24 سبتمبر، 2024 10:22 م
Search
Close this search box.

رؤية نقدية لرواية “أرواح الشرتاي ال 7” للكاتب “مبارك أحمد”

رؤية نقدية لرواية “أرواح الشرتاي ال 7” للكاتب “مبارك أحمد”

كتب: أ.د. عبد الغفار الحسن محمد

جامعة وادي النيل/ السودان

بهذا العنوان المدهش في الكشف عن ذلك الظلام الذي أحاط بالحرب في إقليم دارفور في السودان، في العقدين الأول والثاني من هذه الألفية الثالثة، فلم تحظ هذه الحرب بالتوثيق الإعلامي، ولم يشاهد العالم عبر آلته الإعلامية الباهرة والمتطورة في هذا العصر ما شهدته تلك البقعة من حرب أهلية تعتبر الأشد فتكا بالإنسان، والذي ترقى فيها التهم إلى مستوى الإبادة الجماعية التي مورست ضد مواطني هذا الإقليم الذي كان آمنا مطمئنا.

استطاع الكاتب في هذه الرواية أن يصور تلك الحرب اللعينة، ويكشف بطريقة فنية عن صور شديدة القتامة وكالحة السواد؛ لأبشع ممارسات عسكرية ضد العزل والنساء والأطفال، من قبل المليشيا (كما يسميها) ولعله يشير هنا إلى مليشيا الجنجويد، وما ارتكبته من قتل وحرق واغتصاب للعزل من المواطنين الذين كانوا يعيشون في قرى آمنة مطمئنة رغم بساطة مبانيها، فهي أكواخ من القش في أغلبها، وقد صور الكاتب كيف أن طائرات الأنتنوف قد أحالت هذه الأكواخ إلى كتل من اللهب والأجساد المتفحمة… كما صور الجنجويد في أبشع صورهم وهم يقتحمون هذه القرى فيقتلون الرجال والشباب ويغتصبون النساء!! بل ربما اغتصبوا المرأة أمام زوجها فيموت قهرا!!

وظف الكاتب تقنية الراوي العليم وهو بطل هذه الرواية الشرتاي آدم فتاك، الذي كان شاهدا لهذه الحرب اللعينة ومن كبار قادتها المحليين الذين شكلوا مقاومة لهذه المليشيا … فقد روى بضمير المتكلم العليم كل التفاصيل التي شاهدها وغاص في وحلها، والتي أدت إلى الوضع القائم الآن في دارفور والمعلوم للجميع.. فقد تحولت دارفور كلها إلى معسكرات للنزوح، وأضحت آلاف القرى أثرا بعد عين، وقد هرب الكثيرون خارج دارفور بحثا عما يعينهم لمواجهة هذه القوة الغاشمة التي اجتاحت بلادهم وحولت أمنهم إلى مبتدأ ليس له خبر…

وقد صور بطل هذه الرواية آدم فتاك كيف أنه خاض معارك مقاومة كاد أن يهلك فيها هو وجيشه بالكامل؛ لقلة عدتهم وعتادهم مقارنة بالمليشيا التي يواجهونها. كما يروي كيف أنه فقد جميع أفراد عائلته أمام عينه، حينما هاجمت طائرة أنتنوف قريتهم “لبدو” التي أحالت أكواخها لكرات من الجحيم، وما بداخلها إلى أجساد متفحمة… فقرر الهروب والهجرة وكانت وجهته دولة مصر الشقيقة.

هذا وقد وفق الكاتب في رسم شخصية الشرتاي باعتبارها شخصية مركزية داخل المجتمع الدارفوري، تحظى بصفات قيادية، وقيم خلقية عليا تمثل طبيعة إنسان هذا الإقليم. فقد صوره بعد هجرته لمصر كإنسان يحمل قضية يعيش من اجل الانتصار لها، ولم يذب في مجتمع الجامعة التي وجد فرصة لدخولها، بل أصبح جهده منصبا في التعريف بقضية دارفور في الأوساط الطلابية حتى ألف كتابا عن هذه الحرب سماه ” الحرب التي خانتها الوثائق” بمساعدة أستاذة علم النفس “لينا الغالي” التي اهتمت بحالته النفسية واستطاعت أن تستنطق هذه الشخصية؛ لتبوح بكل ما تعرفه من هذه الحرب وما تعقده من آمال حول الرجوع لدارفور والانتقام من القتلة، واستردادها لأهلها آمنة مطمئنة فلم يفقد الشرتاي الأمل بعد.

كان لهذا الكتاب تأثيره المباشر على مستقبل البطل الأكاديمي

هل استطاع بطل الرواية وراويها العليم أن يصمد في مهجره بعد أن فقد منصب عمدة القبيلة “الشرتاي”؟

نعم فرغم معاناته المادية إلا أنه استطاع أن يقدم نفسه كشخصية ذات حضور طاغ يلفت إليه الآخرين ويقدرونه بما يستحق لما يتمتع به من صفات خلقية وشخصية متميزة، فقد كانت أستاذته “لينا الغالي” هي تلك المرأة التي وقفت لجانبه وأخرجته من محنته بما وفرته له من عمل، ثم تزوجته، بل صار محور حياتها. وقد تجلت فيه صفات النفس الإنسانية الكاملة، وفاء وحبا واحتراما وشجاعة ومروءة وأمانة … من خلال العديد من المواقف التي استطاع أن يرويها لنا الراوي العليم.

بل استطاع بشخصيته الفذة والقيادية مواجهة صلف طليق زوجته، الذي كان يتعامل معه باستعلاء ظاهر مرده إلى اختلاف اللون والفقر الوضع الذي يعيشه هذا المهاجر. كما استطاع أن يقف في وجه أخيها ذلك المتأنث الغر والذي لا يعلم شيئا عن عالم المال والأعمال وكان سببا في ضياع ثروة والده الطائلة، ولكن دور فتاك قد أنقذ هذه الأسرة من الإفلاس في أكثر من موضع…واستطاع أن يكون وفيا مع زوجته رغم ما تعرضت له من مرض عضال كان سببا في وفاتها فيما بعد، فلم يتخل عنها. واستطاع بشخصيته المميزة من إخضاع “كلارا الخوري” تلك الحسناء التي كانت تعمل سكرتيرة خاصة لطليق لينا الغالي والتي تستخدم جمالها الطاغي في إخضاع الرجال لإتمام الصفقات معه…فقد حوّل نظرتها من عدائية استعلائية، إلى نظرة تقدير وحب ثم تعلق… كل ذلك فقط بقدرته على المحافظة على شخصيته القيادية  ومبادئه الخلقية المنضبطة بالإسلام كسلوك إنساني متحضر، وليس مجرد نصوص محفوظة، فقد كان القرآن الكريم حاضرا في كل حواراته موجها لسلوكه وضابطا لتصرفاته ومعاملاته… مما جعل كلارا تلك النصرانية والعاهرة كما قدمتها الرواية تتعلق به ثم تبدأ في التحول بعد أن أصابتها أنوار الحق والحب والخير والجمال التي سلطها عليها هذا الشرتاي آدم فتاك! فقد أصبح في نظرها الآن مثالا للرجولة الكاملة التي لا تعني الفحولة فقط، وإنما تعني أيضا تقدير المرأة وحبها والعناية بها وحمايتها، بل عدم استغلالها مهما كانت ضعيفة وخاضعة وراغبة إلا وفقا للروابط الشرعية المرتبطة بالدين.

كانت تتكشف لها يوما بعد يوم عظمة هذا الرجل التي هي من عظمة القيم التي يؤمن بها، فكان هذا دافعا لأن ينير جوانب نفسها المظلمة بكثرة العهر الذي تمارسه لإتمام صفقات مديرها… ها هي الآن ترى النور وتسلم تتزوج فتاك!!

كذلك استطاعت هذه الرواية أن تثير كثيرا من التساؤلات حول قضايا الحرب والأخلاق والدين والسياسة والمجتمع والأعراف والتقاليد وجعلت قضية دارفور هي المحور والمحرك لكل أحداثها…

فرغم فرحة فتاك الشديدة بالظفر بكلارا الخوري كزوجة شرعية بعد وفاة زوجته لينا الغالي، إلا أنه لم يستسلم لطموحاتها هي، في جعله رجلها الخاص الذي تكمل به حياتها كما تشتهي، فقد فاجأها بعد فترة قصيرة من الزواج بعزمه على الرحيل لدارفور.. فلا ينبغي له أن يقعد عن مقاومة أولئك القتلة ويستسلم لحياة الدعة التي تمتعه بها كلارا.

ولكن هل استطاع أن ينتصر على المليشيا بعد عودته؟

لعله لم يصل بعد إلى القوة اللازمة للانتصار على هذه المليشيا المسلحة تسليحا جيدا، ولكنه لن يستسلم سيقذف بنفسه في أتون هذه الحرب المستعرة… رآه عمه آدم كديس جريحا يلفظ أنفاسه الأخيرة حسب مذكراته التي أرسلها لكلارا… ولكن روايته هل حسمت امر استشهاده عند كلارا؟ لعلها لم تقتنع بموته لأنه كان دائما ما يقول لها: الشرتاي لا يموت إلا إذا لم يستطع أن يحدد من هو عدوه”

وها هو العدو جاثم على صدر دارفور فهذا يعني أن فتاكا لابد أن يكون حيا ومحاربا عنيدا بحسب منطقه…

نستطيع أن نقول أيضا إن الكاتب استطاع أن يصور هذه المعركة بطريقة مأساوية ومؤلمة وقد استعان في ذلك بمجموعة من القيم الفنية والتقنيات السردية الجيدة، ولعل أهم ما يميز هذه الرواية شكلا هو اللغة الباذخة والأسلوب البياني الرفيع، الذي يتناص مع الأساليب العربية الفخمة، والتناص مع القرآن الكريم والاقتباس منه، إلى جانب خلو الرواية من اللغة العامية حتى في الحوار إلا في جملتين أو ثلاث فقط.

عدا ذلك وظف ثقافته الإسلامية بصورة مختلفة من خلال شخصية البطل آدم فتاك حيث كانت القيم الإسلامية محورا لتصوراته للحياة مما يشير إلى أن إنسان دارفور عصيّ على التحويل عن ثقافته الإسلامية وأخلاقه وأعرافه المرتبطة بالقرآن الكريم، فمهما تعرض للتهجير أو النزوح أو غير ذلك، إلا أنه ثابت على مبادئه الطاهرة المستقاه من عقيدته الإسلامية.

والتالي يقدم الكاتب من خلال سرده الإسلام في صورة مبهرة وجميلة وبعيدة عن صورة الإسلام المتشدد التي تطرحها العديد من الجماعات التي توظف الدين توظيفا لفظيا بعيدا عن الممارسة والسلوك. ومن ثم فالرواية تعتبر من الأدب الإسلامي الرفيع.

ونختم بالقول إننا لا يمكن بهذه المقالة أن نكون قد وصلنا لما يروي ظمأ القارئ حول الرواية ولكننا نود أن نقرر بأنها رواية مختلفة وتستحق أن تقرأ، وقد طرحت قضية الحرب وأساليب فرض السلام بطريقة مختلفة؛ تعظم من قيمة الإنسان وترفع من سقف الأمل في حياة طيبة وآمنة ومستقرة وكريمة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة