خاص: إعداد- سماح عادل
“د. أحمد الباسوسى” قاص وروائي مصري، عضو اتحاد الكتاب المصريين وعضو نادي القصة، يعمل استشاري العلاج النفسي وعلاج الإدمان بمستشفيات جامعة القاهرة، وعضو الجمعية المصرية للعلاج النفسي، كاتب مستقل. حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم النفس الاكلينيكي/ جامعة عين شمس .
تراتيل..
في مقالة بعنوان (الفعل والأمل غير المستحيل وملامح البسط في “تراتيل وحكاوى قصيرة للغاية” للقاص د. أحمد الباسوسى) كتب “خالد جوده أحمد”: “إن مطالعة عنوان المجموعة القصصية (تراتيل وحكاوي أخرى قصيرة للغاية)، للكاتب أستاذ علم النفس، د. أحمد الباسوسي، يضعنا مباشرة علي عتبة قضية الحكاية والقصة بشكل عام، وقضية النوع الأدبي الجديد الذي يطرق الباب بقوة ويتشكل في منطقة تماس أدبية جديدة، ويتدارسه النقاد والدراسين ليتم تأطيره ووضع المفهوم الفني المتعلق بأدائه، إنها القصة القصيرة جداً.
وفي المجموعة بين أيدينا نجد عنصر القصة الحديثة والتي تركن أكثر للتجريد، ورعاية حالة كاملة وليس شرطا لحظة فنية واحدة. والمجموعة لا تمنح نفسها بيسر لقارئها إذ أنها لا تقتني مبدأ الوضوح الأدبي إلا بصيغة حداثية، بحيث تثق في ذكاء القارئ وتستفزه للولوج في مدارات التأويل ليصبح مشتركا مع القاص في إنتاج القصص، فعلي سبيل المثال القصة رقم 20 والمعنونة (عاد ومضى)، عن العجوز الذي يحكى ذكرياته مع الرجل صاحب القامة الطويلة، قصة مفتوحة تماما للتأويل، فرمزيتها عريضة تفسرها نافذة القصة المضيئة (الكاشفة لقصديتها) في العبارة (إنه يحقق انتصارات خيالية) ص 107، فالقاص لا يترك قارئه في هذه القصة وغيرها دون أن يفتح له نوافذ مضيئة كاشفة لداخل نصه، لكنه يدع له لذة التأويل واستحلاب النص”.
ويضيف: “يقدم القاص تشريحه الفني للواقع، ويهتم بقضية شيئية الإنسان، وعدم اهتمامه بالغوص في الأعماق أو صقل الروح والتزود بالثقافة، ففي قصة (مؤتمر) يختار ببراعة ودقة مفردة كاشفة معبرة (حشد المتأنقين الملتمعين)، واللمعة تعطي معني السطحية والتكلف، وعليها مدار القصة، وفي مقابل الشيئية يقدم أنسنة الأشياء في بلاغة قصصية تعبر عن المفارقة الجسيمة، ففي قصة وفاة كنموذج يصف الواقع بالطقس العاصف البارد، وتنتقل البرودة لكل شيء (في الغرفة المرتعشة … طفق المرتعشون يضحكون …) ص 33، كما يقدم أنسنة الأشياء أيضا في إطار وصف الواقع وقسوته (والشوارع التي تدهس) ص 49، أو تعاطف الجماد مع الإنسان المقهور (المحطة الودودة) ص 111، رغم أن هذا القطار في المحطة يتقيأ ركابه علي الدوام.
يحتفي القاص في القصص بقيمة (العدالة الاجتماعية) تشغله القضية بقوة، ويعبر عنها بأدوات واحدة، نعطي منها مثالاً بالمعادل الموضوعي باستخدام الشوارع / الطرق، ووسائل المواصلات بأنواعها باعتبارها معبرة عن حظوظ الإنسان وتباين الطبقات، حيث نجد تعدد ماركات السيارات، وأنواع المواصلات وأقدار وتفاعل الناس بها، وشواهده كثيرة جدا في القصص، فالحارات تعبر عن الضيق والضياع، والسلام ليس سلاما إنما استسلاما لذلك كانت حارة السلام وليس شارع السلام، وممر الحارة الضيق تكرر ثلاث مرات في قصة (كلام) المشكلة في عدد 13 سطرا، والشارع ملئ بالحجارة والحفر في قصة (غضب) ص 21 ليس وصفاً للحالة المادية وفقط ولكنه رمزيه معبرة للحالة النفسية (الخمول وفقدان إرادة التغيير بالفعل).
الطب النفسي..
في مقالة له بعنوان (أزمة في الطب النفسي أم أزمة في الثقافة المصرية) كتبت “أحمد الباسوسي”: “طرحت الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الطب النفسي الحادي عشر بكلية الطب جامعة القاهرة الأربعاء 11 فبراير 2018 إشكاليات مزمنة في ممارسة مهنة الطب النفسي، وانعكاساتها المزمنة أيضا على الثقافة المصرية في المجمل، وبغض النظر عن حالة عدم الحماس التي خيمت على أجواء المؤتمر، وغياب أساتذة كبار سواء من داخل الكلية أو خارجها عن المشاركة في افتتاح المحفل العلمي، والحضور الباهت في اللحظات الأخيرة لعميد الكلية لكي يستعرض انجازاته في تطوير التعليم الطبي بالكلية.
جاءت كلمة أستاذ الطب النفسي الكبير التي استغرق الجانب الأكبر منها في محاولة لفهم عنوان أو شعار المؤتمر لهذا العام ” الطب النفسي ما بين الشخصي والمنهجي” تعكس في تقديري المدى الكبير الذي بلغته التحديات الفكرية والتطبيقية في ممارسة المهنة بصفة خاصة، وفي ممارساتنا الثقافية بصفة عامة.
من المؤكد أن قضية التشخيص بمعناها الأوسع “الفهم الأعمق للحالة أو الظاهرة” مسألة حيوية وتستدعي كافة الجهود المخلصة من أجل بلوغ أقصى درجات الفهم للحالة أو الظاهرة، لكن هل هذا يحدث بالفعل من خلال واقعنا ممارساتنا المهنية ومن خلال واقع ممارساتنا الثقافية في المجمل؟. المؤشرات والدلائل التي تعكسها ممارسات المحترفين لمهنة الطب النفسي لا تسير في اتجاه التحقق من مصطلح التشخيص على النحو المطلوب”.
ويضيف: “لكن المثير للدهشة أن يستولى هذا الجدل الفلسفي التاريخي الدائم على عقول غالبية الحضور ومن بينهم رائد من رواد مهنة الطب النفسي في مصر، وكذلك على غالبية مساحة النقاش والجدل في المؤتمر على حساب الحركة التطويرية بمفهومها الأشمل للارتقاء بممارسة المهنة في سياق جوانب أخرى بديلة بعيدا عن قضية التشخيص المثيرة للجدل على الدوام. ومن هذه الجوانب مسألة العمل ضمن فريق، “الفريق العلاجي”، تلك المسألة التي تمثل أزمة حقيقية بالنسبة لعلاقة المصري بالآخر من جهة، وعلاقته بالآخر في سياق بيئة العمل في المجمل من جهة أخرى.
وهذا التوجه السلبي من فرط شيوعه خاصة في بيئات العمل يكاد يشكل ظاهرة ثقافية بين المصريين تكشف عن عدم ميلهم للعمل الجماعي، أو العمل داخل مجموعة، وفي إطار أدوار محددة للأفراد تعتمد على التكامل وبلوغ هدف محدد واضح للمجموعة ككل. أيضا يكشف هذا التوجه السلبي للعمل الجماعي لدى المصريين عن الرغبة المفرطة لدى الشخص منهم في التفرد والتميز عن الآخر، ومشاعر ذاتية متضخمة بالقدرة على انجاز كافة المهام المطلوبة بنفسه دون الحاجة الى الآخرين، ورغبة مدهشة في أن يكون محط أنظار المجموعة، وثقتها في الاعتماد عليه في انجاز جميع المهام الموكلة إليه مهما كان حجمها، وتعقيداتها التي ربما لا تتوافق كثيرا مع خبراته الشخصية.
