إعداد/ يونس بلفلاح
يسبر هذا التقرير أغوار كيفية قياس أصوات الفرنسيين من أصول عربية مفسِّرًا معضلة الصوت العربي في فرنسا مع تبيين وتحليل توجهاته السياسية ومنهجيته في المشاركة الديمقراطية، ويسلِّط الضو ء على برامج المرشحين لهذه الانتخابات ومدى توافقها مع انتظارات هذه الفئة الوازنة في الشعب الفرنسي.
مرشحو انتخابات الرئاسة الفرنسية من اليمين: بنوا هامون، ومارين لوبان، وجان لوك ميلونشون، وإيمانويل ماكرون، وفرانسوا فيون، في نقاش تليفزيوني يوم 20 مارس/آذار 2017 (رويترز)
ملخص
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية بفرنسا في مايو/أيار 2017، يكثر الحديث عن أهمية ومكانة الأقليات ذات الأصول المهاجرة وخاصة المغاربيين بل والعرب عمومًا في فرنسا باعتبارهم أكثر الإثنيات حضورًا عدديًّا بفرنسا. ويتزايد التساؤل عند كل موعد انتخابي عن مدى قوة هذه الكتلة الانتخابية وتوجهاتها السياسية وعن دعمها وتفضيلها لمرشح على آخر، كما يكثر الحديث عن انتظارات هذه الفئة المهاجرة ومطالبها المرجوة من التغييرات السياسية في ظل مناخ عالمي استثنائي يطبعه تصاعد القوى اليمينية والشعبوية مع وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن التغييرات المهمة التي من المرجح أن تطرأ على أوروبا بسبب تزامن الانتخابات الفرنسية مع مواعيد انتخابية أخرى بهولندا، والنمسا، وألمانيا. علاوة على ذلك، تمر فرنسا من ظرفية دقيقة يُطرح فيها العديد من الإشكاليات الهيكلية العميقة والتي تخص قضايا الأمن، والإرهاب، والتطرف، والهجرة، والإسلام، والإصلاح الاقتصادي وارتباطه بمجموعة من الاختلالات الاجتماعية كارتفاع معدلات الفقر والتهميش، ناهيك عن البطالة وغلاء الأسعار.
مقدمة
أصبح الناخبون الفرنسيون ذوو الأصول العربية محطَّ أنظار الساحة الإعلامية والسياسية بفرنسا خلال الانتخابات التي ستجرى في مايو/أيار 2017؛ ففي الانتخابات الرئاسية سنة 2012، لعبت هذه الفئة دورًا حاسمًا في هزيمة الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، أمام الرئيس الحالي، فرانسوا هولاند. لم يخسر ساركوزي، إلا بفارق ضئيل أمام منافسه هولاند، بنسبة لم تتجاوز حينها 3.28 نقطة مئوية، أو ما يعادل أقل من مليون و140 ألف صوت؛ مما جعل الأنظار تتجه إلى الناخبين من أصول عربية كصانعة للفارق الانتخابي. وفي هذا السياق، يكثر التساؤل عن قياس أصوات ذوي الأصول العربية، وتوجهاتها السياسية وكذلك التيارات التي تستفيد منها ومدى قدرتها على ترجيح كفة مرشح على آخر بالانتخابات الرئاسية لسنة 2017.
إشكالية قياس أصوات ذوي الأصول العربية في فرنسا
تتباين الإحصائيات عن عدد ذوي الأصول العربية والمسلمة في فرنسا؛ فبين التهويل والتهوين لأغراض سياسية تتجاذب الأطراف السياسية في فرنسا عدد ذوي الأصول العربية والمسلمة، ويحظر القانون الفرنسي، الذي صودق عليه سنة 1872، والذي جرى تعديله يوم 6 يناير/كانون الثاني 1978، “جمع أو معالجة معطيات ذات طابع شخصي، تُظهر، بشكل مباشر أو غير مباشر، الآراء السياسية والفلسفية والدينية” باستثناء بعض المؤسسات العمومية، وبشروط بالغة الصعوبة. وبذلك فأي إحصاء على أساس، ديني، أو إثني، أو عِرقي، محظور بفرنسا مخافة التمييز بين المواطنين؛ الأمر الذي يجعل الصوت العربي والمسلم محطَّ تضارب بالأرقام، فالتقديرات الرسمية تشير إلى ما يقارب 5 ملايين نسمة، بينما يقفر هذا الرقم إلى 7 ملايين نسمة حسب التقديرات الديمغرافية للمركز الوطني للإحصاء، وهو ما يوازي 10.5% من إجمالي السكان.
وفي الواقع، نحن أمام أرقام متناقضة، والفرق بينها صارخ أحيانًا؛ ففي سنة 1998، صرَّح عمدة مسجد باريس الكبير، دليل بوبكور، بأن المسلمين يمثِّلون 10 في المئة من سكان فرنسا. وعام 2007، كتبت المجلة الفرنسية “عالم الديانات”، أن عددهم 2.46 مليون نسمة. وعام 2008 أكدت دراسة للباحثة الديمغرافية، ميشيل تربيالات، أن عدد مسلمي فرنسا هو 4.2 ملايين نسمة(1). وعام 2010، كشف مركز “بيو” الأميركي للدراسات عن رقم 4.7 ملايين نسمة، فيما تحدثت وزارة الداخلية والديانات، في العام نفسه، عن ما بين 5 ملايين و6 ملايين مسلم. كذلك، دخل حزب الجبهة الوطنية المتطرف، عام 2010 على الخط، فتحدث في نشراته عن 8 ملايين مسلم. أما موقع “مقاومة جمهورية” اليميني فكتب، يوم 12 أغسطس/آب 2016، أن ثلث الفرنسيين مسلمون، أي أكثر من 20 مليون شخص. وكان الزعيم اليميني جان ماري لوبان قد تحدث عام 2014 عن ما بين 15 و20 مليون مسلم في فرنسا. وهو ما ذهب إليه أيضًا، في السنة نفسها، عالم الاجتماع والوزير السابق المكلف بتساوي الحظوظ، العربي الأصل، عزوز بقاق، حين قال: “عام 2011، كان في فرنسا ما بين 15 و20 مليون مسلم”. لكنَّ معهد “مونتين”، الأقرب إلى الموضوعية، تحدث في تقرير له، سنة 2016، عن ما بين 3 ملايين و4 ملايين مسلم في فرنسا(2). وإذا كان رقم خمسة أو ستة ملايين هو الأقرب إلى الواقع باعتباره الأكثر استحضارًا من طرف الجهات الرسمية، فإن التيارات اليمينية المتطرفة في فرنسا تضخِّم هذا الرقم وتستخدمه كفزَّاعة لترويع المواطنين من خلال عبارات: الاحتلال الإسلامي، الخلافة في فرنسا، أَسْلَمَة فرنسا، التوغل الإرهابي. ويقود هذا التوجه مجموعة من المفكرين وقادة الرأي الإعلامي؛ حيث نظر الكاتب رونو كامو لمفهوم “الاستبدال الكبير” الذي يكمن في أن تزايد عدد المسلمين سيجعل، في بضعة عقود، السكان الفرنسيين أقلية في بلدهم وسط أغلبية مسلمة(3). ويدعم هذا الصحفيُّ، إيريك زمور، في كتابه “الانتحار الفرنسي”؛ حيث أعرب عن أمله في ترحيل نحو 5 ملايين مسلم من فرنسا مبرِّرًا ذلك برفض المسلمين العيش “على الطريقة الفرنسية”، وبسبب “عيشهم في الضواحي، أُرغم الفرنسيون على مغادرة هذه المناطق”، ويضيف أن الوضعية الحالية بفرنسا هي “وضعية شعب داخل شعب…مسلمون داخل الشعب الفرنسي، ستقودنا إلى الفوضى والحرب الأهلية”(4). كما اعتبر الفيلسوف الفرنسي اليميني، آلان فينكلكروت، أن “هناك مشكل إسلام في فرنسا”، في كتابه “الهوية الشقية” الذي يربط فيه بين ذوبان الهوية الفرنسية والمسلمين المتكاثرين و”الخطرين على الجمهورية”(5).
وعلى الجانب الآخر، يقدِّم مجموعة من المفكرين والكتَّاب آراء مغايرة دون أدنى تهويل؛ حيث وصف المفكر والخبير الديمغرافي إيمانويل تود في كتابه: “من هو شارلي؟” المسلمين بأنهم أكثر الأقليات اندماجًا في فرنسا وأنهم لم يعودوا سجناء جماعتهم(6)، كما يقدِّم الكاتب والصحفي، إيدوي بلينال، في كتابه “لأجل المسلمين…رسالة إلى فرنسا” رؤية مغايرة؛ إذ يشير إلى أن الإسلاموفوبيا في فرنسا تخضع للتوظيف السياسي حيث يتم استثمارها لأغراض انتخابية في محاولة لاستقطاب أصوات ناخبين وقعوا ضحية تخويف ممنهج وتجييش إعلامي يجعل من المسلمين في فرنسا عدوًّا لهوية البلد وطابورًا خامسًا تكثر المطالبات بمحاربته(7).
يرى الكاتب أن المواقف المعادية للمسلمين تتداخل فيها عدة عوامل وتتقاسمها أطياف سياسية مختلفة، تتجلى هذه العوامل في مقولات قديمة/جديدة، مثل: تفوق الحضارة الأوروبية، عدم تساوي الحضارات، حرب وصدام الحضارات، الإرث الإيديولوجي الاستعماري، الهجرة، الإسلام… ويزيد على ذلك بأن اعتبار الإسلام كتهديد يسمح بشرعنة إقصاء المسلمين الذين اختُزلوا في الإسلام، فيما اختُزل هذا الأخير في الإرهاب والتطرف. وبناء على ما تقدَّم، يؤكد الكاتب أن الخلط بين جماعة بأكملها، من أصل أو ثقافة أو عقيدة مسلمة، وتعميم بعض التصرفات الفردية المحدودة على الجميع يعد ظلمًا في حقها، وأن السكوت عن هذا يعني تعوُّدَ الضمائر على الإقصاء وشرعنة التمييز(8).
وفي سياق متصل، توصف الكتلة الانتخابية المغاربية والعربية عامة بأنها غير منسجمة من حيث التوجه السياسي وضعيفة التكوين الديمقراطي؛ الأمر الذي يجعل أصواتها مشتتة باستثناء تعبئتها واتحادها في مواجهة اليمين المتطرف، كما حدث في الانتخابات الرئاسية لسنة 2002؛ عندما فاز جاك شيراك بأغلبية ساحقة بنسبة 82.21 مقابل 17.79 لجان ماري لوبان كردة فعل سياسية انفعالية لقطع الطريق أمام اليمين المتطرف.
وعلى هذا النحو، يغازل اليسار الفرنسي ذوي الأصول العربية بل والمسلمة عمومًا من خلال خطاب معتدل قادر على احتواء مطالبهم وتفهم مشاعرهم وانتمائهم الديني؛ حيث يشير فرانسوا بورغات، الخبير في الشؤون الإسلامية ومدير أبحاث في المعهد الوطني للبحث العلمي بفرنسا، إلى أن اليسار وعلى رأسهم الاشتراكيون لديهم سياسة قريبة من ذوي الأصول العربية تقدِّر اختلافهم وتقدِّم لهم مشروعًا مجتمعيًّا يجدون أنفسهم فيه(9).
وإجمالًا، يمكن القول: إنه لا يوجد اليوم صوت إسلامي في فرنسا، بمعنى توحد المسلمين على التصويت لمشروع سياسي واحد بشكل ممنهج، فالممارسة الانتخابية لمسلمي فرنسا من ذوي الأصول العربية قائمة على وضعيتهم الاجتماعية؛ حيث نجد أن الفقراء والمعوزين منهم يصوِّتون لليسار اقتناعًا منهم بأنه يسعى لتذويب الفروق الاجتماعية ومواجهة توحش الأموال بينما يصوِّت أغنياؤهم وأُطرهم العليا لليمين؛ لأنه يُقدِّم رؤية اقتصادية ليبرالية ويخفض من التكاليف الضريبية التي تثقل كاهلهم.
ولابد من الإشارة إلى الحاجة البالغة للإحصاءات الإثنية؛ فالعديد من الباحثين وفعاليات المجتمع المدني تطالب بضرورة إجراء إحصاءات على أساس إثني، من بينهم جان-بول غوريفيتش الكاتب والمستشار الدولي في شؤون الهجرة وكذلك الباحثان فابيان جوبارد وروني ليفي، من “المركز الوطني للعلوم الاجتماعية”؛ لأن العديد من الدول تسمح بمثل هذه الإحصاءات، وفرنسا استثناء في الأمر، وكذلك من أجل معرفة دقيقة بالسكان ومكافحة التمييز والعنصرية التي تمارَس على ذوي الأصول الأجنبية(10).
المشاركة السياسية والتوجهات الانتخابية
تتسم المشاركة السياسية لذوي الأصول العربية في فرنسا بالعزوف عن الممارسة السياسية، فحسب بعض التقارير الرسمية، من بين ستة ملايين فرنسي من أصول عربية، 30 بالمئة فقط هم من ينتخبون، وعلى الرغم من المجهودات المبذولة من طرف المجتمع المدني والتي تقوم بالتحسيس والتوعية بأدوار المواطنين وأهمية مشاركتهم في الاختيار الديمقراطي وكذلك سعي الدولة الفرنسية لإشراكهم في المسار السياسي، فقد حرص القادة السياسيون في فرنسا في الأعوام الأخيرة على تعيين مسؤولين ووزراء من أصول مهاجرة منذ عهدة الرئيس الأسبق، جاك شيراك، مرورًا بفترة الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، ثم الرئيس الحالي، فرانسوا هولاند، لكن لا تزال مشاركة ذوي الأصول العربية ضعيفة.
ومما يلاحظ في هذا الشأن، أن هناك تباينًا كبيرًا في التوجهات الانتخابية من خلال الوضعية الاجتماعية وحتى السن، فجيل الشباب يميل نحو أحزاب اليسار والأحزاب المدافعة عن البيئة، بينما يميل جيل الوسط وأصحاب المراكز العليا إلى اليمين الجمهوري، في حين كان الجيل الأول من المهاجرين يصوِّت لمرشحٍ ما إما لأنه زار مسجد الحي أو لأن له علاقات جيدة مع زعماء بلدانهم الأصلية، كما حدث سابقًا مع جاك شيراك. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن أن نغفل أن هناك فئة من ذوي الأصول العربية تصوِّت لليمين المتطرف إمَّا عقابًا لباقي القوى السياسية على ضعف برامجها وفشلها في تدبير شؤون الدولة، أو اقتناعًا باليمين المتطرف للحدِّ من الهجرة والتطرف خاصة أن هذه الفئة تعتبر نفسها مندمجة بالمجتمع والحديث عن الهجرة يزعجها ويجعلها محطَّ نقاش إعلامي وسياسي فرنسي.
وجدير بالذكر، أنه لا يمكن الفصل بين مطالب ذوي الأصول العربية، عمومًا، والمغاربية، خصوصًا، عن باقي الفرنسيين؛ فقضايا التشغيل، والسكن، والصحة، والتعليم، والرفع من الأجور كلها أولويات تنتظر رئيس فرنسا القادم، بينما نجد أن اليمين المتطرف وبعض دوائر اليمين الجمهوري، يلجأ في كل استحقاق انتخابي إلى إقحام مواضيع الإسلاموفوبيا والإرهاب والهوية والوطنية والاندماج، وهو ما ورد مؤخرًا في البرنامج الانتخابي للمترشِّحة اليمينية المتطرفة مارين لوبان، والذي يدفع، أحيانًا، مرشحي اليمين الجمهوري للتماهي معه، وهو ما فعله المرشح، فرانسوا فيون، حين صرَّح قبل أشهر: “لا أريد أن أتحدث عن مكافحة انزواء بعض الجماعات، حتى لا أُسمي المشكلةَ التي توجَد لنا مع الإسلام. الكاثوليكيون والبروتستانتيون واليهود والبوذيون والسيخ لا يهددون الوحدة الوطنية”. وبذلك فمسألة الإسلاموفوبيا والإرهاب تغطيان غياب عرض سياسي مقنع له رؤية واسعة وشاملة لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ومن المفيد أن نلقي نظرة على برامج المرشحين وكيفية تعاطيهم مع أصوات ذوي الأصول العربية(11).
ترغيب وترهيب ذوي الأصول العربية في برامج المرشحين
عند دراسة البرامج الانتخابية المقدمة من المرشحين، نجد سيطرة الهاجس الأمني والاقتصادي على المرشحين؛ ففي اليمين، حيث نجح فرانسوا فيون في تجاوز الانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين مقدِّمًا برنامجًا ليبراليًّا حادًّا، يسعى إلى إصلاح المالية العامة؛ فمعدل المديونية يتجاوز 57% من الناتج الداخلي الخام، من خلال تقليص الوظائف بالقطاع العام، بإلغاء خمسمئة ألف وظيفة في السنوات الخمس القادمة، كما وعد بتخفيض معدل البطالة إلى 5%، أي إلى نصف ما هي عليه حاليًّا، خصوصًا عند الشباب، فنسبة البطالة عند الشباب الفرنسي جدُّ مرتفعة، وتضاعف نسبة البطالة عند الفئة ذاتها في ألمانيا.
تمثِّل التنافسية إشكالية اقتصادية كبيرة في فرنسا، وكان فيون قد خصَّص حصة كبيرة من برنامجه الانتخابي لقطاع الأعمال، عبر تعديل ساعات العمل وزيادة ساعات العمل الأسبوعية من 35 إلى 39، مع جعل قوانين العمل أكثر مرونة، ثم تمويل وتشجيع إنشاء المقاولات وتخفيض معدلات الضريبة على الشركات. ويُنظر إلى فيون على أنه يعادي مسلمي فرنسا بسبب تصريحاته التي طالما لم تفرِّق بين الإسلام والإرهاب مع وصفه لأحياء ذوي الأصول العربية بأقطاب التطرف(12).
وفي أقصى اليمين، تحقق مرشحة حزب الجبهة الوطنية، مارين لوبان، قفزات كبيرة مستندة على خطاب معادٍ للهجرة وللفرنسيين ذوي الأصول العربية، واعدة بمحاربة مظاهر التدين وذلك بتشديد الممارسات الأمنية، وتقييد عمل المهاجرين عبر زيادة الضرائب على المؤسسات الفرنسية التي توظِّف أجانب، وتعد بزيادة ساعات العمل وتوطين قطاعات اقتصادية عديدة تهتم بالتصنيع، واعدة بتقديم محفزاتٍ، والرفع من تعويضات المتقاعدين الذين طالما شكَّلوا كتلة انتخابية لحزب الجبهة الوطنية. وفي خطاب شعبوي، تعد مارين لوبان بتنظيم استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي، شبيه بالبريكست البريطاني، وبمراجعة اتفاقيات التبادل الحر مع دول عديدة. وحسب العديد من المتتبعين فإنه من الممكن أن تحظى مارين لوبان بنسبة تأييد لا بأس بها من الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين، الذي يعتبر نفسه فرنسيًّا ويائسًا من تناوب اليسار واليمين وفشلهما في حل المشاكل البنيوية للبلد.
ويواجه مرشحا اليمين، فيون ولوبان، اتهامات بالفساد المالي، ففيون متهم بتوظيف زوجته وأبنائه خلال فترة توليه الوزارة الأولى في فرنسا وإعطائهم تعويضاتٍ وهمية، كما تجد مارين لوبان نفسها متهمة بإعطاء تعويضاتٍ كبيرة لمساعدتها، وتوظيف حارسها الشخصي باعتبارها نائبًا في البرلمان الأوروبي، ناهيك عن اتهامها بالحصول على تمويل روسي لحملتها الانتخابية.
وعلى الجانب الآخر، نجح بنوا هامون، وزير التعليم المستقيل من حكومة هولاند الأولى، ومن أشد معارضيه في الحزب الاشتراكي، في تجاوز الانتخابات التمهيدية للحزب، مقدِّمًا برنامجًا يوصف بالحالم، والبعيد عن الواقع، من خلال تقليص ساعات العمل الأسبوعية إلى 32 ساعة، وواعدًا بإعطاء دخل شامل لكل الفرنسيين، كيفما كانت وضعياتهم، من أجل حياة كريمة، كما يعد بتدعيم البنية التحتية والإيكولوجية لفرنسا. ويختلف كثيرًا عن مجموعة من السياسيين الفرنسيين في مسألة العلمانية؛ حيث عارض قانون منع الحجاب في المدارس، سنة 2004، ومشروع قانون إسقاط الجنسية عن الفرنسيين، مرتكبي الجرائم الإرهابية من مزدوجي الجنسية سنة 2015، ويعتبر مدافعًا عن المهاجرين، وعن الفرنسيين من أصول عربية، ويعتبر من دعاة العلمانية المؤمنة والتي لا تتعارض مع وجود المظاهر الدينية والتدين في المجتمع.
وجدير بالذكر أن هناك تقاربًا كبيرًا بين برنامجي هامون وجون لوك ميلونشون، المنشق عن الحزب الاشتراكي سنة 2008، والذي ينسج علاقات كبيرة مع المجتمع المدني الفرنسي في قضايا الاندماج، الهجرة والتدين في فرنسا، كما يُقدِّم أطروحة متكاملة لتخفيض معدلات الفقر وغلاء الأسعار.
وتشكِّل الانتخابات الرئاسية في فرنسا، لسنة 2017، استثناءً، بوجود مرشح شاب، له مسار مختلف، يتعلق الأمر بإيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد السابق ومستشار الرئيس هولاند سابقًا، فالرجل ذو الخلفية الاقتصادية والتجربة المهنية في عالم المال والأعمال يُقدِّم رؤية مخالفة لما هو موجود في فرنسا؛ حيث يُقدِّم نموذجًا اقتصاديًّا، يعتمد على الليبرالية الاجتماعية، شبيه بحالة الدول الإسكندنافية، مشدِّدًا على ضرورة الانفتاح وتشجيع القطاع الخاص وريادة الأعمال، مع الحفاظ على الحماية الاجتماعية، فالرجل صاحب 38 سنة يصوغ نموذجًا لمرشح شاب بتاريخ يساري، لكن بأفكار منفتحة على الرأسمالية، مدعِّمًا أطروحته بأن الاستثمار هو السبيل لإيجاد فرص عمل مع ضرورة إصلاح الأجور؛ حيث يقترح تخفيض الفرق بين الدخلين، الخام والصافي، من خلال تقليص التكاليف الاجتماعية، كما يعد بمرونةٍ في نظام التقاعد، وتخفيض الضريبة على الشركات من 35% إلى 15%؛ الأمر الذي يمكن من خلاله تخفيض البطالة إلى 7% سنة 2022، وإمكانية توفير 60 مليار يورو لإصلاح المالية العامة، مع تخفيض تحفيزات العاطلين عن العمل، والاهتمام بالطبقة الوسطى.
ويعتبر هذا البرنامج أكثر قربًا للواقعية، كما تعتبر مواقف هذا المرشح معتدلةً في مسألة العلمانية والهجرة والهوية، كما أن ماكرون يحظى بدعم مجتمع المال والأعمال، كما يحظى بدعم كبير من طرف الشباب ويرى فيه أبناء المهاجرين نموذجًا للشاب الطموح القادر على تحقيق إنجازات مهنية كبيرة كما أن رؤيته للهجرة والإسلام مختلفة؛ إذ يُقِرُّ بأخطاء الحكومات الفرنسية المتعاقبة في مسألة الاندماج معتبرًا الهوية الفرنسية مصبًّا لروافد ثقافية متعددة من بينها الرافد العربي، والإفريقي، والإسلامي. وخلال حملته الانتخابية، قام بزيارة للجزائر باعتبارها مستعمرة سابقة لفرنسا ولها حمولة وذاكرة تاريخية مع هذا البلد كما أن الجالية الجزائرية هي الأكثر في فرنسا، وخلال هذه الزيارة وصف الاستعمار الفرنسي للجزائر، الذي امتد منذ سنة 1830 إلى 1962، بـ”الجريمة ضد الإنسانية” وبأن الاعتذار عن الاستعمار الفرنسي للجزائر سيسهم في المزيد من الاندماج ومحاربة التطرف.
خاتمة
تبقى الإجابة عمَّن سيحصد أصوات ذوي الأصول العربية مبهمة في ظل مظاهر عزوف انتخابي خاصة عند الجيل الثاني والثالث، وربما توجَّهَ هذا الجيل نحو اختيارات راديكالية في انتخابات تشهد تقلبات سياسية استثنائية؛ حيث إن العروض السياسية الفرنسية متواضعة، ولا تحظى بالرضا الكامل للمصوِّتين؛ فالظروف الداخلية والخارجية تستلزم تغييرات جذرية وثورة نوعية على الممارسات الماضية؛ إذ يتحدث مثقفون ومفكرون فرنسيون كثيرون عن ضرورة إقامة جمهورية سادسة، بعقد اجتماعي جديد ووثيقة دستورية مغايرة، تأخذ بالاعتبار التحديات السياسية، والأمنية، والخارجية، والاقتصادية، والاجتماعية، في ظل ضبابية المشهد العالمي، وفي ظل غياب قيادة واضحة، ومع تصاعد قوى اقتصادية وسياسية، كروسيا والصين، والتساؤل عن جدوى التكتلات الاقتصادية، كمشروع الاتحاد الأوروبي الذي اعتُبر مشروع القرن خلال بداية الألفية الثالثة.
تظل الاختيارات صعبةً؛ فالمصوِّتون الفرنسيون، وكما حصل في انتخابات عديدة منذ بداية القرن الحالي، يقومون بتصويت عقابي في بعض الأحيان، وهو تصويت يجبر الفرنسيين على اختيار المرشح الأقل خطرًا والأخف ضررًا في مواجهة اليمين المتطرف، لكن التنافس في انتخابات مايو/أيار 2017، جدُّ حادٍّ، باعتباره مصيريًّا في تاريخ فرنسا، وحتى إجرائها، تبقى كل الاحتمالات واردة.
ولا شك في أن مكانة الفرنسيين ذوي الأصول العربية جد مهمة داخل اللعبة السياسية الفرنسية لكن عدم توحدهم وراء تيار معين وتجمُّعهم في مجموعة ضغط أو لوبي مشترك يجعل منهم قوة مشتتة وتأثيرًا غير قابل للقياس؛ الأمر الذي يعسِّر الإنصات لمطالبهم وتلبيتها من طرف السياسيين الفرنسيين.
______________________________
يونس بلفلاح، كاتب وأكاديمي مغربي مقيم بفرنسا
مراجع
1 – Tribalat, Michèle, Statistiques ethniques, une polémique bien française, (L’artilleur, 2016).
2 – El Karoui, Hakim, “Pourquoi conduire un travail sur l’islam?”, Institut Montaigne, (visité le 2 avril 2017):
http://www.institutmontaigne.org/fr/publications/un-islam-francais-est-possible
3 – Camus, Renaud, Le grand remplacement, (Troisième Edition Revue, Blurb, 2017).
4 – Zemmour, Éric, Le suicide français, Albin Michel, (2014).
5 – Alain, Finkielkraut, L’identité malheureuse, (Paris, Stock, 2013).
6- Todd, Emmanuel, Qui est Charlie? Sociologie d’une crise religieuse, (Le Seuil , 2015).
7 – Plenel, Edwy, Pour les musulmans, (La Découverte, 2016).
8 – انظر: بلفلاح، يونس، عرض كتاب “لأجل المسلمين.. رسالة إلى فرنسا”، الكاتب إيدوي بلينال، الجزيرة نت، (تاريخ الدخول: في 30 مارس/آذار 2017):
https://goo.gl/B8eTc1
9 – Burgat, François, Comprendre l’islam politique, Une trajectoire de recherche sur l’altérité islamiste, 1973-2016, (La Découverte, 2016).
10 – Lévy, R., & Jobard, F. Les contrôles d’identité à Paris. Questions pénales, 23(1), 1-4, (2010).
11 – المزديوي، محمد، “الانتخابات الفرنسية… لمن سيصوِّت العرب والمسلمون؟”، العربي الجديد، بتاريخ 21 فبراير/شباط 2017، (تاريخ الدخول: في 29 مارس/آذار 2017):
https://goo.gl/oGdiHS
12 – بلفلاح، يونس، “الطريق إلى الإليزيه… مفترق الاختيارات الصعبة”، العربي الجديد، بتاريخ 7 مارس/آذار 2017، (تاريخ الدخول: في 28 مارس/آذار 2017):
https://goo.gl/wvVr3N
المصدر/ الجزيرة للدراسات