خاص: قراءة- سماح عادل
في كتاب “فرانز كافكا رسائل إلى ميلينا” ترجمة هبة حمدان، إصدار الأهلية للنشر، نستطيع التعرف على جوانب من شخصية الكاتب الألماني الشهير “فرانز كافكا”، الذي نال شهرته بعد موته، والذي تعذب بمرض سيء في حياته وكانت له نظرة سوداوية تجاه الحياة، ولولا رفض صديقه تنفيذ وصيته بإتلاف كتاباته بعد موته، وإصراره على نشرها لما كان “فرانز كافكا” عرف في جميع أنحاء العالم ككاتب بارع وله صوته الخاص.
نشر الكتاب..
كان “كافكا” يهودي ألماني يعيش في “براغ”، وكانت”ميلينا” ألمانية تشيكية مسيحية، وفي ذلك الوقت كان ينظر لليهود بعدائية ودونية في أوروبا وألمانيا بالتحديد، كان أول من نشر كتاب “رسائل كافكا إلى ميلينا” هو “ويلي هاس” صديق مشترك بين الاثنين، ائتمنته “ميلينا” على الرسائل قبل الحرب الألمانية فقام بنشرها 1952، قائلا “لدى الثقة أن ميلينا ما كانت لتعترض على نشر الرسائل بعد وفاتها”، وبعد عدة سنوات قالت “جانا كيرنا” ابنة “ميلينا” أنها على ثقة أن أمها و”كافكا” ما كانا ليوافقا على نشر رسائلهما، وقد ألغي “هاس” بعض الأجزاء في الرسائل، وفي 1986 قام “ميشيل مولير” و”جورجين” بإصدار نسخة ألمانية عن الرسائل، واضعين فيها كل الفقرات والتفاصيل التي قام “هاس” بإلغائها.
ميلينا وكافكا..
ولدت “ميلينا جيسينسكا” في “براغ” في 1896، وكان والدها جراح أسنان معروف وأستاذ في جامعة “براغوز شارلي”، وتوفت والدتها وهي في عمر 13 عاما، وكانت تعمل “ميلينا” مترجمة لكتابات “كافكا” للغة التشيكية، وكان عملها هذا هو السبب الرئيسي لتبادل الرسائل بينهما عام 1920، وقد كانت مقاومة للاحتلال النازي لبلادها، وقام النازيون بإلحاقها بمخيم للمعتقلين الذين ساعدوا اليهود، وماتت في 1944، وقد كان “فرانز كافكا” في السادسة والثلاثين حين تعرف عليها وقامت ميلينا بترجمة كتابه “الفحام”، وقد مرض بالسل وتوفى في عمر الأربعين.
الرسائل..
وسوف نعرض لبعض ما قاله “كافكا” ل”ميلينا” في رسائله:
أبريل 1920.. “عزيزتي السيدة ميلينا.. لا استطيع تذكر وجهك أو ملامحك، أذكر رؤياك تبتعدين بين مقاعد المقهى، ثوبك وجسدك المبتعد هو ما يجول في ذاكرتي”.
أبريل 1920.. “عزيزتي السيدة ميلينا.. يجب أن اعترف أن مرضي جلب لي الخير أكثر من السوء، بدأ مرضي منذ 3 سنوات، لقد كنت متحمسا حينها كحماس شخص بشيء جديد، وفي نفس الوقت كنت خائفا، ما توصلت له أن عقلي لم يعد يتحمل المزيد، فالآلام والهموم أثقلت كاهلي”
نهاية أبريل 1920.. “عزيزتي السيدة ميلينا.. تساألين عن خطوبتي، لقد خطبت مرتين، والخطيبة الثانية خطوبتنا مازلت قائمة من غير أمل بإتمام الزواج، اعتبر وكأن الخطوبة لم تكن، فقد خرجت من تجاربي بأن الرجل يعاني أكثر في تجاربه، لأنه صاحب القرار، لا أعنى أن المرأة لا تعاني لكنها مغلوبة على أمرها، وتتصرف وكأن الأمر محتوم عليا من دون أن تكون طرفا فيه”.
مايو 1920.. “عزيزتي السيدة ميلينا.. سأفعل أي شيء لأبدد تلك المشاعر التي تعتريني حين أقرأ رسائلك، وإلا ستثقل كاهلي ليل نهار.. لقد كتبت قصة كان الهدف بكتابتها أن أبقى على اتصال معك، وعند انتهاء القصة لم أتذكر ما كتبت، كنت أفكر فيك أغلب الوقت، لقد جلست يومها على الشرفة وكل ما كتبته كان من نبع مشاعري التي لا استطيع أن أسيطر عليها حتى الآن”.
29 مايو 1920.. “عزيزتي السيدة ميلينا.. ماذا تتوقعين؟ هل من الممكن أن استلم منك رسالة يوم الأحد، إنه ممكن؟ إن شوقي لاستلام رسائلك يتحول إلى هوس، ألا تكفي رسالة واحدة، ألا يكفي أن أعلم شيئا واحدا؟، طبعا يكفي لكنني أميل رأسي إلى الخلف لأتجرع من كلمات رسائلك التي لا اكتفي منها، اشرحي لي لماذا يحدث هذا معي معلمة ميلينا”.
30 مايو 1920.. ” أنت تبوخين كأفضل شخص رأيته، أود أن أكون طالبا لديك لتستطيعي أن توبخيني كما تشائين، وكأني أجلس على مكتبي خائفا من أن أرفع عيني، وأنت منحنية باتجاهي وأصابعك تلوح في الهواء لتجدي خطأ”.
31 مايو 1920 ..”أنا مريض روحي من أربع أو خمس سنوات”
2 يونيو 1920.. “لدي مائة سبب يمنعني من الذهاب إليك، لدي سببي ولدي سبب يخصك، فأنا لا استطيع مواجهة زوجك أو حتى محادثته، ولن استطيع محادثتك وكيف لي أن أقابلك من دون وجود زوجك، هذا سببان كافيان لما سلمت به مسبقا، أقول لنفسي أولا ربما ميلينا لا ترغب بحضورك ليس لتردد فيها بل لإرهاقها الواضح، والسبب الثاني ربما ترغب ميلينا أن تفتح الباب لك لكن سيقف بيننا شخص نحيل بابتسامة.. إذا شعرت بعد انتهاء الأسبوعيين القادمين أنك ما زلت راغبة بقدومي سأحضر” .
3 يونيو 1920 ..”كيف لي أن أنام وأنا أشعر وكأنني ريشة في مهب الليل، أفكر فيك باستمرار، لقد كنت خائفا كما كنت أنت حين راسلتني، هذه هي مشاعري حين وصلتني رسالتك، نشترك كلانا بصفات غريبة مثل القلق والخوف، فكل رسالة لا تشبه سابقتها.. أشعر أحيانا أن كلانا في حجرتين بابهما متقابلين، وكأننا نمسك بقبضة الباب فما يكاد أحدنا يلمح الآخر حتى يهب ليختفي وراء الباب، ولو حاول أحدنا أن ينطق بكلمة تجد الآخر يضرب وراءه الباب مبتعدا لكي لا يراه، متأكدا أنه سيقوم بفتح الباب مرة أخرى، فهي حجرة من الصعب مغادرتها.. أحيانا تشكين يا ميلينا من بعض الرسائل تلك الرسائل التي شعرت فيها أني قريب منك، وكان دمي يألفك كما يألفك دمك، إنها الرسائل التي تعمقت فيها بغابتي، وملأتني راحة، يجب أن تحاولي عزيزتي ميلينا أن تلاحظي من هو الشخص الذي أخطأ بحقك، أن ثمانية وثلاثين عاما لا تعد بالقليل، فلو كنت صادفتك في معترك الحياة، أنت التي لم أتوقع يوما أن ألقاك، بمثل هذا الوقت المتأخر من عمري، فلا أتوقع يا ميلينا أنني كنت سأصرخ ملوحا، ولا أن تتحرك بداخلي كل هذه الأمور، ولا أن أتفه نفسي وأقول الحماقات التي أقولها، أما عن حقيقة أنني خانع وراكع فلم ألحظ ذلك، إلا عندما رأيت قدميك أمامي ويداي تحتضنان ساقيك”.
13 يونيو 1920 .. “لطالما سعدت بتلك الرسائل المسالمة وكأنني قادر على أن أجلس عند قدميك، وبكل سعادة فكأنها تنزل المطر فوق رأسي المحترق، أما عندما تبدأين بتلك الكلمات الأخرى فلا استطيع إلا أن ارتعد مكاني، فلا أتمكن من إكمال القراءة، مرتعدا أصلي من غير أن أفهم ما أقول في صلاتي، أصلي لتخرجي من النافذة، أنت وإعصارك القادم من بين طيات رسائلك”.
عينيك وقوة إرادتي..
16 يوليو 1920.. “أود النظر في عينيك لأريك قوة إرادتي، حين تكون عيناك مقابلي استطيع تحمل أي شيء، البعد، القلق، التعب، وتأخر الرسائل، وصلتني رسالتك- يا إلهي- تحتوي صورة بداخلها، وهو شيء يفوق الخيال، وهذا ما يجعلها تكفيني العام كله والى الأبد، لم أكن لاستطيع أن أمسك دموعي وأهديء خفقات قلبي، لا لحل لذلك.. شيء وحيد لا استطيع أن أتخطاه دون مساعدتك يا ميلينا، الخوف، فأنا أضعف منه إنه هائل يحجب رؤيتي، ففضيانه قوي يجرفني بعيدا”.
29 يوليو 1920 .. “لو كنت استلم ردا منك كل يوم ولم أشعر بأن كتابتك لي تسبب لك تلك التعاسة، ربما كان ذلك سيكون كافيا لي لأتعافى بشكل كبير”
30 يوليو 1920 ..”دائما ما تريدين معرفة أن كنت أحبك ميلينا، ولكنه سؤال صعب الجواب، لا يمكن إجابته في رسالة”.
6 أغسطس 1920 .. “تشعرين بحال سيئة أسوأ ما كنت منذ ألتقيتك، وأكاد أكون متأكدا أن سبب سوء حالك هو ابتعادك عني، نعاني معا، يشعرني ذلك بأنني في غرفتك وأنت لا تلحظينني”.
13 أغسطس 1920.. “مازال ردك على تساؤلاتي يوما بعد يوم يظهر أنك ما زلت مرتبطة بزوجك، بكل أنواع الارتباطات ما عدا ارتباط الزواج المقدس، كم يثير ذلك العصبية بي، وكأنني سفينة أتخبط، هل تعرفين أنني عندما أحاول الكتابة عن ذلك أشعر أن سيوفا تحيط بي بشكل دائري، وتبدأ بالاقتراب من جسدي ببطء، ويبدأ العذاب حين تبدأ تلك السيوف بكشط جلدي.. يبدو ذلك مرعبا جدا..
لم أسيء فهم ما قصدته عن زوجك، لا تنفكين تذكرين سر ذلك التماسك الدفين بينكما، تلك العلاقة المتينة التي لا سبيل لتحطيمها، وتليها الاعتناء الغريب بحذائه ذا الرقبة العالية، هنالك ما يعذبني في داخلي لك، ولا أعرف ما هو فعلا، فلو تركته فأتوقع أما أنه سيذهب للعيش مع امرأة أخرى، أو ينتقل للعيش بنزل، وسيتم الاعتناء بلمعان أحذيته أكثر مما تفعلين”.
1 سبتمبر 1920 ..”لا رسائل اليوم.. أمر غبي.. أبدا الظن حين لا تصلني رسائلك، وحين استلم رسالة أبدأ بالأنين، ولكن لي الحق بذلك، فكلا الحالتين شكوى حقيقية”.
الرسائل تجلب العذاب..
نوفمبر 1920.. “سأكون مخطئا جدا أن ظهر أخيرا أن فكرة توقفنا عن مراسلة بعضنا البعض هي فكرة جيدة، لكنني لا أظن أنني مخطئ بذلك، سأتحدث عن نفسي فقط، ما تمثيلنه لي يا ميلينا يتجاوز العالم الذي نعيش فيه، شيء لا تعبر عنه الرسائل والكتابات التي كتبتها لك، فلم تجلب لنا تلك الرسائل إلا العذاب، ولو لم تسبب العذاب لسببت ما هو أشد منه، فهي لا تفعل إلا أن تخلق سوء تفاهم جديد، وإذلال لم يكن في الحسبان، أتمنى أن أراك بالوضوح الذي كنت عليه يوم رأيتك في الشارع، فالضوضاء الناتجة عن الرسائل باتت أشد من الضوضاء الناتجة من الشارع .
ولكن هذا ليس حتميا حقا، إن ما هو حتمي عجزي الذي تزيده الرسائل سوءا، وما يستجد عليه من عجز باتجاهك وأيضا عجزي باتجاه نفسي، ألف رسالة منك وألف رغبة في قلبي لن تقنعني”.
مارس 1922.. “لقد انقضى وقت طويل منذ أن كتبت إليك سيدة ميلينا، وأنا أكتب لك اليوم كنتيجة لأمر، فلا يجب أن اعتذر عن عدم مراسلتك فأنت بت أكثر الناس معرفة كم أني أكره الرسائل، وكل سوء الحظ الحادث في حياتي، ولا أود أن أتذمر منها.. إن السهولة في كتابة الرسائل قد جلبت الدمار إلى أرواح الناس، كتابة الرسائل هي لحظات من تلاقي الأشباح، شبح المتلقي وشبح المرسل ليتجسدا في كلمات الرسالة، كتابة الرسائل من جهة أخرى هو أن يتعرى الشخص أمام الأشباح، والتي تنتظر ذلك بتلهف، فالقبلات المكتوبة لا تصل إلى وجهتها، الأشباح تتشربها وهي في طريقها إلى هناك”.
فبراير 1923 .. “منذ سنوات لم أخاطب روحا، وكان يفترض أن أكون ميتا، لم أشعر بضرورة التواصل مع أي أحد، كان الأمر وكأنني لم أعد في هذا العالم، لكنني لست من عالم آخر أيضا، كان الأمر وكأنني رميت تلك السنوات التي طالبت بها بالكثير، لكني بالحقيقة كنت انتظر أن أسمع أحدا يناديني، حتى ناداني مرضي من الغرفة المجاورة”.
في هذه اللحظة أسوأ شيء هو، وان لم أكن توقعته، أنني لا استطيع أن أكتب هذه الرسائل بعد الآن، ولا حتى المهمة منها، فالسحر الشيطاني لكتابة الرسائل بات يدمر ليالي أكثر مما هي مدمرة أصلا، يجب أن أتوقف، لن أستطيع الكتابة بعد الآن، اوووه فأرقك مختلف عن أرقي، أرجوك دعينا لا نكتب بعد الآن”.