بالطبع هناك استثناءات في التاريخ كشف عن إمكانية بلوغ المصريون ذروة العمل الجماعي وانجاز كافة أهدافهم المطلوبة، ونختار هنا حدثين من التاريخ الحديث للدلالة على هذا الأمر: الحدث الأول حدث بناء السد العالي في ستينيات القرن الماضي وكيف أدار المصريون منظومة العمل الجماعي بصورة مدهشة ورائعة حتى تحقق بناؤه والسيطرة على مياه النيل. والحدث الثاني حرب أكتوبر عام 1973 التي شهدت ملحمة عظمى من العمل الجماعي بين كافة أفرع القوات المسلحة في صورة رائعة من التكامل والتناغم والتجانس انتهت بتحقيق هدف النصر وهزيمة العدو. وهذه النماذج لم يكن يكتب لها النجاح بمعزل عن وجود جبهة داخلية مشكلة من ملايين المصريين موفورين بالحماس والرغبة في العطاء والإيمان بقيمة وأهمية الآخر والتعاون معه من اجل انجاز أهداف عظيمة على شاكلة بناء السد العالي الذي تم افتتاحه عام 1971 وحرب أكتوبر التي انتهت بالنصر وتحرير الأرض عام 1973”.
“يوميات حارق الشجر”..
قصة قصيرة ل”أحمد الباسوسي”
لا أذكر على وجه الدقة متى ضاقت الفضاءات في رأسي؟ ولا كيف تحولت إلي شخص مختلف، صموت، انعزالي، أحاول بقدر الإمكان تجنب الضوضاء والناس. أمي كانت تقول لي قبل أن تموت إن طفولتي كانت صاخبة، مزدحمة بالإثارة والأحداث، وكنت غاية في الشقاوة والتمرد، كنت عنيفا مع الأطفال نظرائي، والأطفال الأصغر لدرجة أن المكان الذي كنت أتواجد فيه يتحول بسرعة إلى مسرح للفوضى، والضوضاء، والعراك، وبكاء الأطفال المصاحبين لأقربائهم بسبب اعتدائي عليهم.
كانوا يسمونني في محيط العائلة ”التريمنيتور” نظرا لقوتي وقدرتي على سحق جميع الأطفال الذين ألتقيهم في المناسبات العائلية. ظل هذا الأمر عبارة عن مجرد كلمات كنت أسمعها من والدتي بعدما استطالت قامتي واشتد عودي وأصبحت أخجل من مجرد تواجدي بين الناس أو التحدث إليهم. وإذا شاءت الصدف أن يحاول أحدهم فتح حوار معي، ارتبك، ويتغير لون وجهي حسبما يقولون، وأفر من أمامه من دون أن يتمكن لساني من فك الجمود الذي أصابه. لكني أستطيع تذكر ما لحق بي من أحداث بعدما استطالت قامتي وخط الشارب بنيا خفيفا مع القليل من الخصلات المناظرة من الشعر الخفيف والمتناثرة من غير عناية على جانبي وجهي، وتظل الكتلة الأكبر متجمعة تحت ذقني ناعمة الملس.
كأني لم أعد اكترث بشيء، افرغ جل طاقتي في مذاكرة دروسي والاحتفاظ بتفوقي على نظرائي، وكأنه قدري أن أظل في حالة عراك دائم مع الآخر . الأفكار في رأسي جامحة، متداخلة، غير واضحة المعالم. تدفعني بقوة نحو التشكك في الآخرين ومحاولة تجنبهم، والتركيز على التهام كتب المدرسة والتفوق عليهم بأي شكل. كأنه نهم العراك والصراع وربما الصدام، ذلك الذي جعلني أركض في سباق لم أشعر في داخلي أنني أنتمي إليه.
اتخذت من العزلة والابتسامة الخجولة وسيلة دفاعية براقة لمنحى أوسمة ”الطيبة، والجنتلمان، والكيوت، وبتاع ربنا” عن استحقاق وجدارة. تفوقي الدراسي ذهب بي إلى كلية الهندسة الحكومية من غير معاناة، والأوسمة التي حصلت عليها من أقاربي ومعارفي وجيراني رشحتني من دون تردد عضوا بارزا في جماعة المترددين على مسجد الكلية بانتظام. لم أكن متيقنا من أن جميعهم على شاكلتي، لكن اغلبهم على الأقل يظهر ذلك، أو هكذا أدركت. لاحظت أنه كلما اتسعت الحلقات بيننا في مسجد الكلية وغيره، وتنوعت الدروس والمشايخ اتسعت حلقة الممنوعات والمحظورات والمحرمات داخل رأسي حتى أصبحت أرقب ذلك الكون الهائل من خلال ثقب الإبرة.
لكن لا أستطيع أن أزعم أن ذلك حدث بالتحديد منذ أن وطأة قدماي مسجد الكلية الصغير المنزوي في أحد الأركان البعيدة داخل كليتنا المترامية الأطراف. كانت إرهاصات ذلك بادية على تصرفاتي منذ التحقت بالمدرسة الثانوية بعد انجازي المدهش وحصولي على المركز الأول على محافظتي الإقليمية غرب القاهرة في الشهادة الإعدادية. لاحظت عزوفي عن قراءة الشعر وبالتالي كتابته على الرغم من شغفي بذلك في طفولتي وبواكير صباي. أيضا كنت مدمنا للاستماع لأغاني عبد الحليم حافظ القديمة حيث تتراقص على إيقاعاتها وموسيقاها القلوب المتوثبة للعشق والحنان والخيال . وكان في أحلامي وخيالاتي أيضا متسع لاحتواء ذلك الكون الكبير المتقلب، والمتناقض والذي يبدو في أحيان كثيرة مثل حيوان شرس من الصعب ترويضه.
لكني كنت على قناعة من إمكانية عمل ذلك بقوة الصراع التي تستعر داخلي ولا أدري لها سببا واضحا سوى رغبتي وعشقي للحياة. لكن في المدرسة الثانوية حسبما أتذكر وبالتحديد في منتصفها عانيت كثيرا من الحرمان العاطفي والجنسي. خجلي اللافت أعاق بقوة دخولي في تجربة عاطفية مع ابنة الجيران كنت في أشد الحاجة إليها، خاصة بعد أن تعمق شعوري بالرغبة في التحوصل داخل عالم الثانوية العامة المرهق. كنت التقيها في الدرس، ألمحت لي بصريح العبارة أن نخرج سويا بعد الدرس، بل حاولت لمس يدي ذات مرة بينما كنا ندخل القاعة سويا، لكني هلعت، ارتبكت، فررت بعيدا داخل نفسي، اهتاجت في رأسي كافة أنواع الهواجس وتداخلت.
كنت أتخيلني أسير معها، اقبض على يدها ثم اقترب منها أكثر واضعها في حضني، واعتصرها بيدي، وعندما أنام أراني وهي نائمين في فراش واحد عاريين تماما، كنت كثير التفكير فيها باشتهاء. لكن وساوس أخرى غريبة دخلت على الخط لم تكن في الحسبان وجدتها مبررا رائعا منقذا لكي أستعيد حالة التوازن التي اختلت بفعل انجذابي الشديد لابنة الجيران وعجزي عن إقامة علاقة عاطفية أو غير عاطفية معها. تشكلت الأفكار داخل رأسي في صورة شيطان محرض على الفتنة والحرام. وكنت كلما أمعنت النظر أجدها أمامي ترتدي قناع ذلك الشيطان وتدفع بي من الخلف بكامل قوتها إلى داخل هوة النار المستعرة. في هذا الوقت تيقنت من أن تلك الصراعات داخلي ليس لها من حل سوى بالاقتراب من آخر، ولكن لأني إنسان عاجز، ضائع، عديم الحيلة، قررت الاندماج أكثر مع كتب المدرسة، وابتعد عن الناس وعن تلك الأحلام العاجزة التي كشفت مبلغ هواني مع ذلك الشيطان الذي يسكن داخلي.
كنت كلما شعرت بالوحدة والخواء يزداد نهمي للاعتكاف دخل غرفتي والاستغراق في ”حفظ ” معادلات ومسائل الفيزياء والكيمياء والرياضيات. فتشت عن ”الله” داخلي، أدركته بعيون الشخص العاجز قليل الحيلة، الذي يطلب المساندة والستر. تحرك كلي في هذا الاتجاه، أصبحت محاصرا بإحكام بين المذاكرة والدروس من ناحية، وقضاء أوقات طويلة داخل الزاوية الصغيرة تحت منزلنا في الصلاة وقراءة القرآن، والاستماع لزمرة من المشايخ الجدد الذين يتواترون على هذه الزاوية من الناحية الأخرى، والأهم من كل ذلك تلك الصحبة من أصدقاء تلك الزاوية التي بدأت تتشكل وكان مجرد لقائي بهم في أوقات الصلاة يخفف عني الكثير من التوترات الداخلية.
أصبحت في هذه الأيام لا أتردد في إعلان ضيقي وتبرمي من ضيق ملابس أختي الوحيدة، أو تصرفاتها وطريقة ضحكها، وكذلك نوعية البرامج التي يشاهدونها في تلفاز المنزل، بل كنت أتمنى بشدة لو يغلقونه للأبد، وأتخيل نفسي أحيانا أحمله بين يدي وألقيه من شرفة شقتنا بالطابق السابع. اتسعت دائرة صراعاتي الشخصية لتضم داخلها أبي وأمي ومسلكهم من الصلاة والدين وكيف أنهم بعيدون بآلاف الأميال عن ”الله ” الذي اعرفه. جاء الصيف وسط هذا الزخم من التصارع وقلق أمي، ودعاء أبي لي بالهداية في صلواته التي لم تكن تقنعني. جاء الصيف وترتيبي في امتحان المرحلة الأولي للثانوية العامة الأول بامتياز على مدرستي. تأكدت أن الله منحني هبة من عنده ولا يجب أن أفرط فيها. ازددت اقترابا من أصدقاء الزاوية الصغيرة، وازداد احتياجي لهم، شدة التصارع داخلي خفت وتيرتها، لم تعد مزعجة مثل زمان، لكنها كافية لمنحي الطاقة اللازمة للحسم والسحق مثل العادة. علاقتي بعائلتي بهتت، لم أعد أبالي بجدوى أو أهمية وجودي في المنزل بنفس القدر الذي يحدث مع جماعة أصدقاء الزاوية، حيث تحررت من أعباء أية قرارات تتطلب إنتاج أفكار، أو مناقشة آراء، أو مجرد اختيار أشخاص تقرأ لهم أو تنصت إليهم.
كل شيء أصبح يصلني جاهزا من مشايخي أو حتى أصدقائي الأقدم. سعدت جدا بهذا الأمر، فمجرد عملية التفكير وإعمال الدماغ والانشغال بالمشكلات البشرية الصغيرة يؤجج الصراع داخلي بشدة، لكني أشعر بتحرري الآن. مضت السنة التالية بسرعة واحتفظت بتفوقي، ولم ألقى بالا بفرحة أمي، ولا شعور والدي بالزهو والفخار وهو يتحدث مع أصدقائه على المقهى الشعبي حيث كان منزلنا القديم، وكان لوالدي أصدقاء هناك. أسرعت للزاوية وقت صلاة العصر وهناك التقيتهم، والتقيت نفسي، كانت فرحتي بينهم طاغية، عظيمة، واستشعرتها أكثر عندما قدم شيخي للتهنئة، وإبلاغي بضرورة التقدم لكلية الهندسة لأنهم يعدونني لأمر كبير. رقص قلبي من الفرحة، كياني كله أصبح ممتلئا بالبشرى والروعة والتشوق لخدمة الجماعة. في هذه المرحلة بدا لي أن صياغة جديدة لحياتي تتشكل، وأن هناك صراعا جديدا ينمو داخلي يختلف عن صراعاتي مع الأطفال أيام زمان، أو مع أقراني في المدرسة أو حتى في مرحلة الثانوية العامة .
لم أعد مهتم بالتفوق الدراسي قدر اهتمامي بأمور الجماعة التنظيمية، وانتخابات اتحاد الطلاب، والحرص على تنفيذ أوامر رؤسائي بمنتهى الدقة. أصبح المنزل بالنسبة لي مجرد فندق آوي إليه في آخر الليل، وقد أظل بالأيام لا يقع بصري على أمي أو أبي أو أختي الصغرى بسبب شدة انشغالي سواء في الجامعة أو أنشطة الجماعة التي تتواصل وتتمدد حتى إلى داخل البيوت. تقديراتي في الكلية تمحورت بين المقبول والجيد ليس أكثر. تقلدت مناصب في اتحاد الطلاب، وكنت أحلم بسحب فكرة الجماعة لتغطي جميع الطلاب، لكن بدا الأمر شبه مستحيل فهؤلاء الأغبياء لا يدركون مدى أهمية الانتماء للجماعة، ولم يستشعروا حلاوة مذاق كونك منتمي إلى أشخاص رائعين يظللهم حلم السيطرة وإنجاز الفكرة المثالية للواقع والحياة كما أخبرهم بها مشايخهم.
كل يوم كان يمر يزداد هوسي بفكرة الجماعة وانتمائي إليها، وكيف أعمل بجد وإخلاص من اجل إرضاء مشايخي ورؤسائي رموز الجماعة . وجدتني انسلخ من ذاتي، هويتي، حتى جسدي، وأتوحد بذلك الكيان الافتراضي المسمى ”الجماعة” الذي يضم المئات من الشبان غيري ممن هم على شاكلتي. حياتي الشخصية أصبحت ملكا للجماعة، يتصرفون فيها كيفما يشاءون. عقب التخرج مباشرة وجدتني مرتبطا بزميلتي ابنة أستاذي في الجامعة وشيخي في نفس الوقت، فتاة جميلة بسيطة، هادئة الطبع، تتحدث في الدين أكثر من أي شيء آخر.
تزوجنا في منزل والدها في إحدى المدن الجديدة شرق القاهرة، حيث انتقلت هناك للعيش مع زوجتي والعمل في إحدى الشركات الكبرى الخاصة بأحد أقطاب الجماعة الكبار. اتسع البون كثيرا مع أسرتي مكانيا، وعاطفيا، لم أعد اشعر بانتمائي لهذه الأسرة البائسة مصدر ألآمي وتوتراتي في السابق، والدي أشاح عني وجهه الذي كساه الكرب وانسحب من أمامي في هدوء حينما أخبرته بأمر زواجي واستقراري في القاهرة، بينما جزعت والدتي وضربت صدرها بكفها بقوة من فرط الدهشة والاحتجاج، ومفترض أنهم اعتادوا على هذه التصرفات منذ فترة طويلة.
أما أختي الأصغر فلم تنبس، قالت لي من طرف لسانها وهي ترقب والديها ”ألف مبروك ربنا يهدي لك الحال“. لم أجزع من ردة الفعل تلك لسبب بسيط وهو أنني لم أعد اشعر بأي انتماء عاطفي أو وجداني، تجاه تلك الأسرة الضالة، بل ويعلم الله أني كنت ادعوا لهم بالهداية والدخول في عباءة الجماعة مثلما نصحني شيخي. حيث يتملكنا جميعا شعور جارف بالفخر والعظمة والعزة لأننا الفئة التي وضعها ”الله” على طريقه والصحيح.
وأما بالنسبة للآخرين فإما أنهم مشاريع لقوم قد يهتدون ويصبحون معنا، وتتعزز قوتنا وقدرتنا على تحقيق حلم السيطرة والتمكين وإنجاز أستاذيتنا للعالم. وإما أنهم أعداؤنا وبالتالي يحق لنا التصارع معهم وفق مقتضيات المرحلة ومصلحة الجماعة. مع مرور الأيام وتواتر الصحبة وتآلف القلوب وجدتني أسبح مع أصدقائي وزملائي في الجماعة في نهر من الحب الرائق، أستمتع بعذوبة صحبتهم، وروعة انسجامنا في العلاقات الإنسانية، والتفكير، ولهفة بعضنا لبعض، وقدرنا ومصيرنا المشترك الذي يجمعنا في حب الجماعة والتفاني فيها، ومن أجلها.
ارتبط كياني وهويتي، بل وحياتي بوجود الجماعة، ووجودي في الجماعة. إنها مشيئة الله ومشيئة الجماعة حيث ولدت، وحيث نشأت، وحيث انتميت إلى هؤلاء القوم المدهشين الذين بفضلهم بعثت من جديد في هذا العالم. لكن مجريات الأحداث لا تستقر بحال، ويتعرض البشر في الكثير من الأحيان للمحن والشدائد المهددة للأحلام والكيان، وكذلك حدث معي بعد أن تمكن الأعداء من ذبحنا والاستيلاء على هويتنا وأحلامنا. لا أستطيع احتمال فكرة أن تتعرض الجماعة للتصفية أو الزوال، ذلك معناه أنني أيضا إلى زوال أيضا، إنها فكرة سخيفة ومزعجة وسوف نقاومها، هكذا أخبرونا القادة، والمشايخ، حياتنا مرهونة بحياة الجماعة، وبقاؤنا على قيد الحياة مرتبط ببقاء الجماعة ، فكرة، وهدف، وبشر، وقادة وأن جهاد الأعداء واجب مقدس لحماية الجماعة. اشتد الكرب، توالت المحن.
