28 مارس، 2024 4:50 م
Search
Close this search box.

دور الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في موجة التغيير القادمة بالمنطقة العربية

Facebook
Twitter
LinkedIn

إعداد/ حامد عبد الماجد قويسي
مقدمة

تشهد المنطقة العربية تفجر العديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة تعبيرًا عن تشوهات هيكلية في بنياتها الاجتماعية والاقتصادية، وانعكاسًا لغياب الرؤية القائدة وفشل السياسات المطبقة، وتأثرًا بالعديد من الأزمات الحادة على المستويين الإقليمي والدولي.

وقد أفاض الباحثون في دراسة هذه الأزمات وتحليل آثارها من انتشار العنف والاستبداد والإرهاب وعدم الاستقرار السياسي، كما خضعت لتغطيات إعلامية وتوظيف دعائي من مختلف الأطراف ساده لغة المبالغة ومنطق التشويه. وفي هذا السياق، تأتي هذه الدراسة* الموجزة حول دور الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في تفجير موجة تغييرية في المنطقة العربية، لتكون إضافتها الأساسية في اتباع منهجية علمية، بعيدًا عن الحشد المعلوماتي والانطباعات الذاتية، تقوم على اختبار العلاقة بين الجوانب المعرفية والواقعية للقضية البحثية عبر مستويات منهجية ثلاثة، وهي: رفع الواقع وتوصيفه، وتحليله وتفسيره، ومن ثم استشراف سيناريوهاته المستقبلية كالتالي(1):

الأول: التوصيف ورفع الواقع: تتم العملية على مستويين متكاملين: معرفي يحدد ماهية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وواقعي يحدد مؤشرات قياسها العملية.

الثاني: التحليل والتفسير العلمي يحاول تقديم إجابة على تساؤلات من قبيل: إلى أي مدى تسهم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في إحداث موجة التغيير القادمة؟ وهل تصلح وحدها كعوامل تفسيرية؟ ومن ثم، ما الأزمات الأخرى المؤثرة؟ وما وزنها النسبي برؤية مقارنة؟ وما طبيعة وصور الموجة الثانية من التغيير القادمة؟

الثالث: التنبؤ وتحديد السيناريوهات المستقبلية: يحاول تقديم إجابة على تساؤلات من قبيل: كيف تصل الأزمات لحالة تفجر؟ وكيف يقود ذلك لموجة التغيير القادمة؟ ومن ثم، كيف يتم التنبؤ السياسي بمساراتها عمليًّا عبر تحديد السيناريوهات الأساسية؟

نتناول هذه المستويات في مباحث ثلاثة محاولين قدر الإمكان تقديم إجابات على تساؤلاتها في إطار ضوابط المنهجية العلمية.

1. واقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية
تشهد معظم دول المنطقة العربية العديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تعكس فشلًا يمثل وجهين لحقيقة واحدة:

الأول: الفشل في ممارسة أهم وظيفتين للدولة، وهما: الوظيفة التنموية، والوظيفة التوزيعية(2)، بينما يمثل الوجه الثاني الفشل في الالتزام عمليًّا بمنظومة “الحقوق” الواردة بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية(3). قاد هذا الفشل للكثير من الأزمات الشاملة والفرعية التي نتناول أهمها بالتعريف وتحديد مؤشرات قياسها كالتالي:

أولًا: الأزمات التنموية: كانت نتاجًا لإهدار “الحق في التنمية” الذي يعد أهم الحقوق الجماعية الذي يتضمن “توفير أسباب العيش للشعوب وتحقيق أهدافها، والتصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية دونما إخلال بأية التزامات منبثقة عن مقتضيات التعاون الاقتصادي الدولي القائم على مبدأ المنفعة المتبادلة”(4).

ثانيًا: الأزمات الاجتماعية: ويتمثل جوهرها في عدم الحفاظ على الوحدة الأساسية للمجتمع عبر توفير أساسيات العيش الكريم؛ إذ تقر الدول الأطراف في العهد الدولي على “وجوب منح الأسرة أكبر قدر ممكن من المساعدة في تكوينها ونهوضها عبر حماية الأمهات والأطفال والمراهقين من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي واستخدامهم في أي عمل من شأنه إفساد أخلاقهم أو الإضرار بصحتهم أو تهديد حياتهم بالخطر أو إلحاق الأذى بنموهم”، ويفرض على الدول حدودًا دنيا لسنِّ العمل مدفوع الأجر(5). وإذا كانت الأزمات التنموية والاجتماعية من الأزمات الكلية والإطارية، فقد فصل العهد الدولي للحقوق في عدة أزمات نابعة منهما، نذكر أهمها:

أزمة البطالة: تنبع من عدم احترام تطبيق حق العمل مواد 6، 7، 8، وما يتفرع عنه من أزمات الحصول على الأجر العادل وتكوين التنظيمات النقابية والعمالية، وحق الإضراب وممارسته…إلخ(6).

أزمة الضمان الاجتماعي: إذ يجب أن توفر الدولة لمواطنيها الحدود الدنيا للعيش الكريم التي تحفظ عليهم حياتهم. وتقر الدول الأطراف في المادة 9 بحق كل شخص في الضمان والتأمينات الاجتماعية(7).

أزمات الغذاء، والسكن: وتتضمن “الحق في الحصول على الغذاء الكافي، والحصول على السكن المناسب والملائم”؛ حيث تنص المادة 11 من العهد على حق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته، يوفر ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى، وبما يضمن التحرر من الجوع وبحقه في تحسين متواصل لظروفه المعيشية، “كما تتعهد الدول بالتدابير المشتملة على برامج محددة ملموسة تقوم على تحسين طرق إنتاج وحفظ وتوزيع المواد الغذائية، عن طريق الاستفادة الكلية من المعارف التقنية والعلمية، ونشر المعرفة بمبادئ التغذية، وتأمين توزيع الموارد الغذائية العالمية توزيعًا عادلًا في ضوء الاحتياجات، يضع في اعتباره المشاكل التي تواجهها البلدان المستوردة للأغذية والمصدِّرة لها على السواء”(8).

أزمات الصحة والعلاج: والمترتبة على غياب الحق في العلاج والتأمين الصحي؛ حيث تنص المادة 12 من العهد الدولي على “حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية “بداية من تأمين نمو الطفل نموًّا صحيًّا، وتحسين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية، والوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها”. وهناك العديد من الأزمات الأخرى المرتبطة والمكملة “وفقًا لمواد العهد الدولي 13-15” من: أزمات المياه (النابعة من عدم الالتزام بتنفيذ الحق في الحصول على المياه للشرب والزراعة والصرف الصحي)، وأزمات التعليم (الحق في الحصول على التعليم المناسب)، وأزمة المواصلات (الحق في التنقل الحر)(9). وبصدد مؤشرات قياس هذه الأزمات وتطورها وازدياد حدتها، تقدم تقارير التنمية ونوعية الحياة الصادرة عن الأمم المتحدة للباحثين عددًا من “المقاييس العلمية” تتضمن منظومة من المؤشرات الكمية والكيفية الصالحة لقياس وجود وتطور وتصاعد هذه الأزمات. وتدلنا مراجعة وتحليل هذه التقارير في السنوات السبعة الأخيرة، منذ بداية ثورات الربيع العربي وانقلابات الثورات المضادة 2001- 2018، على أن هذه الأزمات وصلت إلى درجات عالية من التدهور والخطورة في غالبية بلدان المنطقة العربية لا تتسع صفحات هذه الورقة لذكرها وتحتاج دراسة تفصيلية(10)؛ مما يدل على أن المنطقة قد تكون على أبواب موجة جديدة من التغيير، وهذا ما نُخضعه للتحليل والاستشراف المستقبلي.

2.تحليل أدوار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في تفسير حدوث موجة التغيير القادمة
يشير تحليل أدوار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية إلى ضرورتها لحدوث عملية التغيير، ولكنه يثير السؤال حول قدرتها التفسيرية، أي: إلى أي مدى هي كافية أو تصلح وحدها أو مع أزمات أخرى في تفسير حدوث التغيير المتوقع؟ وما المتغيرات الأخرى المعتبرة بهذا الصدد والوزن النسبي لها عمليًّا بمنطق مقارن؟

تعكس الإجابة على هذه التساؤلات وجود ثلاثة اتجاهات علمية؛ يركز الأول والثاني منها على الأبعاد والأزمات الداخلية، بينما يركز الثالث على الأبعاد والأزمات الإقليمية والدولية مع أخذه في الاعتبار الأزمات الداخلية كنقطة انطلاق تحليلي وتفسيري، وسنلخصها بإيجاز فيما بعد كونها تحتاج دراسات تفصيلية لا يتسع لها المقام.

الاتجاه الأول: الاقتصادي الاجتماعي: يعد اتجاهًا شائعًا يرى أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية داخل كل بلد وعلى مستوى المنطقة تعد ضرورية وكافية لحدوث حالة التفجر وبداية موجة التغيير، ويتحدث هذا الاتجاه عن المعادلة التي يمكن أن تقود عبرها هذه الأزمات إلى حدوث حالة “الانفجار الشعبي”.

جوهر الرؤية والمعادلة أن الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والذي يعبَّر عنه بمؤشر انخفاض مستوى المعيشة “مقيَّمًا بمستويات الدخول” من ناحية أولى، والظلم الاجتماعي الذي يعبَّر عنه بالتفاوت الشديد في توزيع هذه الدخول “غياب العدالة التوزيعية” معبَّرًا عنه بمؤشر تفاوت الدخول بين الحدين الأدنى والأعلى للدخل من ناحية ثانية، ثم من ناحية ثالثة وجود وعي فردي بالأمرين السابقين ينتقل هذا الوعي لكي يكون وعيًا وشعورًا جماعيًّا بالظلم والقهر عبر وسائط وأدوات انتقال هذا الوعي من أدوات الاتصال المختلفة من ناحية ثالثة، وفي إطار ظروف ولحظات ومسهلات معينة من ناحية رابعة يمكن أن يؤدي إلى حالة من حالات التفجر وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي يتمثل في صور وموجات من التغيير الثوري المتعددة.

وفقًا لهذه المعادلة فإن (الحرمان الاقتصادي + عدم العدالة التوزيعية + وسائط الاتصال = الوعي الجمعي ——–عدم الاستقرار السياسي (التغيير الثوري). وبالطبع، فإن فيما ذُكر نوعًا من الاختصار نرجو ألا يكون مخلًّا للمقولات الأساسية لهذا الاتجاه والأمر لا يغني عن دراسة تفصيلية ليس هنا موضعها(11).

الاتجاه الثاني: السياسي والمؤسسي: ويرى أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تعد من المحددات الأساسية الضرورية لحدوث التغيير وتفسير وقوعه ولكنها وحدها ليست كافية لذلك. وبالتالي، يبحث هذا الاتجاه عن عوامل ومتغيرات أخرى يراها جديرة بالتركيز فإذا تفاعلت مع السابقة يمكن أن تكون كافية ودافعة لحدوث التغيير، وبالتالي يركز على تقديم إجابات عن السؤال: ما الأزمات الأخرى غير الاجتماعية والاقتصادية الكافية لحدوث التغيير؟ يركز هذا الاتجاه على العوامل السياسية المختلفة والتي يمكن أن نضعها تحت عنوان الأزمات السياسية أيًّا كانت طبيعتها ومصادرها، وأشكالها، وتجلياتها المختلفة، مثل: (أزمة القيادة، وأزمة الخلافة السياسية، وأزمة الشرعية…إلخ)، والأزمات المؤسسية (أزمة غياب التوازن بين السلطات، وأزمة العلاقات المدنية-العسكرية، وأزمة الانقسامات داخل النخب الحاكمة….إلخ)، وتقدم دراسات هذا الاتجاه بالإضافة إلى انتقاد قصور الاتجاه الأول، رؤية مفادها أن هذه الأزمات السياسية والمؤسسية غالبًا ما تتبدى من خلالها الأزمات الاجتماعية والاقتصادية أو تكون الإطار الذي تعبِّر عن نفسها من خلاله. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن الموجه التغييرية الأولى من ثورات الربيع العربي لم تكن نتاجًا فقط للأزمات الاقتصادية والاجتماعية ولكن كانت الأزمات السياسية من العوامل المفجرة لها في الكثير من نماذجها وكما تبدَّى في شعاراتها( 12).

الاتجاه الثالث: الإقليمي والدولي: يركز هذا الاتجاه على أدوار النظامين، الإقليمي والدولي، في تفسير نجاح حدوث موجات التغيير أو إخفاقها، وهو يقدِّر ما يقدمه الاتجاهان السابقان ولكنه يرى أن الأزمات السابقة الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية…إلخ، داخل كل دولة ضرورية ولكنها أيضًا ليست كافية لتفسير حدوث ونجاح موجة التغيير أو إخفاقها. ويركز هذا الاتجاه على أن الأزمات النابعة من الإطارين الإقليمي العربي والدولي في حالتنا خاصة وتحديدًا في لحظة تفجر عملية التغيير يُفترض أن يكونا مساعدين، أو على الأقل محايدين وألا يلعبا دورًا معوقًا أو يؤدي إلى الإفشال.

بداية، ورغم قناعة الباحث بأن التاريخ لا يكرر نفسه فإنه يظل معملًا ومختبرًا للممارسة السياسية حيث يمثل النموذج التاريخي أداة منهجية مهمة لتحليل الواقع ومقارنته واستشراف مستقبله. وتأكيدًا لذلك فإنه في دراسة سابقة للباحث، نشرها مركز الجزيرة للدراسات 2009، أشار إلى أزمة النظام الرسمي العربي الشاملة وأنها تتيح حدوث حالة من التغيير الثوري وتقدم إمكانات لنجاحها(13).

كما أن الموجة الأولى من التغيير، كما قدمتها ثورات الربيع العربي، لم تكن فقط نتاجًا لأزمات اجتماعية واقتصادية بل تفاعلت معها الأزمات السياسية والمؤسسية ولعبت وضعية النظام الرسمي العربي وانهياراته وما قام به النظام الدولي شكل بداية مهمة في تسهيل نجاحها إلا أن النظام الرسمي العربي عاد رغم تداعيه وقاد الثورات المضادة، 2013، ودعَّم الانقلابات العسكرية، وأعاد النخب القديمة ويسعى الآن إلى ترميم أركانه وإعادة تموضعه عبر تحالفات مع مشاريع أخرى في المنطقة.

ولا مناص، تبعًا لذلك، من التفكير بالأدوار المتوقعة للنظام الرسمي العربي مستقبليًّا وأنماط تحالفات القوى الأساسية فيه، لاسيما بعد أن بات واضحًا أنه دخل عمليًّا في “صفقة القرن” عبر تحالف مع المشروعين، الأميركي والصهيوني، محاولًا إعادة تحديد العدو واعتبار أن التهديد الرئيسي يتمثل في إيران بدلًا من إسرائيل. كما يجب رصد التحالفات المستقبلية حول المنطقة وداخلها على المستوى الإقليمي خاصة التعاون الثلاثي: الإيراني والتركي والروسي، وبحث إلى أي مدى يمكن أن تلعب هذه المشاريع وأنماط التحالفات والصراعات في تحديد معادلات الواقع وأنماط التغيير المستقبلية(14).

يمكن أن نخلص هكذا إلى أن تفجر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية قد يؤدي إلى موجة ثانية من التغيير ولكنها ليست كافية بحد ذاتها لفعل ذلك؛ إذ إنها لابد أن تحدث في إطار أمرين: الأول: أن تجد ترجمتها في واقع أزمات سياسية ومؤسسية بالأساس، والثاني: أن هذه الأزمات المركبة التي تشهدها كل دولة لابد أن تتفاعل إيجابيًّا مع ما يحدث على المستوى الإقليمي والدولي.

إن إرهاصات موجة التغيير القادمة -في رأينا: عكس الأولى- ستأتي من أزمات النظام الإقليمي والدولي بداية وعلى مستواه بالأساس متفاعلة مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستوى المحلي لكل دولة.

3. السيناريوهات المستقبلية لموجة التغيير القادمة في المنطقة
يمكن عبر تحديد السيناريوهات المستقبلية المتصوَّرة لتفجر الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التنبؤ بموجة التغيير الثانية القادمة من حيث طبيعتها، ومساراتها، وصورها في المنطقة. والواقع أن صعوبة عملية التنبؤ والاستشراف المستقبلي بموجة التغيير لا تتعلق فقط بالإجابة على سؤال التوقيت الزمني، أي: متى تبدأ لحظة رفع الستار عن عمل كل سيناريو؟ بل الأهم ما يتعلق ببحث توفر المحددات الأساسية لعمل السيناريو نجاحًا أو فشلًا، فمن ناحية أولى، رغم أن سؤال الزمن تكتنف إجابته العديد من الصعوبات حيث التغيير عملية تراكمية ولحظة الثورة بذاتها حدث استثنائي لا يمكن التنبؤ بوقت حدوثه بشكل دقيق وإن كانت عملية استقراء مقدماته وإرهاصاته تظل ممكنة في ضوء السيناريوهات المختلفة على ما أسلفنا، فإنه من ناحية ثانية، فإن تناول الشروط والمحددات الأساسية لعمل السيناريوهات المستقبلية هو جوهر عملية بنائها وتأسيسها وتحديد إمكانات نجاحها أو فشلها(15).

وفي التحليل الأخير، يمكننا عبر منطق المنهجية العلمية بناء ثلاثة اتجاهات أو سيناريوهات مستقبلية رئيسة متصوَّرة تحوي في إطارها العديد من السيناريوهات الفرعية والمتصورة.

الأول: استمرارية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مع بقاء الأوضاع على ما هي عليه في المنطقة العربية:

تدور الفرضية الأساسية في هذا السيناريو حول أن المكونات الأساسية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية في المنطقة ستمتد في المستقبل ولن تقود إلى تغييرات أساسية أو جذرية في الأوضاع القائمة، وإن حدثت ثمة تغييرات ستكون شكلية لن تمس الجوهر القائم، وأن الأوضاع القائمة في المنطقة لن تتغير وستظل كما هي رغم وجود وارتفاع حدة وانتشار هذه الأزمات.

يستند القائلون بهذا السيناريو إلى أربعة محددات أساسية(16):

يعد التوجه السائد على المستوى الدولي داعمًا للتسلطية والشعبوية السائدة في المنطقة العربية حاليًّا بعد نجاح الثورات المضادة، ومعاديًا للتغيير وساعيًا لبقاء الأوضاع القائمة في حالة من الجمود والاستمرارية.
يدعم التحالف الإقليمي الذي قاد الثورات المضادة الأوضاع القائمة حاليًّا، ويسعى إلى استيعاب تأثير هذه الأزمات عليها لمبررات مفهومة ويحقق في ذلك قدرًا معينًا ومعقولًا من النجاح.
وجود “ذاكرة تاريخية” شكَّلها فشل الثورات العربية ونجاح الثورات المضادة ما زالت مؤثِّرة في الواقع المجتمعي بما يدعم بقاء الأوضاع كما هي خوفًا من أية صورة من صور التغيير رغم كل الأزمات الحادة وتحسبًا لتكلفة التغيير وآثاره. وبالتالي، فإن هذه المجتمعات ستحتاج فترة من الزمن لكي تتعافى من آثار صدمة فشل الموجة الأولى من التغيير ولكي تعاود الكَرَّة في محاولة تغييرية جديدة.
فضلًا عن المجتمع ذاته، فإن القوى المجتمعية والشبابية التي قادت موجة التغيير الثورية الأولى والتي قد تم ضربها بعنف تحتاج لفترة من الزمن للتعافي ولتقوم بدورها مجددًا، أو لكي تتقدم قوى مجتمعية وشبابية جديدة لكي تقود موجة التغيير القادمة.
وفي إطار هذا السيناريو، يمكن أيضًا تصور مستوى من التغيير المحكوم يتمثل في أن تقوم الثورات المضادة بتجديد نفسها، فيحدث استبدال وجوه وقيادات حاكمة من داخل نخب هذه الثورات المضادة، أي عبر تغيير في الوجوه والواجهات، وحدوث ما يطلق عليه: انقلابات (القصر الداخلية) مع بقاء نفس المعادلات القائمة.

الثاني: استمرارية تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ودخول دول المنطقة في حالة من الفشل والفوضى الشاملة:

تدور الفرضية الأساسية في هذا السيناريو على أن استمرار الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على مدى زمني طويل (السيناريو الأول مع تخلف بعض محددات عمله أو كلها) سيقود إلى المزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبدورها تقود إلى حالة فوضى اجتماعية واحتراب داخلي قد لا يتوجه بالضرورة إلى السلطات الحاكمة ولكن ضد قطاعات مجتمعية أخرى “ثورات جياع مثلًا” أو حالات تفتت أو انقسامات داخلية، في الوقت الذي تعجز فيه النخب الحاكمة عن ضبط الأوضاع أو حل الإشكاليات المجتمعية المختلفة. وإذا ما ترافق ذلك مع أشكال من الفوضى الإقليمية والدولية فإنه يمكن أن تؤول الأوضاع إلى معادلة المجتمعات الفاشلة والدول الفاشلة في نفس الوقت بكل تداعيات هذا السيناريو على كل المستويات.

الثالث: سيناريو استمرارية وازدياد حدة وتفجر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية يقود إلى موجة تغيير ثورية جديدة:

تدور الفرضية الأساسية في هذا السيناريو على أن استمرارية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية لفترة طويلة مع تخلف محددات عمل السيناريو الأول والثاني ستؤدي إلى حدوث موجة تغييرية جديدة؛ حيث يتم إنقاذ السيناريو الأول (الاستمرارية والجمود) من التحول إلى السيناريو الثاني (الفشل والفوضى المجتمعية).

المحددات الأساسية لعمل هذا السيناريو أربعة، هي:

وصول حالة التأزم الاقتصادي والاجتماعي إلى وضعية الانفجار الواسع، على أن يترافق ذلك مع تغييرات في النظام الإقليمي والنظام الدولي -بما لا يعوق أو يجهض- وعلى الأقل يسمح ويسهِّل حدوث حالة التغيير.

توافر مجموعة من الظروف والدلائل على أن النخب الحاكمة (العسكرية/الأمنية) المهيمنة تشهد في داخلها أنواعًا من التناقضات أو تضارب المصالح وتصارعها، وبوادر ضعف أو انشقاق، وبالتالي ثمة فرص حقيقية متاحة للتغيير يمكن رصدها واقتناصها والتعامل معها.

توافر أداة استثنائية غير مجربة حيث لا يوجد سابق خبرة للأجهزة في التعامل الأمني أو السلطوي معها، مثلما حدث في الموجة الأولى من الثورات العربية من استخدام أدوات الإعلام الجديد “الفيس بوك وغيره”، وأن يحدث ذلك في لحظة تاريخية تمثل نقلة في العمل التغييري.

وجود نخبة تحمل مشروع التغيير تستطيع أن تقود الجماهير وأن تفهم وتلتقط المتغيرات السابقة وتتعامل معها وقت حدوثها، ودليل وجود النخبة وفعالية قدرتها على الاتصال المسبق والاتفاق على أرضية مشتركة مستقبلية للعمل التغييري.

خلاصة

أيًّا كانت طبيعة موجة التغيير القادمة وصورها المتوقعة، فإنها لن تكون على نسق الموجة الأولى، فالتاريخ غالبًا لا يكرر نفسه، كما ستسعى قوى الثورات المضادة إلى الوقوف ضدها من البداية محاولة إجهاضها بكل السبل بما فيها استخدام مستويات غير مسبوقة من العنف. ووفق هذا السيناريو، فإن لحظة انفجار الأوضاع قادمة لا محالة وسيكون مستقبلها مفتوحًا على كل الاحتمالات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*د.حامد عبد الماجد قويسي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة لندن (SOAS) ورئيس مكتب التطوير والمستشار العلمي لرئيس جامعة قطر

مراجع
* قُدِّمَت الورقة في منتدى الجزيرة الثاني عشر الذي نظَّمه مركز الجزيرة للدراسات، في العاصمة القطرية، الدوحة، يومي 28 و29 أبريل/نيسان 2018، بعنوان “الخليج، العرب والعالم في سياق التطورات الجارية”. وكان الدكتور حامد عبد الماجد قويسي شارك في الجلسة الثالثة من أعمال المنتدى التي ركزت على مناقشة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تزداد تدهورًا، واتساع حركة الاحتجاجات الشعبية، ومحاولة استكشاف إجابات السؤال الآتي: هل تفجر الأزمات الاجتماعية والاقتصادية موجة ثانية من التغيير في المنطقة؟

(1) قويسي، حامد عبد الماجد، منهجية بحث وطرق دراسة الظواهر السياسية، (دار الجامعة، القاهرة، 2000)، ص 15-23.

(2) ربيع، حامد، نظرية القيم السياسية، (مكتبة نهضة الشرق، القاهرة، د.ت)، ص 194-196، وكذلك حامد عبد الماجد، الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية: دراسة منهجية في النظرية السياسية الإسلامية، (دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 1993)، ص 136-143.

(3) راجع نص وثيقة إعلان العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (اعتُمد وعُرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2200 ألف (د-21) 16/2/1966، تاريخ بدء النفاذ (وفقًا لنص المادة 27 من نفس العهد) 3 يناير/كانون الثاني 1976.

(4) في تحديد معالم الوظيفة التنموية من ناحية التأسيس القانوني، راجع نص المادة الأولى من العهد الدولي “لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها…….. وحقها في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي……….. التصرف الحر بثرواتها ومواردها الطبيعية”، والمادة الثانية “للدول النامية أن تقرر إلى أي مدى ستضمن الحقوق الاقتصادية لغير المواطنين…..”، والمادة الثالثة “………ومساواة الذكور والإناث في التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها……”.

(5) راجع في تأسيس الحقوق الاجتماعية قانونيًّا وفق العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المادة العاشرة “تقر الدول الأطراف في هذا العهد بما يلي: وجوب منح الأسرة التي تشكِّل الوحدة الطبيعية والأساسية في المجتمع أكبر قدر ممكن من الحماية والمساعدة……..يحظر القانون استخدام الصغار في عمل مأجور ويعاقب عليه”.

(6) راجع في تأسيس حق العمل وممارسته بما يؤدي إليه من تحقيق التنمية وما يرتبط بعدم ممارسته من ارتفاع مستوى البطالة، المادة 6 من العهد الدولي “تعترف الدول الأطراف في هذا العهد بالحق في العمل….والأخذ بسياسات من شأنها تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية…”، وما يرتبط به من شروط عادلة للعمل والأجر المادة 7 “لكل شخص الحق في التمتع بشروط عمل عادلة ومرضية تكفل…عيشًا كريمًا لهم ولأسرهم”، وما يرتبط به من حق تكوين النقابات وحق الإضراب المادة 8 “تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة ما يلي: حق كل شخص في تكوين النقابات، وحق الإضراب….”.

(7) راجع في تأسيس حق الضمان الاجتماعي قانونيًّا، المادة 9 من العهد الدولي “تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في الضمان الاجتماعي بما في ذلك التأمينات الاجتماعية….”.

(8) راجع في تأسيس حق توافر المستون المعيشي بما يضمن الغذاء والكساء والمأوى، المادة 11 من العهد الدولي للحقوق “تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل شخص في مستوى معيشي كاف له ولأسرته يوفر لهم ما يفي بحاجتهم من الغذاء والكساء والمأوى……تأمين توزيع الموارد الغذائية العالمية توزيعًا عادلًا…”.

(9) راجع في تأسيس الحق في الصحة وكيفية حمايته، المادة 12 من العهد الدولي “تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه…”، وتركز المواد 13-15 على الحقوق الخاصة بالتعليم وبناء الشخصية.

(10) راجع مجموعة تقارير التنمية البشرية التي تصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبالذات عن الأعوام السبعة الأخيرة أي منذ 2010-2017؛ حيث تحفل هذه التقارير بكل البيانات الخاصة بالأزمات الناتجة عن عدم ممارسة هذه الحقوق في بلدان المنطقة العربية:

Human Development Reports – UNDP – 2010- 2017

وكذلك راجع مؤشرات التنمية البشرية والتي تشمل جميع دول العالم 186 دولة حيث يرصد أعلى وأدنى خمس دول في هذا الصدد. والمؤشر والمعلومات متاحة في الموقع الرسمي للمنظمة الدولية وبكل اللغات الحية بما فيها اللغة العربية.

(11) أحمد، فاروق يوسف، دراسات في الثورة والتغيير الاجتماعي، (مكتبة عين شمس، القاهرة، 1980)، ص 128- 132.

وكذلك راجع: البنداري، خالد، العدالة الاجتماعية والتنمية في ظل الثورات المصرية، (القاهرة، 2016).

(12) Gasiorowski, Mark J. The American Political Science Review, Vol 89. No.4 Dec1995 pp882-897

(13) راجع الملف البحثي حول: أزمة النظام الرسمي العربي، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2009.

حيث السؤال الذي طُرح في هذا الملف كان حول أزمة النظام الرسمي العربي ومستقبله (قبل اندلاع ثورات الربيع العربي)، وشارك فيه باحثون كبار وعلماء أساتذة، منهم: د. سليم الحص، د. سلطان أبو على، د. كلوفيس مقصود، وغيرهم. وكان لصاحب هذه الدراسة ورقة افتتاحية في هذا الملف عن مفهوم النظام الرسمي العربي وأزمته البنيوية وأشرت إلى أن تداعي النظام الإقليمي الرسمي العربي وانهياره سيناريو راجح وقادم وأن صور التغيير الثوري مطروحة، وأشرت أيضًا إلى أنه قد يحاول النظام الرسمي العربي إفشال أية محاولة تغيير أو إصلاح في وحداته الأساسية (الدول)، أو في أنماط العلاقات بينها، راجع:

قويسي، حامد عبد الماجد، مفهوم النظام الرسمي العربي، رؤية نقدية تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات، 1 أبريل/نيسان 2009.

(14) راجع حول المشاريع المتصارعة في المنطقة العربية، بركات، نظام (محرر) مشاريع التغيير في المنطقة العربية ومستقبلها، (مركز دراسات الشرق الأوسط، عمَّان، 2010).

وفي هذا الإطار، راجع تقريرًا حول “صفقة القرن”، محمود، أمين، “صفقة القرن… هكذا يرى ترامب حل القضية الفلسطينية”، الجزيرة نت، 4 فبراير/شباط 2018.

(15) Geerling, Liliane, Scenario Planning , HZ University of applied sciences , Vlissingen, Netherlands, September ,24 , 2013

وكذلك: العيسوي، إبراهيم، الدراسات المستقبلية ومشروع 2000، القاهرة، منتدى العالم الثالث، سبتمبر/أيلول 2000.

(16) لرصد موجة الصعود الشعبوي واليميني في الغرب، راجع هذه الدراسة المركزة المترجمة حول: “التيار اليميني في الغرب..الصعود والتأثير”، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، 2017.
المصدر/ الجزيرة للدراسات

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب