عبدالله دعيس:الحياة الأجتماعية والثقافية من خلال رسائل من القدس وإليها
كتاب رسائل من القدس وإليها، من تأليف الكاتبين المقدسيّين جميل السلحوت وصباح بشير، الصادر عن مكتبة كلّ شيء الحيفاويّة، حزيران 2022، يقع الكتاب الذي يحمل غلافه الأول لوحة للفنّان التشكيليّ محمد نصرالله، ومنتجه وأخرجه شربل إلياس، في 182 صفحة من الحجم المتوسط.
لا شكّ أنّ فنّ الرسالة الأدبيّة هو أحد فنون الكتابة المهمّة في الأدب العربيّ، فقد ظهر مع ظهور الكتابة والتدوين في العصور الإسلاميّة الأولى، وازدهر في العصر العبّاسيّ، واستمرّ بقوّة في مختلف البقاع الإسلاميّة، وكان له تألّقه في العصر الحديث، حيث الرّسائل المتبادلة بين الأدباء والكتّاب والشعراء. ومع انحسار استعمال الرسائل الورقيّة، ربما بدأ هذا الفنّ العريق بالتّراجع قليلا، حين حلّت الرسائل الإلكترونيّة، والتي طابعها السّرعة والإيجاز، محلّ الرسائل الورقية، ويُأخذ على الرسائل الإلكترونيّة الردّ الانفعالي العاطفي أحيانا دون تفكير أو رويّة أو مراجعة حقيقيّة لما كُتب، ودون التّروّي والتّفكير في تأثير الرّسالة على نفس المتلقي.
ورسائل الأديب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير هي رسائل إلكترونيّة، لكنّها لم تُكتب على عجل، ولم تكن ردا انفعاليّا، بل امتدّت لأكثر من عشر سنوات منذ عام 2010 حتى نهاية عام 2021، لذلك فهي امتداد طبيعيّ لفنّ الرسالة الأدبيّة الراسخ في الأدب العربيّ، وتطوير له؛ فاستخدام الرسائل الإلكترونيّة هنا، لم يُفقد الرسائل قيمتها الأدبيّة وجمالها ورونقها.
ويلحظ القارئ لمجموعة الرسائل المتبادلة بين الشّيخ جميل السلحوت وصباح بشير، اللغة الأدبيّة الجميلة، والعبارات الماتعة، والسّرد المشوّق، وتنوّع الموضوعات وثراءها؛ فلغة الرسالة وأسلوبها عادة ما تلائم المتلقي لها وقدرته اللغوية وفهمه، فلكل مقام مقال، والرّسالة الموجّهة لعامّة النّاس لا تكون كالرّسالة الموجهة لأديب يمتلك أدوات اللغة ويحسن فهمها، وتداعب عباراتها الجميلة وأساليبها البديعة شغاف قلبه، لذلك أبدع الكاتبان وأحسنا التّعبير عمّا كان يجول في خاطريهما، وأمتعا المتلقّي وجذباه لالتهام السطور، والسفر مع رسائلهما في أقطار المعمورة دون كلل أو ملل.
ومن اللافت في هذه الرسائل، أنّ الكاتبين لم يلتقيا إلا لماما، ولم تجمع بينهما لقاءات ولا حوارات خارج هذه الرسائل المتبادلة، فما الذي دفعهما إلى الاستمرار بالمراسلة لفترة طويلة؟ وخاصة أنّ البعد عادة ما يجعل العلاقة بين أي شخصين تفتر بعد فترة من الزمن- فالأصدقاء المقربون يتبادلون الرسائل الكثيرة في بداية اغتراب أحدهما، ثمّ تبدأ هذه الرسائل بالتّناقص حتى تنقطع أو تصبح نادرة قليلة، ولا تلبث العلاقة أن تفتر بينهما- “والبعيد عن العين بعيد عن القلب.” كما يقولون. لكنّ مجموعة الرسائل المتبادلة بين الكاتب جميل السلحوت والكاتبة صباح بشير، تزداد وتتابع بعد مضيّ عدد من السنين على رسالتهما الأولى! وذلك لأنّ ما جمعهما هو اهتمام مشترك، وهمّ مشترك، وأفكار متقاربة، وحبّ للّغة والأدب، وحبّ للوطن، وحرص على نبذ الجهل السائد في المجتمع ورفع من شأن الإنسان العربيّ، وخاصّة المرأة.
من الواضح من خلال قراءة الرسائل المتبادلة بين الكاتبين، أنّهما لم يكتباها لكي تُنشر، وإنّما ليتبادلا فيها الأفكار والمشاعر، لذلك كانت عفويّة صادقة غير متصنّعة، وهذا ما يميّز هذه الرسّائل ويميّز فنّ الرسالة بشكل عام.
وقد امتدت الرسائل بين الكاتبين لمدة تربو على عشر سنوات، وهي سنوات حدث فيها تغيّرات كثيرة في العالم العربيّ، الذي تاق أبناؤه لحريّة ينتزعونها من أنياب الطغاة، فثاروا عليهم، وتفتّحت أزهار الرّبيع العربيّ، لتنقضّ عليه سيوف الطّغيان لتئده في مهده وتحوّل الحلم الجميل الذي استوطن قلب كلّ عربيّ حرّ إلى كابوس مزعج دفع بالكثيرين إلى براثن اليأس. وقد اتسمت هذه السّنوات القليلة، بتغيّرات اجتماعيّة وسياسيّة كبيرة جدّا، وانقسم النّاس فيها: فمن آمن بالحرّية كقيمة أصيلة، وآمن بمبادئه وتاريخه وثقافته ودينه بقوّة، لم يتزحزح قدر شعرة عن إيمانه، وتلقى الضربات المضادّة بقوة وثبات، وأصبح أكثر إصرارا على الوصول إلى شواطئ الحريّة والعزّة رغم حلوك العتمة، ومنهم من ركن إلى الطغاة وآثر سلامة العبوديّة على وعثاء الحريّة، ومنهم من شكّ بقاناعاته مع أول اختبار حقيقيّ، وانزوى بعيدا عن الأضواء ووصل إلى حالة من اليأس والإحباط، ومنهم من تملّكته الآلة الإعلاميّة للباطل فامتدّت يداه إلى معاولهم فأمعن بهدم روح الأمّة. يبدو الكاتبان، من خلال رسائلهما الممتدة خلال هذه الفترة الحرجة، ثابتين على أفكارهما، لكن بإمكاننا أن نلحظ التغيّرات الاجتماعية والسياسيّة التي حدثت من خلال هذه الرسائل. ونلاحظ التتابع في الرسائل في فترات معيّنة والانقطاع في فترات أخرى، فلم تكن هناك رسائل بين العامين 2013 و 2017 حيث كانت الصدمة كبيرة على المثقفين، ولم تتضح الأمور بعد، ثمّ أصبح الأمر بعدها واضحا جليّا لكل ذي عقل وقلب.
يتناول الكاتبان عددا كبيرا من الموضوعات في رسائلهما، وإن كان التركيز على الأوضاع الاجتماعيّة في فلسطين يأخذ حيزا كبيرا منها، ويتبادل الكاتبان شؤون الأدب وحياتهما الأدبيّة، فيتعرّف القارئ للرسائل على إنتاجهما الأدبي وعلى الحياة الثقافية في القدس وفلسطين، ويتحدّث الكاتبان عن حياتهما الشخصيّة، فتكون رسائلهما سيرة ذاتيّة مصغرة، ويتحدثان عن حياة الفلسطيني في ظلّ الاحتلال، والتحوّلات التي حدثت في القدس بسببه، ويصفان البلدان التي زاراها فيما يشبه أدب الرّحلات، ويتحدّثان عن الأمور السّياسيّة في مواقع كثيرة، رغم أنهما يقولان أنهما يريدان أن يبتعدا عن السّياسة وهمومها، وغير ذلك الكثير. وتنوع المواضيع في هذه الرسائل يثريها.
يتفق الكاتبان على كثير من الأمور، والمشترك بينهما كبير، فهما محبان للأدب، محبان للسفر، مؤمنان بقيمة الحريّة، يزدريان الجهل، ويحفهما الأمل بالتّغيير. لكن هناك تباين بين شخصيّتيهما، فالكاتبة صباح بشير كانت تشعر بالاغتراب عن مجتمعها، ثمّ اختارت طوعا الغربة والابتعاد عن الوطن، وعندما عادت، اختارت أن تسكن في حيفا بعيدا عن مرتع طفولتها والقدس التي أحبتها، كما تقول، ونراها تزدري العادات الاجتماعيّة العربيّة وترفع من شأن المجتمعات الغربية التي عايشتها. أما الكاتب جميل السلحوت فرغم وعيه لكل ما في مجتمعاتنا من جهل وعادات سيّئة، والتي يشير إليها بوضوح ويحاربها بقوّة، إلا أنّه لا ينفصل عن ثقافتة مجتمعه وتراثه ودينه، ويرى الخير فيها، كما يرى الاعوجاج والانحراف، ويسعى نحو الإصلاح دون الانقلاب على الثوابت ومعاداتها، يعجبه في الغرب الكثير الكثير ويذكره دون انتقاص، لكنّه لا ينحدر نحو الانبهار بحضارة الغرب، ولا ينسى ما قامت عليه هذه الحضارة من ظلم واضطهاد واستعمار وتفرقة عنصريّة والكيل بمكيالين.
“رسائل من القدس وإليها” كتاب رائع يستحقّ القراءة، يعطي صورة واضحة عن الحياة الاجتماعيّة في القدس وفلسطين، وعن الوضح الثقافيّ فيها، في فترة اضطربت فيها الأفكار والمشاعر، تمرّ الأمّة فيها بمخاض عسير، نأمل أن يسفر عن ميلاد لمستقبل جميل.