تعرضت للاعتقال عدة مرات وخرجت بسبب نجاح والدي، والمحامي الذي أحضره في إقناعهم باني خارج حدود الدائرة. عاد الصراع إلى داخلي أكثر قوة وضراوة. وجدتني أنفث حقدا بغير حدود على كل الذين تسببوا في هذا الأمر من الأعداء، خاصة ضباط وعساكر الشرطة والجيش. اعتبرتهم المفتاح الذي ساعد جموع الضالين على تبديد حلمنا وشتاتنا. جاءت التعليمات والقرارات عبر الهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي بعدم الهدوء حتى استعادة كل ما فقدته الجماعة. شاركت في أحداث المقاومة الكبرى وأقمت وأسرتي الصغيرة في معسكرات الاعتصام أياما طويلة، كما شاركت في عشرات المسيرات المحتجة بخشونة على الاستيلاء على سلطتنا وأحلامنا.
واليوم موعدي الهام لإنجاز مهمة كبيرة سوف يكون لها صدى لدى الأعداء والضالين وكذلك لدى أصدقائنا في الخارج. تسلمت الرسالة الأمر، وكذلك القنبلة، تسللت إلى الحديقة بعد منتصف الليل بساعتين. أعمدة الإنارة الحكومية كانت معطلة، وكان الظلام الدامس يلف المكان، وكنت أبدو في هيئة المشردين الذين التقيهم عادة في الشوارع بملابس قديمة، رثة، حافي القدمين، ووجه طمرته القاذورات وشحم الإسفلت الأسود. اطمأننت إلى الظلام، والفراغ، وغفلة العيون. ربطت القنبلة بحبل على شكل حلقة علقته في رقبتي بحيث تتدلى القنبلة من ظهري، تسلقت شجرة الكازورينا التي تتمدد أغصانها لتتجاوز رصيف الشارع، نفس الموقع الذي تقف تحته مباشرة يوميا إحدى سيارات الشرطة المعبأة بالضباط والعساكر حيث يقفون في مواجهة بوابة الجامعة الرئيسية لمنع أصدقاءنا المحتجين من الخروج.
كان المطلوب قتل أكبر عدد ممكن من هؤلاء الأعداء بتلك القنبلة، واصلت تسلقي، اخترت غصنا عفيا قادرا على احتمال وزني الذي نقص في الآونة الأخيرة، سحبت القنبلة بهدوء، أخفيتها في كتلة كثيفة من الأوراق الإبرية للشجرة، ثبتها جيدا وكنت قد جهزت كل شيء يتعلق بإمكانية تفجيرها عبر الهاتف المحمول المثبت داخلها في لحظة وصول ارتال قوات الأعداء وتمركزهم في هذه المنطقة. قضيت الليل في هذا المكان، ومع بزوغ أضواء الفجر تسللت إلى مكان آخر متفق عليه، استحممت وتهندمت، تمركزت في مكان قريب من القنبلة ارقب مسرح العملية، بمجرد أن إنبجست أقوال السيارات في التوافد من بعيد حتى شعرت باستعادة روحي وحياتي، شعور غريب من السرور سرى في كياني ربما لأني أقوم بعمل جليل حسبما اخبروني.
وبمجرد أن استقرت احدي السيارات مثل المعتاد بجوار الرصيف، تحت الغصن الذي يحمل القنبلة أدرت هاتفي المحمول بسرعة، بعدها سمع دوي انفجار هائل، ارتجت الأرض بالبشر والشجر كأنما ضربها زلزال شرس. سمع صراخ واهن لأصوات بشرية تستغيث، احترق كل شيء ، لم يعد شيء في المكان على حاله بعد ذلك .