خاص : بقلم – د. محمد دوير :
الحداثة كإيديولوجيا، تعمل وفق خط إنتاج – كأي مصنع كلاسيكي – وتهدف إلى إنتاج ثلاث سّلع أساسية وهي: نقل الفرد من:
1 – حالته الدينية إلى حالته المدنية؛ أي من الولاء لمقولات رجال الدين إلى الولاء لنظريات العلماء،
2 – ومن حالته البشرية إلى حالته الإنسانية؛ أي من فكرة الرعية إلى مفهوم العقد الاجتماعي،
3 – ومن حالته الذاتية – حروب الهوية والوجود والبحث عن الطعام – إلى حالته الاجتماعية والتعاونية، وكانت المدينة والمصنع وسيلته لذلك.
تلك التحولات خلقت نوعًا متماسكًا من الإيديولوجيا عبر أبعاده الثلاثة تلك.
بيد أن نقطة الارتكاز لهذا المثلث لم تكن سوى الملكية الخاصة، التي جرى على طاولتها رسم خريطة الإنسان الحديث، وبناء مفاهيمه وتصوراته عن نفسه وعن الحياة بوجهٍ عام. وبهذا المعنى يمكن القول بأن التحول من إنسان العصور الوسطى إلى الإنسان الحديث لم يكن جذريًا رغم كل هذه التحولات المهمة، إذ كان العمود الفقري للمجتمعات – وهو الملكية الخاصة – هو السّمة الغالبة بين النمطين، وإن اختلفت صورها بالطبع.
إذاً؛ لم يكن الهرم الاجتماعي في القرون الخمسة الأخيرة (ما يُسمّى بعصر الحداثة)، بقادر على أن يتنازل عن هيراركيته تلك، مما يعني أن الإيديولوجيا كانت محصنة بمنطق الملكية الخاصة الذي لا يمكن، بل ولا يجب، تجاوزه، هذا المنطق هو ما تبقى لهؤلاء المنظرين من البراهين التي قدموها في الطبيعة البشرية، حيث أصبحت كافة المقولات كالعدالة والمسّاواة والخير والحسّ السّليم.. الخ؛ كلها ملحقات لذلك المنطق الذي تأسسّت عليه أعمدة الإيديولوجيا الحداثية.
وكل حديث عن إنجازات الحداثة يُنظر إليها غالبًا – بفعل تأثير الإيديولوجيا – بوصفها إنجاز بشري يجب الاحتفاء به، حتى لو كان مضمونه هو ترسّخ العلاقات الرأسية في الاجتماع البشري. وعلى سبيل المثال اتخذت العلمانية كإيديولوجيا موجزة أو نهائية لمشروع الحداثة طابع تلك الملكية الخاصة، بمقولة فصل الدين عن الدولة التي راجت كتعريف للعلمانية، وهي في حقيقتها لم تكن سوى الشكل لجوهر مكون من سلسلة عمليات فصل.. بين العامل وقوة عمله، الدولة والمجتمع المدني، المدينة والريف، العالمين المتحضر والمتخلف، المتقدم والرجعي، السادة والعبيد… الخ، فالعلمانية بهذا التوجه إنما هي إنتاج إيديولوجيا الحداثة، وليست إنتاجًا بشريًا بالمعنى العام الذي يمكن أن نأخذ عليه مفهوم علمانية، فيما نرى أن المفهوم ينبغي أن يقضي على كافة صور الظلامية في التفسيرات سواء اجتماعية أو سياسية.
لقد بدت لنا علمانية الحداثة بوصفها علمانية أخلاقية لم تنشغل سوى بالصورة الخارجية للعلاقات الإنسانية، وذلك حينما استبدلت القانون المدني بالقانون الإلهي، في حين أن القانون المدني هذا لم ينحرف عن القانون الإلهي سوى بمقادير متواضعة. والناظر في القانون الروماني مثلاً سيجده أحد المؤسسين للقانون الإلهي في تخارجه البشري.
إن الإصلاح الديني والتنوير والعلمانية والتقدم والحريات بكافة صنوفها – كما تطرحها الحداثة – ليست في مضمونها سوى تصور البرجوازية الأوروبية عن نفسها وعن الوجود والحياة والكون والمجتمعات.. وهو – شئنا أم أبينا – تصور إيديولوجي بإمتياز.. ورغم إيديولوجيته تلك لا يجب رفضه أو قبوله.. بقدر ما ينبغي علينا فقط أن نُدرك تلك الحقيقة ونحن ندرس تجربة الغرب الحداثي أو ما بعد الحداثي.
من كتاب (أكذوبة نهاية الإيديولوجيا) لكاتب السطور.. سوف يصدر كاملاً قريبًا.