14 نوفمبر، 2024 8:04 م
Search
Close this search box.

“دون كيخوته” .. بين الإسباني والمصري “لا فرق من عامٍ ينامُ وألف عام”

“دون كيخوته” .. بين الإسباني والمصري “لا فرق من عامٍ ينامُ وألف عام”

عرض – هناء محمد عبده :

صدرت عن “المجلس الأعلى للثقافة” عام 2009، دراسة علمية وثائقية لحياة وفكر الشاعر المصري الراحل “نجيب سرور” تحت عنوان (دون كيخوته المصري) للكاتب الدكتور “حازم خيري”.. وتنقسم الدراسة إلى مقدمة، وفصلين.. لكل فصل ثلاث مباحث، ثم الخاتمة، بالإضافة إلى ملحق وثائقي به نصوص لـ”16 وثيقة” تتضمن “رسائله إلى والده، إلى الناقد والأديب “أنور المعدواي”، قصيدته في رثاء القائد “فرج الله الحلو”، مقال قديم كتبه صديقه الدكتور “أبو بكر يوسف” يصف فيه آلام نجيب في موسكو وبودابست، مقال هام للناقد والأديب “رجاء النقاش” يُناشد فيه وزير الثقافة آنذاك بعودة نجيب من منفاه، مقابلات صحفية أجرتها صحف مختلفة مع نجيب بعد عودته،.. الخ، الأعمال المسرحية التي كتبها نجيب، والأعمال المسرحية التي أخرجها، أدواره التي قام بتجسيدها، مجموعاته الشعرية، كتاباته النقدية، أعماله الأخرى، معالجاته الإذاعية، ويختتم بحياة نجيب في سطور”.. تتناول الدراسة سيرة ذاتية للشاعر المصري “نجيب سرور” من طفولته وحتى وفاته مروراً بما عاناه الشاعر جراء “طوباويته”، كما يصفه الكاتب خلال الدراسة.

لماذا إسم “دون كيخوته” ؟!

“دون كيخوته” هي رواية للأديب الأسباني “ميگل ده سرڤانتس” وإشتهرت في مصر بإسم “دون كيشوت”، وهي من أهم الأعمال الروائية، وقد نشرت لأول مرة عام 1605م، وفيها يسخر الكاتب من ظاهرة كانت شائعة آنذاك، وهي “البطولة الزائفة”، والعدالة المموهة، والحقارة الإجتماعية، والنفاق الذي رفع الدساسين والغشاشين والمتملقين، ويرثى للنبلاء الذين يسعون لخير الإنسانية بوسائل عاجزة.

وهذا الإسم أطلقه نجيب سرور على نفسه تيمناً ببطل الرواية، وحسب رواية الكاتب بعث نجيب لشقيقه “ثروت” تمثالاً معدنياً لـ”دون كيخوته”، ونصحه بقراءة الرواية، مما حدا بالكاتب أن يعنون دراسته بنفس الأسم.. يبدأ الكاتب دراسته بمقدمة عن نجيب سرور وكيف تنازعته مشاعر الإعجاب والشفقة معاً تجاه هذا الرجل، ويسأل نفسه لماذ تكبد كل هذه الشراسة والقسوة ؟

تناول الباحث في الفصل التمهيدي، الإطار النظري لـ”الأنسنية”، وهو مصطلح إعتمده الكاتب في الدراسة للدلالة على النزعة الإنسانية، وأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، والحركة الخاصة بها في مطلع عصر النهضة كأي “ثروة ثقافية”، وتطورها على يد الفلاسفة والمفكرين إلى ما يسمى بـ”الأنسنية العالمية”، ذكره لأهم آليات تكريس الإغتراب الثقافي للذات والمتمثلة في:

مؤسسات العنف.

مؤسسات التلقين الإعلامي.

المؤسسات التعليمية.

محترفو التبرير الديني.

قارن “حازم خيري” بين الصراع في الآنسنية بنظيره في الماركسية من حيث “الجوهر، خصائص الصراع، أطراف الصراع، هدف الصراع”، ووميزات الآنسنية.

تناول الكاتب، تطور الإدراك السروري لطبيعة الصراع بين “الذات والأخر”. المبحث الأول يرصد مراحل طفولة نجيب سرور مع والده وإخوته، وكيف كان يُعامل من قبل أبيه، وكيف كان يشعر الآخر من حوله متمثلاً تارة في الأب والمدرس، وتارة أخرى في الإقطاعي والمستعمر، وهو الذات المستضعفة التي لا نصير لها.

بداية سرور المسرحية..

يتناول المؤلف في هذا الجزء بداية قصة سفر سرور للبعثة إلى روسيا للحصول على درجة الدكتوراة في “الإخراج المسرحي”، ومدى تخوفه من منعه من السفر كما يرويها في سيرته الذاتية الغير منشورة “فارس آخر الزمان”، طبقاً لرواية نجيب سرور (فارس آخر زمن !) وهي رواية غير منشورة تجسد السيرة الذاتية لنجيب سرور، حال رحيله دون إكتمالها، كان الوالد “محمد سرور” بحكم وظيفته دائم التنقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة بين الوجهين البحري والقبلي، فقد ترك التدريس الإلزامي وألتحق بمدرسة الصيارفة، وأصبح يملك “ثلاثة عشر فداناً”. وفي مدرسة “مغاغة الثانوية”، إشترك سرور لأول مرة في تمثيل مسرحية “أصدقاء السوء”. وبدأت اهتمامات “نجيب” تزداد بالتمثيل، فألتحق مع “كرم مطاوع”، وفي عام واحد، بالمعهد العالي للفنون المسرحية مع كلية الحقوق، بيد أن سرور لم يلبث أن ترك دراسة الحقوق في السنة النهائية ليتفرغ للمعهد. ولكم أغضب ذلك الأب، الذي لم يلبث أن غفر لابنه فعلته تلك بعد أن عرف أن هناك نية لايفاد بعثات إلى الخارج، وإلى روسيا بالذات، فقد كانت طرق البعثات إلى لندن وباريس مغلقة عقب حرب 1956. بعثة إلى الخارج ودكتوراة قد تحمي إبنه من الضياع في عالم الفن والأدب بين أذرع الأخطبوط الذي كان يوشك هو الوالد نفسه أن يضيع بينها في مطلع شبابه حين كان يكتب الشعر والمسرحيات !.. ويحمل مجرد شهادة مدرسة المعلمين. وبالفعل فاز نجيب بالبعثة، وكان قد أقسم بينه وبين نفسه على ألا يعود إلى مصر، فيما لو أتيحت له فرصة الخروج منها، لما سادها آنذاك من قمع شرس لأصحاب الرأى وسجناء الضمير. وراح الأب “محمد سرور” يشتري لولده لوازمه، وأوصاه في قصيدة الوداع التي ألقاها بين المودعين أن يعيش دائماً بعقله وقلبه ووجدانه في وطنه مصر مهما باعدت بينهما المسافات والسنوات !

ثم يعرض المؤلف تاريخ كل مجتمع طبقاً لـ”البيان الشيوعي”، والمتمل في صراع الطبقات.

سرور من العزلة إلى الفصل من البعثة..

بعد العزلة التي صاحبت سرور لدى وصوله إلى موسكو، لتيقنه بأن المبعوثين المصريين منتقين بعناية من أجهزة المباحث، نجح سرور في تكوين مجموعة من “الديمقراطيين المصريين”، إصدر البيانات المعادية للنظام في الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، واستغل الفرصة في أحد المؤتمرات، وصعد للمنصة ليُلقي بياناً نارياً ضد النظام “القمعي”، كان على إثره فصل سرور من البعثة.

مدى تفاعل سرور مع الشكل..

هجر “نجيب سرور” المسرح الذي كان يدرس فيه تحت إشراف المخرج الكبير “نيكولاي أخلوبوكوف”، متعللاً بأن أخلوبوكوف مخرج “شكلي”، يهوى المؤثرات الصوتية والضوئية ولا يغوص في أعماق النص المسرحي. وبالطبع لم يكن هذا هو السبب الحقيقي الذي نفر نجيب من دراسة المسرح، ودفعه للتفكير الجدي في إعداد أطروحته للدكتوراه عن ثلاثية الروائي المصري “نجيب محفوظ”، وإنما كانت الأزمة الحادة التي أخذت تتفاعل في أعماقه، والتي لم يجد سرور سوى الإغراق في الشراب كوسيلة للهروب منها.

الرحلة إلى “بودابست”..

سافر سرور إلى بودابست بدعوة من أحد اللاجئين السياسيين المصريين هناك، حيث عمل في القسم العربي بـ”إذاعة بودابست”، وواجه هناك الغيرة والحقد من جانب “الشيوعيين السوريين” الذين كانوا في معظمهم غير مؤهلين لمجاراة نجيب في قدراته وابداعاته فناصبوه العداء. فعاودت نجيب سرور أزمته التي لم يفلح تغيير المكان في إطفاء جذوتها، وكان يتصل بزوجته طالبة الآداب الروسية “ساشا كورساكوفا” وصديقه “أبي بكر يوسف” من هناك، مؤكداً لهما على معاداة الشيوعيين السوريين له وسعيهم لإبعاده والتخلص منه، علاوة على تأكيده على استفحال النفوذ الصهيوني لا في القسم العربي في إذاعة بودابست فحسب بل وفى معظم أوجه الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في المجر.

عودة سرور الخاسرة..

كتب الناقد المصري “رجاء النقاش”، في جريدة الجمهورية مقالاً بعنوان “مأساة فنان مصري في بودابست”، تحدث فيه عن معاناة نجيب وتعرضه لمخاطر جمة وشبهه بأنه “قط فوق سطح من الصفيح الساخن” على حد تعبير “تنسي وليامز”، وهذا السطح طبقاً للنقاش هو القلق الذي لا يرحم، ولا يتيح لأصحابه عمراً هادئاً، أو حياة بلا تقلبات عنيفة مرة !.. وبدا واضحاً حرص الناقد المصري على استمالة النظام الحاكم آنذاك للسماح لنجيب بالعودة إلى مصر، حتى أنه قرر صراحة في نهاية مقاله: “إن حنين هذا الفنان – يقصد نجيب – إلى وطنه ليس جريمة، وتفكيره في بلاده عندما تأزمت به الأمور وانسدت في وجهه الطرق هو نوع من التوبة الصادقة ينبغي أن نقبله منه ونساعده عليه” !

وبالفعل عاد نجيب سرور عام 1964 لأرض الوطن يحمل صك الغفران الذي نجح رجاء النقاش في استمالة النظام المصري الحاكم آنذاك ليمنحه للفنان التائب، على حد تعبير رجاء النقاش في مقالته الشهيرة، نجيب سرور!!.

ساحة معهد الفنون وأزمة المسرح في مصر..

في المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث كان يدرس، والذي كان يقوم فيه بتدريس مادتي “التمثيل والإخراج”، كان نجيب سرور يقول ما يريد كما يريد، ويُلقي دروسه في المسرح وتاريخه من وجهة نظره العلمية الثورية. لهذا طُرد سرور من المعهد، لأنه كان يُلقى فيه المحاضرات بكل صراحة وشجاعة عن أزمة المسرح في مصر.

عن محنته تلك يقول “نجيب سرور”، في إستغاثته إلى محرر مجلة “الكواكب” عام 1968، ما نصه: “في تقرير للخبير الفرنسي السيد “توشار” شهادة لي بأنني أحسن أستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية، عرفت هذا من السيد الوزير نفسه ومن الدكتور “مصطفى سويف”. ومع ذلك وبعد عامين من التدريس في المعهد، وبعد هذا التقرير، فوجئت بإستبعادي من المعهد (!) كيف ؟.. ولماذا ؟.. وهكذا.. لا معهد.. ولا عمل بالمؤسسة.. ولا تعيين.. ولا دخل منتظم.. ولا مرتب ثابت.. ولا اطمئنان إلى اليوم والغد وما بعد الغد !.. ولا يمكن طبعاً الإعتماد على فرص العمل المتباعدة وغير المنتظمة في الإذاعة والتليفزيون. وأنت تعلم لماذا ؟” !

من البعثة والتمثيل والتدريس الأكاديمي إلى التشريد !

تتكاثر الحوادث المؤلمة ويتشرد نجيب سرور ويجوع، ويحاولون إستيعابه بإغرائه بأن يقدم للتليفزيون أعمالاً ترفيهية لا تقول شيئاً، ولا تتعرض لشئ مقابل “آلاف الجنيهات”. فيتعفف نجيب سرور وهو الجائع المشرد، ويقول لعارض الصفقة هذه: “قل لوزيرك إن هذه اللعبة القذرة يجيدها غيري، وهم أكثر من الهم على القلب. أما أنا فلن أقبل هذه الرشوة المقنعة” !.. ويعود نجيب إلى الجوع والتسكع، بل والاستجداء !.. ويتهمونه بالجنون، ويرسلوه إلى مستشفى الأمراض العقلية !

يوثق ذلك في رسالة إستغاثة أرسلها إلى الكاتب “يوسف إدريس”: “لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق وأرسلوني.. لكن مهلاً، ليس في معتقل من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، وإنما في مستشفيات المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية !!… المهم أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاماً أو كالحطام ! خرجت إلى الشارع.. إلى الجوع والعري والتشرد والبطالة والضياع وإلى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب !.. خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي.. وظللت مجمداً محاصراً موقوفاً. وبعيداً عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيداً عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان” !!

يموت نجيب سرور جائعاً مشرداً، في غيبة زوجته وولديه، فقد إضطرت زوجته للذهاب إلى موسكو مع ولديها “شهدي وفريد”، لإرسال الأول إلى المدرسة الثانوية الداخلية بموسكو لعدم وجود مرحلة ثانوية بالمدرسة الروسية بالقاهرة آنذاك، وعدم إتقانه للغة العربية اللازمة لإلتحاقه بمدرسة ثانوية مصرية، ورغم أنها أوصت الكثيرين على زوجها إلا أن غيبوبة السكر نالت من الرجل، وكان قد غادر شقته بالهرم إلى بيت أخيه “ثروت”، في مدينة دمنهور.

رحل نجيب سرور عن دنيانا باكياً حزيناً عاتباً على مجتمع لا يجد الشجاعة حتى الآن لرثائه. وذهب الجثمان إلى قرية إخطاب، تلك التي لطالما تغنى بها نجيب في مسرحياته وأشعاره، واتشحت القرية بالسواد، وكُتب على قبره..

“قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح

فاحفر هنا قبراً ونم”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة