26 ديسمبر، 2024 7:52 م

دول الشمال الأفريقي.. تعقيدات المشهد السياسي وآفاق التجاوز

دول الشمال الأفريقي.. تعقيدات المشهد السياسي وآفاق التجاوز

إعداد/ عبدالستار الخديمي

الإرهاب التحدي الأكبر لدول شمال أفريقيا
الصراع السياسي منطق يفرض نفسه حتى في أعرق الديمقراطيات في العالم، ولكنه يصبح عائقا أمام التطور الطبيعي للتعايش السلمي داخل المجتمعات إذا ما مورس بعنف خارج الأطر والمؤسسات الدستورية التي تكفل موضوعيته على الأقل.

أشدّ الأزمات السياسية تعقيدا تشهدها ليبيا. السبب واضح ومنطقي؛ أكثر من أربعة عقود من الدكتاتورية علا فيها صوت الحاكم المفرد. معمر القذافي لم يسع إلى تعليم شعبه مما انعكس بعد ثورة فبراير على طريقة الممارسة السياسية التي افتقرت إلى أبسط الأبجديات، واندلع الصراع واستفحل التشرذم إلى درجة أصبح معها التعايش مستحيلا، في موقف شديد القتامة.

الجانب الثاني في المعادلة يكمن في كون ليبيا بلد ثروات بترولية هائلة، ما جعله مطمعا إقليميا ودوليا وبالتالي مسرحا لصراعات ظاهرة وباطنة. الكل في ليبيا شق عصا الطاعة وانحاز لطرف إقليمي لغايتين هما حماية التموقع والتمويل.
منطق الصراع والإخضاع

الصراع على أشده بين الميليشيات العسكرية على اختلاف مرجعياتها. صراع آخر في مستوى أعلى بين ميليشيات الإسلام السياسي والجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر. وصراع ثالث بين حكومة الوفاق والجيش الوطني. أما الحرب التي استنزفت الكل فهي الحرب على الجماعات الإرهابية.

يبدو حجم الأزمة ضخما وتبدو الحلول صعبة التحقيق إن لم نقل منعدمة. جميع المسارات متقاطعة بين التوجهات الليبرالية وتوجهات الإسلام السياسي ودوافع الجماعات المتشددة وغيرة الوطنيين وانتهازية الانتهازيين والمنطق القبلي والعشائري. أليس هناك وطن يجمع هؤلاء، ويقرب مساراتهم، ويوحّد أهدافهم؟

المشكلة السياسية في شمال أفريقيا هي عدم قدرة الليبيين على تجاوز خلافاتهم وتأسيس دولتهم الحديثة بمؤسساتها
على المستوى الإقليمي شهدت الساحة الليبية صراعا محتدما بين أطراف عدة. وليست دوافعه حبا في الليبيين أو توقا لإرساء ديمقراطية وليدة على أنقاض دكتاتورية القذافي، بل هي أطماع اقتصادية مغلفة سياسيا. قطر وتركيا تدعمان تيارات الإسلام السياسي. مصر تدعم حفتر. الغرب ثم الروس يبحثون عن عقودهم النفطية.

الأزمة الليبية الأشد حدة طرحت ظلالها على دول الجوار. تونس الأقرب إلى ليبيا احتضنت الليبيين في محنتهم ولكن ليبيا احتضنت متطرفي تونس، تمكنوا في التراب الليبي وصدروا الأسئلة والجهاديين إلى تونس التي شهدت هجمات إرهابية مهولة، وأمثلة ذلك ما وقع في سوسة وباردو وبنقردان.

تونس استطاعت سياسيا ورغم الهزات أن تخطو خطوات عملاقة لإرساء ديمقراطية ناشئة. استطاع الشعب التونسي والطبقة السياسية على اختلاف مشاربها الأيديولوجية ومرجعياتها الفكرية أن تلتقي لبناء المؤسسات الدستورية. تحدد النظام السياسي للحكم وأطلق عليه توصيف “نظام برلماني رئاسي معدل”. تعايشت النخب السياسية وتصارعت تحت قبة مجلس نواب الشعب.

مؤخرا وإثر الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها الحكومة برئاسة يوسف الشاهد، وقعت صدامات، احتج المحتجون بأشكال مختلفة؛ تظاهرات، مسيرات، اعتصامات. انقسم الشارع التونسي بين مناصر ومعارض ولكنه لم يتفكك، بل اجتمع حول شعار مكافحة الفساد. نجحت تونس بنسب محترمة في إدارة أزمتها السياسية. الجزائر بدورها تعاني أزمة سياسية حادة في جوهرها، رغم أنها لم تشهد ثورة. الساسة في الجزائر أشد مراسا لإدارة الصراعات.

العشرية السوداء في التسعينات من القرن الماضي ثبّتت نظام الحكم من ناحية وجذرت مشاعر الخوف والرهبة لدى الجزائريين من ناحية أخرى. فأصبح التفكير في تغيير النظام يعدّ مجازفة. فاستغل المتربعون على عرش السلطة هذا الوضع الموضوعي، فتفننوا في المراوغة والمهادنة والانتظار.

الرئيس بوتفليقة ورغم عجزه كان المثال الحي لهذا التمترس. لم يستطع الشعب الجزائري وعبر المؤسسات الدستورية وعبر الانتخابات (تشريعيات 2017 تحصل فيها حزب جبهة التحرير على 164 مقعدا متقدما عن حزب التجمع الديمقراطي بفارق 67 مقعدا)، أن يغير الوضع لأن الأغلبية استسلمت لدوائر الجاه والمال.
الشارع التونسي اجتمع حول شعار مكافحة الفساد
واستطاع حزب جبهة التحرير -رغم الصعوبات والتحديات وخاصة الدبلوماسية التي لم تنجح الحكومة السابقة في إدارتها- تشكيل حكومته الجديدة برئاسة عبدالمجيد تبون وضمت 27 وزيرا منهم 11 من الحكومة السابقة. بوتفليقة يواصل سياسة الترقيع، حيث طعم حكومته ببعض الوجوه المستقلة في محاولة منه لتجاوز آثار الأزمة الاجتماعية التي تهدد الاستقرار النسبي.

الصراع المحتدم بين الجارين المغرب والجزائر كان له أثر مباشر في طبيعة العلاقات الدبلوماسية لكل منهما.
نجاح السياسة المغربية

كان العام 2017 دبلوماسيا بامتياز بالنسبة للسياسة المغربية. حيث استطاع العاهل المغربي الملك محمد السادس أن يعيد المغرب إلى مكانه الطبيعي في الاتحاد الأفريقي. الدبلوماسية الملكية في تحركاتها لم تكن بمعزل عن استقرار سياسي حقيقي، مردّه بلورة شعار “لا للإقصاء”.

الإسلاميون وقع تهميشهم في بلدان أخرى مما سبب صراعا مرا بينهم وبين السلطة، ولكن حزب العدالة والتنمية فاز وشكل حكوماته المتعاقبة، في انسجام واضح مع المؤسسة الملكية. الاستقرار الداخلي انعكس على سمعة المغرب فأصبح صوتا مسموعا في المحافل الدولية. السياسة المغربية تقوم أيضا على تنويع التحالفات والشراكات في أفريقيا والخليج العربي وأوروبا وأميركا.

أيقن الملك محمد السادس أن التقاطعات لا بد أن تمر عبر توافق اجتماعي وعقائدي واضح. سوّق المغرب لإسلام معتدل قادر على المشاركة في الحكم بإيجابية. وأرسى مناخا مناسبا لشراكات سياسية استثمرها في الدفاع عن قضيته المحورية “الصحراء المغربية”، وسجل نقاطا لصالحه على حساب الدبلوماسية الجزائرية والبوليساريو.

مقارنة بالدول المجاورة، المغرب أكثر استقرارا سياسيا وما يحدث من حين إلى آخر ليس سوى ارتدادات لمناكفات داخلية لا معنى لها، ومثالنا في هذا رئيس الحكومة عبدالإله بن كيران عجز عن تشكيل حكومته مما جعل الملك محمد السادس يتدخل، ووقع تجاوز الإشكال بسلاسة ودون أن تكون لذلك تداعيات.

السياسات المغاربية تختلف باختلاف الوضع الداخلي والتفاعلات السياسية؛ الحزبية منها والشعبية، وإذا كانت دول الشمال الأفريقي تعاني من أزمات سياسية، لانخراطها طوعا أو كرها في النظام العالمي المعولم، فإن أزماتها تتقاطع بأشكال مختلفة. الأهم بالنسبة للأنظمة الحاكمة أن تحافظ على الاستقرار السياسي بما يسمح بمواجهة التوترات الاجتماعية والتقلبات الاقتصادية والتحديات الأمنية.

المشكلة السياسية العويصة في شمال أفريقيا هي عدم قدرة الليبيين على تجاوز خلافاتهم وتأسيس دولتهم الحديثة بمؤسساتها. دول الشمال الأفريقي تحاول كل منها التعاطي مع الأزمة الليبية بما يخدم مصالحها الأمنية ثم الاقتصادية. وهنا يقع التقاطع الفعلي، وحسب اعتقادي فإن الأزمة المغربية الجزائرية تلقي بظلال كثيفة على مسار التنسيق الفاعل والمثمر بين هذه الدول، رغم الإشارة إلى أن العاهل المغربي الملك محمد السادس لم يدخر أي جهد لرأب الصدع الذي طال أمده وعلى الجزائر أن تتخذ خطوة مماثلة إيجابية، وذلك سيكون في صالح السياسات المغاربية عموما.

المغرب أكثر استقرارا سياسيا مقارنة بالدول المجاورة وما يحدث من حين إلى آخر مناكفات داخلية لا معنى لها
لا يمكن الفصل بين الأزمات السياسية والاقتصادية إلا لضرورة منهجية يستدعيها النسق التحليلي لهذه المعطيات. ما أشرنا إليه آنفا على أنه بحث مستمر عن استقرار سياسي، إنما هو أيضا بحث حثيث عن إرساء اقتصادات قادرة على تأمين الحد الأدنى من المتطلبات الشعبية بما يضمن على الأقل تجاوز التوترات الاجتماعية التي تندلع هنا وهناك دون سابق إنذار.

أكثر البلدان المغاربية نجاحا اقتصاديا هي نفسها الأكثر استقرارا سياسيا. في ليبيا أصبح الحديث عن اقتصاد وطني أمرا لا يخلو من المغالاة والتضخيم. أما إذا وسمناه بـ”اقتصاد مراكز النفوذ” يصبح الأمر منطقيا. كل الأطراف المتصارعة سياسيا تقود نفس الصراع من أجل منافع اقتصادية ومالية لا غنى عنها للاستمرار في خوض الصراع نفسه. آبار النفط ومنتجاته هما هدف كل تحرك سياسي أو عسكري.

ما زاد الطين بلة أن الميليشيات النافذة هي التي تتحكم في مسارات الإنتاج ومسالك التجارة تصديرا وتوريدا، حتى المواد البترولية تخضع لهذا المنطق. والأمر طبيعي لأننا لا يمكن أن نتحدث عن اقتصاد وطني في غياب الدولة ومؤسساتها. وفق الخارطة الجغرافية التي تخضع للمنطق الميليشياوي.

الوضع الليبي ساهم في خلق نمط من الاقتصادات الموازية في دول الجوار، تقوم في أغلبها على التهريب، أي خلق وضع لا يسمح بإرساء دعائم اقتصاد قوي قادر على المنافسة.

تونس وبحكم موقعها الجغرافي تعاني أزمة اقتصادية، فاقمتها مظاهر التسيب والفوضى وتعطيل مصادر الإنتاج كالفوسفات والبترول وغيرهما من المنشآت المنتجة. فتضرر قطاع السياحة الذي يعتبر قطاعا حيويا. وتقلصت العائدات المالية المتأتية من الصادرات الفلاحية.

أمران في غاية الأهمية أرهقا فعلا الاقتصاد التونسي، هما تفشي ظاهرة الفساد من رشى ومحسوبية واستغلال مراكز السلطة في الإدارة، ثم الاقتصاد الموازي الذي ساهم في مفاقمته الوضع الليبي.
التحديات الاقتصادية والأمنية

هذا الوضع الاقتصادي الصعب، والذي لم تنجح أي حكومة من الحكومات التي تعاقبت بعد الثورة في التنقيص من حدته، دفع بالبلاد إلى الاقتراض من الدوائر المالية العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، بإملاءات وشروط تتعارض في بعض الأحيان مع التطلعات والانتظارات الاجتماعية التي ارتفع نسقها ومنسوبها، ما يؤجج في كل مرة وتيرة الاحتجاجات.
الأزمة الاقتصادية في الجزائر تحرك الشارع للانتفاض
الحكومة التونسية وجدت نفسها أمام معادلة صعبة، شقها الأول يتمثل في النهوض بالاقتصاد وتنشيط مراكز الإنتاج وتشجيع الاستثمار وتحقيق المناخ الأفضل للمستثمرين الأجانب خاصة، ومكافحة الاقتصاد الموازي، والمضي في تطبيق إجراءات قاسية كالتحكم في سقف الأجور والتقليص من منتسبي الوظيفة العمومية.

الجانب الثاني من المعادلة هو كيفية تحقيق مطالب الثورة في الجانب المادي منه، وهو الرفع من المستوى المعيشي للمواطن مع الالتزام بمتطلبات النظم الديمقراطية وفي مقدمها الحرية والعيش الكريم.

الأزمة في الجزائر اتخذت شكلا آخر، وهي في هذا الجانب تتماهى مع الدول النفطية في العالم، الاقتصاد والنفقات العمومية كانا يستندان لعائدات النفط، وبتدني السعر العالمي لبرميل النفط لفترة طويلة، أصبحت الجزائر غير قادرة على مجابهة متطلباتها، فتأثرت مستويات الإنتاج في مجالاته المختلفة وبات من الضروري التفكير في منوال اقتصادي يقلص من التعويل على العائدات النفطية كمصدر وحيد لإنتاج الثروة.

تأثرت الجزائر اقتصاديا أيضا بالتهريب، منها وإليها، شأنها شأن تونس ولكن بأقل حدة نظرا للاستقرار السياسي النسبي الذي شهدته بعد اندلاع الربيع العربي.

ولا جدال في أن المغرب استطاع أن يتجاوز أزماته الاقتصادية بنسب تصاعدية متواترة، وذلك بجلب الاستثمارات الخارجية، وتنشيط قطاع السياحة. الدبلوماسية المغربية التي يقودها العاهل المغربي الملك محمد السادس ساهمت بقسط وافر في البحث عن امتدادات اقتصادية في الاتجاه الأفريقي خاصة، وفي مناطق أخرى من العالم في أوروبا ودول شرق آسيا، وأميركا اللاتينية. المناخ السياسي السليم والمصداقية ساهما في جعل المغرب قبلة استثنائية للمستثمرين الأجانب وقبلة محببة للسياح، فضلا عن أن المغرب لم ينخرط في الصراعات الإقليمية باستثناء دفاعه المستمر عن سيادته على الصحراء المغربية في مواجهة البوليساريو والجزائر الداعمة لها.

العلاقات الاقتصادية بين دول الشمال الأفريقي تقوم على التكامل خاصة على مستوى المبادلات التجارية رغم أن حجم التبادل المالي لم يرق إلى ما تأمله الشعوب المغاربية، لتأسيس استراتيجية على المدى القصير والمتوسط والبعيد، تسمح بإنشاء تكتل اقتصادي قادر على المنافسة الفعلية في إطار الاقتصاد المعولم. بقي أن نشير إلى أن حدوث أي أزمة في أي بلد تلقي بظلالها على دول الجوار، بنسب تختلف طبعا وفق حجم العلاقات الثنائية أو الكلية.

وإذا كان الإرهاب والتحديات الأمنية يمثلان هاجسا إقليميا وعالميا فإن منطقة الشمال الأفريقي لم تنج من ويلاتهما. كل البلدان المغاربية دون استثناء اكتوت بنار الإرهاب. فالجزائر كانت سباقة ومرت بالعشرية السوداء في تسعينات القرن العشرين، والتي أودت بأرواح الآلاف من الضحايا العسكريين والمدنيين.

أما الإرهاب الداعشي نما وتطور بعد اندلاع الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا وسوريا. وساهمت بعض الدول الإقليمية كإيران وتركيا وبعض الدول العربية كقطر، في تفشيه بتدعيمها للتيارات الجهادية والإسلام السياسي السني والشيعي على حد السواء.

الحسابات الإقليمية والعالمية ساهمت في انتشار الإرهاب بالدعم المباشر أو بالسكوت عما يجري في المنطقة، ولم تتوحد الجهود الدولية لمحاربة التيارات الجهادية المتطرفة، إلا بعد “عولمة” الإرهاب الذي ضرب العمق الأوروبي والأميركي ولا يزال (آخر العمليات وقعت في بريطانيا، والمنفذ من أصل ليبي).

دول شمال أفريقيا صدرت الجهاديين عبر التراب الليبي والتركي، ثم اكتوت بنار صديقة، جهاديين من أصول مغاربية.

أمام هذا الوضع أصبح لزاما أن تتوحد الجهود لدرء الخطر الإرهابي الداهم. وأصبحت حماية الحدود والمؤسسات الحيوية والأرواح هاجس الساسة في البلدان المغاربية، واجتهدوا بطرق مختلفة في المساهمة في الجهد الأمني والعسكري المباشر على الحدود وداخل كل بلد، وكذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية التي تتعلق بتمركز الجماعات الإرهابية المقاتلة وتحركاتها في المساحات الصحراوية والغابية.

الهاجس الأمني هو أكثر الملفات التي اجتمع حولها قادة الدول المغاربية رغم ما يبدو أحيانا من سلوكيات فردية ذاتية تعكس الوضع الخصوصي لكل دولة.

لا يمكن الفصل إذن بين الأزمات على اختلافها، فالسياسي يتقاطع مع الاقتصادي والأمني، ولا حل للتجاوز إلا بمزيد توحيد الجهود، وتجاوز الخلافات الضيقة، وعقلنة العلاقات، مع الحفاظ طبعا على خصوصية كل بلد. بهذه الطريقة ستجد الأزمات طريقها للحل.
المصدر/ العرب للدراسات

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة