9 أبريل، 2024 3:25 م
Search
Close this search box.

د. عبد الله الغذامي:الأمانة العلمية تحتّم عليّ إتّهام أدونيس بالرجعية الحداثية، وإلغاء الصداقة، والهالة الضخمة من حوله

Facebook
Twitter
LinkedIn
كتابات – مسقط 

قال الناقد العربي الكبير الدكتور عبد الله الغذامي ” تحطيم العلاقة مع المؤلف بفرضية موته تتيح للناقد الغوص في معاني النص بدون تأثيرات العلاقة بشخص المؤلف. ومن الأمثلة الواقعية على هذا ما بيني وبين أدونيس من خصومة معلنة لأني لم أجعله رمزاً للنقد الثقافي وقلبت النقد الثقافي ضده وقلت رجعية الحداثة فهو غاضب مني وهذا مبرر باعتباره شعور بشري طبيعي”
جاء ذلك عندما حلّ الغذامي ضيفاً في حلقة ثانية من برنامج “كتاب مفتوح” الذي يعده ويقدمه الشاعران عبد الرزاق الربيعي ووسام العاني برعاية مركز حدائق الفكر للثقافة والخدمات في سلطنة عمان، وذلك مساء الخميس18/2/2021 في أمسية افتراضية بُثت على جميع منصات التواصل الاجتماعي استكمل خلالها طروحاته وأفكاره في النقد الثقافي والحداثة وراهن الثقافة العربية وإشكالاتها الفكرية” واستدرك الغذامي” ولكن لأنني أعرف لماذا غضب أدونيس لذا لا أغضب. كما أعرف أن سبب غضبه علمي فهو لم يتوقع من صديق له أن يتهمه بالرجعية الحداثية وهو الذي كان يوصف بقمة الحداثة، رغم أنه مر بفترة سابقة عندما كان منتمياً للحزب القومي السوري وصف فيها من قبل خصومه من الاشتراكيين العروبيين بالرجعية. لكن الأمانة العلمية ومن منطلق النقد الثقافي تحتم عليّ إماتة المؤلف وأن ألغي الصداقة الشخصية مع أدونيس وألغي الهالة الضخمة من حوله وبالتالي تجرأ الناقد على الشاعر وهو ما لم يحدث في التاريخ (فعداوة الشعراء بئس المقتنى). والذين يستغربون هذه الجرأة هم ما زالوا يعتقدون أن المؤلف حي ولا يساء له لأنه حاضر وبالتالي يصبح وجوده شرطاً في الفعل النقدي عن نصوصه. لم يكن سهلاً عليّ أن أنتقد أدونيس في كتابي النقد الثقافي الصادر عام 2000 كما انتقدت في نفس الكتاب نزار قباني وأبا تمام والمتنبي. هنا كان فرضية موت المؤلف ضرورة من الجانب المعرفي الأخلاقي، إن موت المؤلف هو أكثر من واقعي لكن ليس بمعنى الموت الحسي. كل الثقافات مارست موت المؤلف دو أن تنطق به. لاحظ عندما يقول المتنبي (أنام ملء جفوني عن شواردها/ويسهر الخلق جرّاها ويختصم) بمعنى أن الشوارد تذهب بعيداً وهو لن يلاحقها كأنه يقول بنوم المؤلف الذي هو موت المؤلف. والإشارة إلى الخلق تعني إطلاقاً مقصوداً فهو لم يحدد بلد أو مجموعة بعينها وها نحن الآن في هذه الأمسية نسهر مع المتنبي في بيته الشعري هذا. ولو لم يحدث موت المؤلف لما تكلمنا عن المتنبي الآن حيث سيموت النص معه والواقع أن المتنبي الشخص قد مات لكن المتنبي النص ما زال مستمراً. واستمرارية النص جاءت من موت المتنبي شخصاً وبالتالي لم يعد وصياً على النص ولا سلطة عليه ترعب الآخرين حين تشرح النص. الشاعر مثلاً يطرب حين يسمع ثناء المعجبين بشعره دون أن يعرفوه شخصياً. استقلال النص عن مؤلفه يشبه استقلال الأطفال عن والديهم لذا موت المؤلف حتمية ليس بطريقة الفرض بل لأنها واقعة بالضرورة. استمرارية النص تستدعي موت المؤلف، فإذا مات النص ولم يستمر فهذا يعني موت المؤلف مفاهيمياً. وهناك موت آخر أشد للمؤلف وهو الموت الأخلاقي بمعنى أن الناقد يتعامل مع النص من منطلق علاقته بالمؤلف سواء سلباً أو إيجاباً.  من جانب آخر كل مؤلف ينام عن نصه، كما فعل المتنبي، بمعنى موته ويترك النص لينطلق فهذا حياة للنص لأنه يتحرر من صاحبه ويظل مشتعلاً في القلوب والأفئدة. ما زال مفهوم موت المؤلف يلتبس على الكثير ويشكل صدمة معرفية ذلك أنهم يركزون على المصطلح نفسه دون السعي إلى تفكيكه وشرحه.

ضرورة حتمية

موت المؤلف ضرورة حتمية لفهم النص وضرورة أخلاقية من باب أخلاقيات المعرفة ولا يكتمل مفهوم موت المؤلف إلا بوجود مفهوم (الناقد منقوداً) حتى لا يتحول الناقد إلى سلطة في ظل موت المؤلف ويتفرغ ضد النص. لذا يجب أن يكون الخطاب النقدي أيضاً خطاباً منقوداً وينطبق على الناقد في لحظة الكتابة ما ينطبق على المؤلف من إماتة ضرورية. بالتالي لن تصبح المعرفة للشاعر نفسه كمثال ولا للناقد نفسه بل للقاعدة العريضة وهي التعددية الثقافية كما أسلفت وهي الحقيقية الباقية وليس كلام الغذامي ولا كلام أدونيس كمثال.

معتقدات زائفة

في الثقافة الغربية مثلاً نجد أن (راسل) يتكلم عن أن معظم معتقدات (هيجل) زائفة. ومع إعجابي بنقد (راسل) لكن لا أتقبل أن أقول أنا مثل هذا الكلام عن (هيجل). الآن بعد موت الاثنين أصبح الحكم بينهما هو أنا وأنتم. لذا ما زلنا نجد في مقولات (هيجل) الكثير من الفاعلية حتى الآن إلى درجة أن (فوغو) يقول يجب أن نتخلص من هيمنة (هيجل) وعندما يطلب الخلاص من هذه الهيمنة فهذا يعني أن الخلاص منها صعب فعلاً. الآن نحن من يحكم على الثلاثة الكبار بعد موتهم ويكون لنا موقفاً سيستمر لاحقاً. أنا مثلاً، رغم إعجابي الشديد بمقولات (راسل) لكنني انتقدته في كتابي (العقل المؤمن والعقل الملحد) بمعنى أن إعجابي به لم يجبرني على تقبل نقده لهيجل. وأجد في الثلاثة مادة ثرية ومثرية للقراءة أما النزاعات التي بينهم فهي تحفزني وتقوي موقفي فمقولة (راسل) عن (هيجل) جعلتني أستعيد قراءتي عن الأخير وأستعيد معها وعيي الناقد لهيجل. وبالتالي تكون رؤيتي لكل منهما نقدية بعيدة عن تأثري بكليهما”.

الشعبوية نسق

وأجاب عن سؤال حول انتهاء فكرة الشعبوية بخروج (ترمب) من البيت الأبيض، قائلا”الشعبوية نسق ثقافي وترمب لم يصنعها بل هي التي صنعت ترمب. وهذه خطورة النسق. قد تنكسر لظرف ما مثل خروج ترمب من البيت الأبيض وغلطته بالتخلي عن أنصاره الذين اقتحموا الكونجرس وهذه عادةً في ذهنية النسق تعتبر خيانة وبالتالي يمكن أن ينفضوا من حوله لأنه لم يصمد ولم يدافع عنهم”جاء ذلك مجيبا عن سؤال حول انتهاء فكرة الشعبوية بخروج (ترمب) من البيت الأبيض، وقد تتعرض لاهتزازات لكن النسق بإمكانه أن يمتصها وينتج غيرها وينتج قيادة أخرى غير ترمب. كما أن الشعبوية ليست في أمريكا فحسب بل في أوروبا أيضاً وخروج بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي هو ناتج عن الشعبوية وهو عودة للحس القومي بدلاً من الحس الكوني الأوروبي الاتحادي، إن نجح خروج بريطانيا فالخروجات الأخرى سوف تتلاحق. الشعبوية هي عودة للعرقية العميقة وإلغاء للتنوع والتعدد الثقافي ولن تنتهي من حيث هي نسق ثقافي. وبالتالي لن يستطيع بايدن مواجهة النسق الثقافي المنتج للشعبوية سواء لدى الديموقراطيين أو المحافظين ولن يستطيع أن يكون مثل مانديلا الذي صفح عن البيض ومسح الماضي العنيف والدموي وحفظ جنوب أفريقيا من الانهيارات. كذلك فعل غاندي عندما تنازل لنهرو وتركه يحكم ليظل هو داعية سلام فقط. لذا إذا وصلت الشعبوية إلى السلطة في أمريكا وأوروبا فهذا يعني نهاية التاريخ باعتبار أن الغرب هو نهاية التاريخ حسب مقولة فوغو ياما”.

الثقافة الثالثة

وأجاب عن سؤال الأكاديمية العراقية موج يوسف حول مفهوم الثقافة الثالثة قائلاً:
“أنا لا أميل إلى تدريج أو ترقيم الثقافات لأننا عندما نقول (الثقافة الثالثة) فإن هذا المصطلح ربما يربك المتلقي وليس المنظّر فيقفز السؤال عن ماهية الثقافة الأولى والثانية وكأنها طبقية. أو أنها تفهم من ناحية الضمير الثالث بمعنى (أنا، نحن، هم) مع العلم أنني لا أستخدم هذا المصطلح ولا أعترض عليه وذلك لأنني أركز على مفهوم التعددية الثقافية. وبما أنها تعددية فإذن الكل في فعل الثقافة مُنتِج ومُستقبِل. ومُستقبِل الثقافة لم يعد كما كان في الأزمنة البعيدة أو حتى القريبة منها عندما كان يقال إن الأسلوب هو الرجل وأن الأسلوب هو الرجلان بمعنى المرسل والمُستقبِل. الآن الأسلوب هو الجماعة بالإطلاق أو الكون المعرفي بالإطلاق ولم يعد الأسلوب هو الرجل بذاته حيث انفصل الأسلوب عن الذات كما انفصل عن ذات المُستقبِل أيضاً. آليات الاستقبال هي آليات إنتاج في الوقت ذاته. نشاهد هذا مثلاً تفاعلياً في تويتر. فحينما تضع تغريدة تبدأ التعليقات كأنها استقبالات ناتجة عن التغريدة التي وضعتها. ثم تلاحظ بعد هنيهة أن الذين يردون صاروا ينتجون تغريدات بمعنى أن الذي يدخل لن يرى تغريدتك الأصلية بل سيرى آخر تغريدة تظهر عنده وسيكون صاحب هذه التغريدة الأخيرة هو المؤلف وهو الأصل. تجد أن هذا يضطر المغرد الأول إلى نفي الكثير مما ينسب له لاحقاً أو يطلب الخروج من المحادثات ومن يفعل هذا فهو ما يزال على العقلية المتوارثة كأنه يظل مرسلاً أو يظل هو الأب أو صاحب النص. الواقع أن النصوص هكذا. هذا الذي لاحظه المتنبي في وقت مبكر جداً عندما قال (ابن جني أدرى بشعري مني) ولم يقل هذا على المستوى التنظيري الذل نقوله الآن بل قالها من باب المفاخرة والمباهاة بمعنى (أنني المتنبي أكبر من أن أشرح لكم ما معنى شعري) فيزيحهم إلى ابن جني. وهذه الطريقة كانت تتفق مع شخصيته، ومع نمط المثقف في ذلك العصر. تغير الأمر الآن كثيراً. فإننا حين نشاهد التلفاز لا ننتبه أننا نركز على الشريط الإخباري أسفل الشاشة أكثر مما نتابع المادة الجديدة. كذلك النصوص فحينما ينشر شاعر ما نصاً نجد أن هذا النص ينتقل بين مواقع التواصل بدون ذكر اسمه لأسباب كثيرة. لذلك أنا أتحرج من استخدام مصطلحات قد تكون تبويباً وتصنيفاً للثقافة نفسها في حين أننا نقول بالتعددية الثقافية التي هي حادثة الآن. فما يجري في أي بقعة من العالم هو الآن متفاعل معنا وهذا بسبب مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تكن موجودة في السابق”

عولمة ثقافية
وأضاف الغذّامي”  أذكر أنني استنكرت حادثة قبل ثلاثين عاماً تقريباً مع الشاعر الراقي محمود عارف الذي كتب قصيدة رثاء في معلمة أمريكية لقيت حتفها في إحدى مركبات وكالة ناسا الأمريكية التي تفجرت بعد انطلاقها، لكنه لم يكتب مثل هذا الرثاء في طالبات سعوديات قضوا حينما انهار سقف المدرسة عليهم في قرية جلاجل وسط المملكة. ولم يكن هذا بسبب نقص أخلاقي بل لأنه ربما لم ينتبه للحادث أو لم يركز عليه كما ينبغي. أما الآن فمواقع التواصل الاجتماعي أصبحت كفيلة بإيصال أي حدث وبسرعة وبالتالي تكون أنت مباشراً للحدث. الثقافة الآن أصبحت عولمة ثقافية ليس بمعناها الرأسمالي السيء بل بمعناها الشعوري الكوني. حادثة الطفل الفلسطيني (محمد الدرة) أيضاً مثال على التلقي المباشر حينما كانت صورة فوتوغرافية واحدة كفيلة بجعلها حدثاً عالمياً وعملت للقضية الفلسطينية أكثر مما تفعله السياسات وحتى الجيوش. لذا فالكون الثقافي، في عرفي أنا، متمرد على التبويب والتعددية الثقافية شبكتنا جميعاً معها بحيث اننا صرنا نلهث وراءها وليس العكس لذا انتفت المركزية بمعنى لا وجود للشخص المركزي بل الشخص الذي هو همزة وصل باستمرار. بالتالي أصبح كل واحد منا هو همزة وصل وليس نقطة ابتداء ولا نقطة استقبال. وهذا ما يحدث معنا في مواقع التواصل حيث نتناقل كل ما هو مشوق أو لافت للنظر إلى حد أن يختفي الأصل المرسل من الحكاية ولا نعرف من هو. لذا فالتعددية الثقافية تشمل الإرسال والاستقبال كما تشمل تأويلات النص أيضاً وهي الأخطر لأنها تجعل النص يستعيد وجوداً متجدداً باستمرار تبعاً لتأويلاته”
إستقلال النص
وحول نظرية موت المؤلف ورأيه فيها من حيث واقعيتها والحاجة إليها في النقد عموماً أجاب الدكتور الغذامي قائلاً ردّا عن سؤال الناقد العراقي الدكتور سعد محمد  التميمي ومقولة رولان بارت بأن موت المؤلف هو موت مؤقت:”موت المؤلف مؤقت بالضرورة، فإذا فرغنا من النص فرغنا من النص والمؤلف معاً. أستذكر هنا جواب ابن قتيبة عندما سئل من أشعر الناس فقال (من أنت في شعره حتى تفرغ منه). وموت المؤلف مؤقت بسبب الحاجة لإماتة العلاقة مع المؤلف مؤقتاً وذلك خشية أن يكون حضوره مهيمناً أثناء الوقوف على النص”.

الرجعية الثقافية
وحول المقولة التي أغضبت أدونيس والتي تنسب للغذامي (أن أدونيس مفكر أكثر من كونه شاعر)، تكلم الغذامي قائلاً:
“لا أظن أني قلتها بهذه الحتمية كجملة ربما أحتاج أن أسأل نفسي أكثر هل أطمئن أن أقول عنه مفكراً؟ فهناك إشكالات أيضاً حول مقولاته النقدية التي يطلقها والتي لا أراها أصيلة بل مجموعة من ثقافته ومما يتبقى في ذهنه من قراءات وهو يقرأ بشكل ضخم. لكن مشروعه الفكري هو مكرس للدفاع عن قصيدته بينما محمود درويش منفصل لا يعطي أفكاراً تتعلق بالشعر والقصيدة ومفهوم الشعرية إلخ. لذا لا أتذكر أني قلت عن أدونيس أنه مفكر أكثر من كونه شاعر لكن التقية التي عنده هي في الشعر نفسه وفي بعض مقولاته. أما بخصوص تواطؤ الشعراء لتمرير النسقي وتسويقه، فالواقع أن النسق متواطئ عليهم وهم ضحايا للنسق ولا يعون أنهم نسقيون لأن التجربة الشعرية وارثة الأنساق. نزار مثلاً تراه أحياناً في قصائده في درجات من الوعي الخارق والراقي جداًن وفي درجات أخرى تراه في الرجعية الثقافية وأدونيس كذلك. لذلك النسق يتسلل في جزء اللا وعي عند الشاعر. وعندما نقرأ المتنبي أيضاً نجد نصوصاً مذهلة توقعنا في حبائلها ولديه نصوص أخرى صادمة كما تجد نصاً قبيحاً وجميلاً في آن واحد. هذا ما أسميته المؤلف المزدوج في نظرية النقد الثقافي حيث إن الثقافة مؤلف آخر مع المؤلف الفعلي لذلك عندما تقرأ نصاً فأنت هنا لا تقرأ المؤلف وحده بل تقرأ الثقافة معه. والثقافة أقوى منه لأنها تشكلت عبر قرون وشكلته مذ كان طفلاً صغيراً حيث تخزن فيه قسراً عبر التعليم واختياراً عبر قراءاته وذوقا عبر إعجابه بالأسماء الضخمة. لذلك فالشعر، وهو ديوان العرب، هو مخزن للأنساق. وهذا طبعاً لا يتوقف عند العرب وحسب بل يتعداهم إلى غيرهم من الأمم. أنا شبهت النسق بالفيروس لا نراه ولكننا نعرف لاحقاً آثاره وأعراضه التي تظهر علينا. وعلى الناقد أن يتتبع أعراض النسق ليكشفه وهو ما يستطيعه بالدربة. من المهم للناقد أن يتخلص من سلطة النقد الأدبي، المتمركزة في ذاته عبر قرون من الكتب والأبحاث، ليستطيع بعدها ممارسة النقد الثقافي. لعبة النسق خطرة على أدونيس وغيره من الشعراء بل حتى عليّ لأني لا أعتبر نفسي ملاكاً بين الشياطين لذا ظللت أقول بفكرة الناقد منقوداً. وأدونيس لأنه غاضب من مسألة واحدة فبالتالي يسلط دفاعات كثيرة عنه. في آخر لقاء له في مجلة أقلام العراقية قال (أتمنى أن يغفر الشعر للغذامي). ورغم أن العبارة جميلة إلا أنها يحاول أن يقول إن الغذامي أثم بحق الشعر وليس بحق أدونيس وهذه لعبة ماهرة وأنا سعيد أن أدونيس يتعامل بهذا الأسلوب لأنه يعطيني الفرصة أن أشرح أفكاري النقدية. واختياري لشخصية أدونيس كان فعالاً للتجربة النقدية ومهماً لها ذلك أن اختيار شخصية طبيعية تتقبل النقد لا يخدم نار المعرفة المشتعلة دائماً”.
موت النقد
وحول فكرة موت النقد الأدبي التي أغضبت الكثير من النقاد، تكلم الغذامي قائلاً:
“جملة موت النقد الأدبي ليست هينة وأدرك أنها مسألة صعبة، لكنهم لو قاسوها على مفهوم موت المؤلف لما حدثت هذه الالتباسات. قلت في كتاب النقد الثقافي أن النقد الأدبي عظيم جداً لكنه وصل إلى نقطة أدى فيها وظيفته ولم يعد له وظيفة لذا دخل في مأزق التكرار. البلاغة ماتت أيضاً فمن سيكتب مقالة عن قصيدة ويذكر ما فيها من طباق وجناس وتورية وتشبيه واستعارة؟ فلا أحد سيقرأ هذا الكلام. على عظمتها في زمنها إلا أن منظومة المصطلحات البلاغية لم يعد لها وظيفة على الإطلاق الآن ولم تعد موجودة إلا في المدارس حيث سينساها الطالب بمجرد تخرجه. لذا البلاغة أنجزت مشروعها وانتهت وكذلك النقد الأدبي أنجز مشروعه وانتهى. لكن الشيء العظيم في النقد الأدبي هي الأدوات المنهجية التي فيه. ولكي تتمكن من استخدامها في النقد الثقافي لابد من تحويرها وتخليصها من ذاكرتها القديمة. لذلك أخذت منه المجاز الكلي وأخذت التورية الثقافية وأخذت الطباق الثقافي وبالنسبة للعناصر استنتجت العنصر السابع وهو العنصر النسقي والوظيفة النسقية والدلالة النسقية ولم أكتفِ بالدلالة الصريحة والدلالة الضمنية، وهذا كلام يقال في النقد الأدبي، بل أتيت بنوع ثالث هو الدلالة النسقية. لذلك عندما أقول بموت النقد الأدبي فأعني أن وظيفته الآن لم تعد كما كانت في السابق”.

الحكايات الشعبية

وحول مفهوم الشعرنة الذي أطلقه في سياق مشروع النقد الثقافي ودور السرد في ترسيخ الأنساق تكلم الغذامي قائلاً:
“بالنسبة للسرد فقد وقفت على الحكاية وعلى ألف ليلة وليلة وحكايات الجهيمان الشعبية من قلب الجزيرة العربية والحكايات التي في اليمن، ومع البحث وجدت بعض الحكايات مروية في اليمن في عصور قديمة ومروية في نجد ومروية في هنكاريا، وكنت أتلمس العنصر المتغير في كل رواية ولا أنشغل بكيفية الانتقال فهذا مبحث متعلق بالأدب المقارن. الحكاية هي تعبير عمن يروونها ويتوارثونها ولماذا يروونها ويتوارثونها. وهذا العنصر المتغير حسب المكان هو الذي يبين لنا شيئاً ما عن اليمن وشيئاً ما عن نجد وشيئاً ما عن هنكاريا ثم نتعرف عبرها عن النسق. الحكاية أقدر على كشف النسق لأنها صغيرة. وفي الرواية، التي جاءت فيما بعد باعتبارها حكاية مصنوعة وليست حكاية فطرية لا يعرف من قالها وكيف تولدت وكيف ترحلت واستمرت وهذه الأسئلة مهمة لكي نكشف النسق، نرى أن النص ضيق وحورب من المكان والزمان فرواية السكرية لنجيب محفوظ مثلاً نعرف أن أحداثها دارت في السكرية وهو مكان معروف وفي زمن محدد. لذا الرواية لا تكشف عن النسق بل تكشف عن المؤلف الذي تحول إلى شاعر من حيث النسق وأنه منتج أنساق وبدون وعي منه. لذا ترى الأبطال الذين صنعهم أنزل عليهم صفات الأبطال ولو كانوا سيئين وهذه هي الشعرنة. في الشعر مثلاً نرى أن المديح يركز على صفتي الكرم والشجاعة ولكن بقوالب مجازية مختلفة والتركيز عليهما بسبب أن الشاعر يعرف أن هاتين الصفتين هما اللتان تدر عليه المال. الروائي أيضاً عندما يصنع شخصية البطل يلبسها الصفات التي جاء بها من المطبخ الثقافي الذي هو مطبخ شعري أصلاً. فالرواية تقع بالنسقية المماثلة جداً لحالة الشعر لأنها نص فردي مثلما أن الشعر نص فردي فالقصيدة لها مؤلف واحد محدد والرواية لها مؤلف واحد محدد. لكن الحكاية نص جماعي والمجتمع كله يرويها ويتوارثها جيلاً بعد جيل لذا فهي أقدر على كشف النسق أكثر من الرواية ومن الشعر ومن أي نص آخر. لذلك اكتفيت من الشعر ومن نماذج الشعراء ودخلت بالحكاية. لدي مثلاً دراسة عن (ترمب) حيث أتتبع تغريداته للوصول إلى التغريدة المركزية التي تكون كل باقي التغريدات تكراراً لها. وبالنقد الثقافي تستطيع أن تجد هذا من خلال الإمساك بالجملة الثقافية التي بإمكانها شرح خطاب بأكمله وهي تمثل المفتاح حسب مصطلحات النقد الثقافي. فالحكاية والنكتة والشائعة تبقى الأقدر على كشف الأنساق ومن خلالها اكتشاف المجتمع نفسه. وكذلك من خلال المجازات التي تمشي مثل (نؤوم الضحى) التي تعطيك تاريخاً ثقافياً عن المرحلة التي قيلت فيها الجملة وما الذي وراءها وما الذي بعدها وما الذي حولها وهي كناية عن البنت المترفة التي لا يجبرها الفقر والجوع على الكد والعمل، بينما يحيل هذا المصطلح اليوم إلى الفتاة الكسولة ولن تجد من ترغب في أن يطلق عليها هذا الوصف فهو يعد شتيمة الآن. كذلك (كثير الرماد) التي لو قيلت اليوم لاعتبرت شتيمة بحق البلدية باعتبار أنها لا تقوم بوظيفتها برفع القمامة بينما في السابق كانت تحيل إلى الكرم”.

الشعر النسقي
وعن موقفه من الشعر والشعراء أكد الغذامي أنه قريب جداً من الشعراء وأن الشعر موجود في تكوينه الذوقي واستعاد عبارة الفيلسوف الأمريكي (ريتشارد رورتي) بعد أن أصيب بالإحباط من تكسر المعاني الجميلة في الحياة (لن ينقذ البشرية إلا الشعر) وأضاف:
“إن الشعر إذا خلص من النسقية سيصبح رسالة عظمى وأضرب مثلاً بنجاح محمود درويش فإنسانيته تجاوزت القصيدة القومية والوطنية والحماسية حيث كتب قصائد مهمة لو ترجمت إلى لغات أخرى ستتحول إلى لغة شعوب. وكذلك عندما أقرأ نصوصاً لدرويش ولأمل دنقل وللفيتوري ولكم أنتم الشباب أجد وعياً وقيماً فلسفية وليس مجرد شعر غنائي أو شعر حكمة يجعلك تصفق لما تسمعه. عندما أمر بحالة من الضياع الفكري ألجأ إلى قراءة سوناتات شكسبير التي تأخذني بعيداً كما أقرأ لغوته أيضاً. هذه نماذج من النصوص التي تحررت من النسقية. أنا مثلاً لم أجد في نصوص درويش ما يجعلني أنتقده كما انتقدت أدونيس، ولو وجدت لانتقدته بدون رحمة رغم العلاقة الطيبة التي كانت بيننا يرحمه الله. لذا علينا أن نفرق بين الشعر النسقي والشعر الإنسانوي الذي هو أكبر من أن تقف ضده لأنيك يحتويك أصلاً”.

ثقافة تويتر
وعن علاقته بالجمهور من خلال حسابه في  “تويتر” تكلم الغذامي قائلاً:
“الحديث النبوي يقول (إنما الأعمال بالنيات) وقد دخلت إلى تويتر بنية أن أكون باحثاً وليس بنية تسويق أعمالي وأفكاري ومشاريعي لذا كتبت كتابي (ثقافة تويتر). ولا زلت أستفيد من تويتر وبعض أبحاثي هي نتيجة عن تويتر. كما بدأت مشروع التوريقات وهي مقالات صغيرة كأنها تغريدة، كامتحان لقابلية تحويل المقالات التي تكتب بصفحات إلى أسطر قليلة. في البداية كنت أضيق بالأحرف القليلة للتغريدة وأجدها لا تكفي للتعبير عن الفكرة كما أجد حرجاً في الإحالة إلى واحد من كتبي إذا سألني أحدهم عن مفهوم أو مصطلح ما فقد يجدون هذا تصرفاً متعالياً، لكنني مع التدريب استطعت في النهاية تلخيص الفكرة في أحرف قليلة. كما استطعت أيضاً أن أناقش خمسة عشر كتاباً من كتابي على تويتر بواقع فصل واحد أسبوعياً. ودخولي لغرض بحثي جعلني أحترم كل من يتداخل معي سلباً أو إيجاباً وإلا كيف سأتعرف على حال الثقافة وعلى النسق الثقافي وحركته بين الناس إذا زعلت من هذا وحظرت ذاك! ومن شرط الباحث أن يحترم المادة البحثية التي أمامه ويتعامل معها بشروطها. ولم أحذف أي تغريدة إلا إذا تأكدت أنها أساءت لأحد بدون قصد. أما إذا كانت رأيا وتغير لاحقاً فيجب أن تبقى لأنها جزء من تكوين المعرفي”.
حوارات معرفية
وبخصوص تغريدته التي أطلقها قبل يوم من الأمسية والتي كتب فيها “هذه الحلقة الثانية كانت موضع تردد مني وقلت للأعزاء إن التوالي قد يكون ثقيلاً وربما مملاً. وقالوا لا، وراهنوا أنه سينجح. لا أدري عنكم هل تنتصرون لرأيي ولا تتابعون اللقاء الثاني كما هي دعواي، أم تنحازون ضدي وتصدقون رهان الشباب؟ أنتم وحدكم الحكم وحولكم الخصام” تكلم الغذامي قائلاً:
“استمتعت كثيراً وأنا سعيد جداً إلى درجة أني نسيت نفسي واندمجت مع الحلقة. والسبب أن الأسئلة متحدية وعميقة لكن مؤدبة وقليلاً ما أجد مثل هذا الأسلوب في الحواريات التي أجريها. ربما مؤخراً محاضرتان في الجامعة المستنصرية أيضاً بنفس الأسلوب حيث إن الحوار عميق ودقيق وقوي لكنه مؤدب بذات الوقت ومن النوادر أن يحدث هذا. عادة تكون هناك صدامية شديدة في الحوارات المعرفية كأن كل طرف يريد إسقاط الآخر. لذلك الأسئلة التي جاءتني في المحاضرات الثلاث الأخيرة في الجامعة المستنصرية ومعكم في سلطنة عمان هي أسئلة عميقة فعلاً وجاءت من أناس قرأوا الذي يخصني حقيقة وليس ادعاءً وقدموا أسئلتهم على مستوى معرفي وليس صدامي. المعرفة يجب أن تؤخذ على أنها أخذ وعطاء وخير العلم ما حوضر به كما يقول الجاحظ أو وفق منهجية سقراط بإعطاء الأسئلة وليس الأجوبة لكي تتفتق المعاني والأفكار بما يجعل أي جلسة ممتعة وتفتح شهية الكلام. لذا أنا معكم في قمة السعادة”.

بالإمكان مشاهدة الأمسية كاملة عبر الرابط https://youtu.be/gZjei2nSvyg

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب