24 نوفمبر، 2024 6:37 م
Search
Close this search box.

حين تتواطأ الأم في الجريمة .. في الرواية البريطانية “لا تخبري ماما”

حين تتواطأ الأم في الجريمة .. في الرواية البريطانية “لا تخبري ماما”

قراءة – سماح عادل :

تمثل رواية “لا تخبري ماما” للكاتبة البريطانية من أصل أيرلندي “توني ماغواير”، ترجمة محمد التهامي العماري، طبعة أولى 2016، إصدار المركز الثقافي العربي، المغرب.. تجربة فريدة.. فهي بمثابة شهادة حية لإحدى الضحايا، تكتبها بنفسها.

فتاة تعرضت للاغتصاب على يد والدها، منذ عمر السادسة، وحتى الرابعة عشرة، ثماني سنوات متواصلة تتعرض للانتهاك، في فترة الخمسينيات في بلدة والدها، إيرلندا الشمالية، أمها إنكليزية، تزوجت من جندي يصغرها بخمسة أعوام، وظلت معه طوال حياتها بسبب حب مرضي لم تستطع التخلص منه، رغم أن زوجها كان منحرف نفسياً.

توثيق الجرم الذاتي

تتميز الرواية بأنها محاولة لتوثيق الظلم الذي تعرضت له الكاتبة منذ طفولتها.. وفي رأيي أن هذه المحاولة لم تخلو من صعوبات، فقد استطاعت “توني ماغواير” أن تكتب تجربتها بعد حوالي خمسين عام من حدوث الجرم.. فقد صدرت الرواية 2008، لنا أن نتخيل كيف عاشت هذه الأعوام، وكيف استطاعت أن تتحرر من وحشية ما حدث لها وتمتلك جرأة الحكي عنه، وإعلان نفسها للكافة، وتعرية نفسها وعائلتها.

يبدأ السرد باحتضار والدتها، وعودة “توني” لها بعد فترة انقطاع طويلة، وأمها رغم آلالام السرطان وعذاباته، لم تعترف حتى في احتضارها بجرمها الشنيع، ظل يقلقها الشعور بالذنب، حتى أصابها بالأرق لكنها لم تطلب من ابنتها مسامحتها رغم ذلك، و”توني” التي دفنت الطفلة “انطوانيت” داخلها  كل تلك السنوات، فوجئت أثناء رعايتها لوالدتها ببعثها من جديد، تطل من ذكرياتها، لتذكرها بأشياء قاتلت لكي تنساها، تواطؤ أمها، ووحشية أبيها السكير وقسوته.

مراوغة الذاكرة

لا شئ مؤكد.. فتوني نفسها تراوغها الذاكرة، لا تعرف، إذا كانت أمها تواطأت أم لا، أو إذا كانت شريكة لأبيها في تدمير حياتها أم لا، تتذكر وفقط كيف أهملتها أمها، وتركتها فريسة في يد أبيها، انشغلت بالعمل لتشتري بيتاً، وتبقي على زوجها موجوداً وراضياً، تجاهلت اعترافات ابنتها أن أبوها يتحرش بها، وحين انكشف الأمر بحملها وهي في الرابعة عشرة، تخلت عنها تماماً، أرسلتها للإجهاض دون أن تحضر، وغابت عن محاكمة الوالد، أدانت صمتها كما فعل كل من في بلدتها، واعتبروها هي الجانية لا أبيها، وحينما سجن الوالد، تركت توني المدرسة واضطرت للعمل هي وأمها في مكان جديد، لم تواسيها أمها أو تدعمها، حتى لجأت إلى الانتحار ثم ألتحقت بمصحة نفسية، ثم شفيت وأصبحت تعمل لتعول أمها التي ظلت طوال حياتها تتلمس منها الأمان والدفء ولا تجده، لتكتشف أن أمها اختارت أن تعيش مع والدها بعد خروجه من السجن، وكأنه لم يفتك بها وبحياتها.

الراوي هي “توني ماغواير” التي صرحت باسمها داخل الرواية، فلم تلجأ إلى الإيهام أو انتحال شخصية بطل روائي، ربما إمعاناً في تقديم الظلم الذي تعرضت له، أو رغبة في الخلاص منه بلفظه أمام الجميع، حكاية واقعية تماماً لم تلجأ فيها للتخيل، ربما لأن الواقع هنا أكثر غرائبية من الخيال.

عاشت توني طوال حياتها بدون دعم، من أسرتها الصغيرة، أو عائلتها الكبيرة، حرمت من التعليم ومن الإنجاب بعد الإجهاض وهي صغيرة، لا نعلم من خلال الرواية كيف تجاوزت كل ذلك وأصبحت كاتبة، لكنها بالفعل محاربة لأنها استطاعت تغيير مصيرها، سامحت أمها ورعتها في احتضارها، وبقى الأب حياً ومنحرفاً كما هو، حتى أنه امتنع عن الحضور لتوديع زوجته وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة.

أرواح خربة

توني ماغواير

لم تنتهي الرواية بنهاية سعيدة، لأنه لا نهاية سعيدة في مثل تلك الحالات، المجتمع الطبقي الذكوري يفرز أمراضه، والتي تروح ضحيتها أكثر الفئات تهمشياً، المرأة، خاصة عندما تكون طفلة، ربما خربت الحرب روح أبوها، جعلته لا يعبأ بأي معاني إنسانية، لكنه غير معفي من الخطأ، وربما خرب الفقر والظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تضغط على امرأة في الخمسينات روح أمها، وجعلتها مهزومة هي أيضا تضحي بابنتها لكنها أيضاً مجرمة.

الرواية تقلق ذات قارئها لكنها تثير الكثير من التساؤلات داخله أيضاً، ترى كم فتاة تعرضت وتتعرض للانتهاك، ليس فقط على يد ذويها ولكن على يد آخرون، في ظل مجتمعات تدين الضحية، وتعلي من شأن الثقافة الذكورية، وتشير دوماً بأصابع الاتهام إلى المرأة، في حين تترك المجرمين المرضى أحرار فقط لكونهم ذكوراً، ورغم التقدم منذ الخمسينيات وحتى الآن إلا أن حالات الانتهاك نفسها لم تقل، وتركزت أكثر في المجتمعات الفقيرة.

قامت “NSPCC” وهي أكبر منظمة خيرية قومية في بريطانيا لرعاية وحماية الأطفال ضد العنف الجنسي أو الجسدي، بإجراء دراسة عام 2000 لمعرفة الأسباب التي تمنع الأطفال المعتدَى عليهم من التحدث بالأمر، وأوردوا ثمانية أسباب رئيسية، ثلاثة منهم عاشتها “توني ماغواير” وحكت عنها في روايتها، “الخوف، وتهديد والدها المستمر لها، الخوف من ألا يصدِّقها أحد”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة