وأنت معي، كوني ككريمة “تولستوي” عرفت والدها حقّ المعرفة وكتبت مذكّرات تدافع عنه وتنصفه من والدتها الظّالمة، سبيل كم أنا أحبّك، ستعرفين الحقيقة يوما ما، أقبّلك عزيزتي، للأسف الشّديد سوف لا تستطعين زيارة قبري بعد موتي، لأنّ جثّتي ستحرق وسيذر رمادها في بحر النّسيان، ولكنّني سوف أزورك في الأحلام، أعدك بذلك… انتهت الرّسالة”.

مات “طارق” وآثر الرّكون إلى السّكينة الأبديّة، آثر الرّحيل قبل آوان الرّحيل وترك وراءه لغزًا محيّرًا، لماذا اختار أن يموت بهذه الطّريقة المأساويّة ؟.. أراد أن يستريح من أحزان وأتراح هذه الحياة البائسة، صار “طارق” عدمًا محضًا والتحمت ذرّاته مع ذرّات هذا الوجود، وصار ينظر إلى هذا العالم بكلّ سخريّة ويقول: تبًّا لهذا القدر الغاشم، الذي جعلنا نصادف هؤلاء الأوغاد الذين ساهموا في تعجيل رحيلنا عن هذا العالم.

تمت

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة